يصعب أن تتذكر مونيكا ماورير ما يخلو من حضور فلسطين وأبنائها ومقاومتها. في رأس المخرجة الألمانية التي قدمت إلى لبنان في السبعينيات، مئات الصور التي تتنقّل بين ذاكرتها وبكرات أفلامها. لكن المدن اللبنانية تعبر في أفلامها على شكل مشاهد للوجود الفلسطيني فيها، الذي ساهمت في صنع صورته منذ السبعينيات حتى بداية الثمانينيات مع «وحدة أفلام فلسطين» التابعة لـ «منظمة التحرير الفلسطينية».
اللقاء معها «دار النمر» في بيروت قبل أيام، أفرج عن سنوات غائبة من النضال الفلسطيني في لبنان. لم تتوقف المخرجة الألمانية عن التعليق على المشاهد، كأنها لم تبتعد عنها يوماً. ذلك أن ماورير تعمل في إيطاليا حالياً على رقمنة أكثر من مئة ساعة مصوّرة بكاميرا 16 ملم كي «يراها الفلسطينيون الشبان اليوم» ضمن شريط جديد هو «تصوير الثورة»، شاهدنا إعلانه في اللقاء.
قدّمت ماورير شهادتها البصرية التوثيقية لمحطة أساسية من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي تتوقف عند تواريخ سياسية متقاطعة بين لبنان وفلسطين والعالم العربي. شاهدنا مقاطع ممنتجة من أفلامها «الحرب الخامسة»، و«أشبال»، و«أطفال فلسطين»، و«الهلال الأحمر الفلسطيني»، وأخرى من تلك التي تولّت إنتاجها أيضاً «منظمة التحرير الفلسطينية» كجزء من الإهتمام بصورتها الإعلامية. «لدينا أطباء كثر، ولكن ليس لدينا مخرجون»، قال لها أبو عمار يوماً عندما اجتازت شاشات العالم وجاءت إلى لبنان لترى الثورة الفلسطينية بنفسها. في السبعينيات، أرادت هذه الصحافية والمخرجة أن تنخرط مباشرة في الحركة السينمائية المقاومة التي أرستها «وحدة أفلام فلسطين»، بعدما التقت ببعض مخرجيها في أحد المهرجانات الدولية للسينما. جالت على المخيمات الفلسطينية في المناطق اللبنانية. وثّقت كاميرتها كل تلك الوجوه التي كانت يوماً جزءاً من حلم حقيقي. الثورة المسلحة العسكرية ضد العدو الإسرائيلي تظهر في أفلامها. لكن ذلك لا يتّخذ سوى مساحة ضئيلة مقابل التوجه التوثيقي للبنى التحتية والمؤسسات الصحية والثقافية والإجتماعية والرياضية والتعليمية التابعة لـ «منظمة التحرير» في المخيمات الفلسطينية في لبنان. إنها «فلسطين الحلم»، تقول ماورير. وليس في ذلك مبالغة، فعند مرور أحد مشاهد ضحايا القصف الإسرائيلي من اللبنانيين والفلسطينيين وهم يتلقون علاجاً مجانياً في مستشفيات «المنظمة»، حينها فقط تنبّهت واحدة من الحضور، إلى أن ما كنا نشاهده هو في لبنان لا في فلسطين.

مع اجتياح الـ 1982، تبخّر أرشيف هائل من شقة في الحمرا، كانت تحوي معظم الأفلام التي أنتجتها «وحدة أفلام فلسطين»

في موازاة الأحداث الإسرائيلية والضربات التي كانت تتعرّض لها المخيمات، كانت حياة أخرى تجري في لبنان لبناء مجتمع ديمقراطي علماني أملاً بنقله إلى فلسطين لدى العودة إليها. يشرك هذا المجتمع كل الفئات العمرية؛ النسبة الكبيرة للنساء العاملات في التمريض، والأطفال في بيت أطفال الصمود، وفي المخيمات الصيفية لأشبال «فتح»، والعمال في مصانع الأحذية والألبسة. الصورة كما نراها تبدو كما لو أنها مقتطعة من مجتمع إشتراكي في أولى مراحل بنائه. ولأن فلسطين مع مرور الوقت، صارت صورة هلامية، مشبعة بالنوستالجيا الضحلة، وبالتشويه الغربي الذي ألفته ولمسته ماورير جيّداً، فقد أرادت أن تشارك في صنع صورة تلك البلاد، بتاريخها وحاضرها ومستقبلها. إنها الصورة الضائعة التي تؤكّد أنّ الخسارات الفلسطينية ليست في النكبة والنكسة وحدهما. يصعب اعتبار أن ما نراه في أفلام ماورير هو توثيق يتخذ مسافة سينمائية أو غربية من الأحداث. الكاميرا هي الوجوه والبيوت والأيدي العاملة، والأعراس الفلسطينية، والخدمات المتقدّمة لمستشفيات عكا وحيفا وغيرهما في المخيمات الفلسطينية من طرابلس إلى صور، وجهود «الهلال الأحمر الفلسطيني» طبعاً.
هذه الفلسطين التي دمّرها الإجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، رافقها تدمير بصري. في تلك السنة، تبخّر أرشيف هائل من شقة في الحمرا، كانت تحوي معظم الأفلام التي أنتجتها «وحدة أفلام فلسطين». الجماعة السينمائية التي أطلقها المخرج مصطفى أبو علي من الأردن عام 1968، بدعم من «فتح»، رافقت أحداثاً مفصلية بعدسات كثيرة. التوصيف الأدق هو السينما النضالية، التي جمعت إلى جانب أبو علي، سلافة جاد الله، وهاني جوهرية، وصلاح أبو هنود. اختفى جزء كبير من هذه الأفلام، وعثر على بعض البكرات المهرّبة في روما، توثّق للسنوات الأولى للحرب الأهلية اللبنانية من بينها مجزرة تل الزعتر، قامت ماورير بجمعها مع المخرجة الفلسطينية الشابة املي جاسر قبل سنوات. في المقابل، حاولت بعض المؤسسات الفلسطينية تتبع مصير هذا الأرشيف المفتت، وحفظ جزء منه مثل «مؤسسة الفيلم الفلسطيني»، و«جماعة السينما الفلسطينية» التي أعاد أبو علي تأسيسها في رام الله عام 2004.

بطريقة أو بأخرى، أعادتنا ماورير إلى السنوات الجميلة للرحلة السينمائية النضالية التي بدأت إبان النكسة مع فيلم «لا للحل السلمي» لمصطفى أبو علي، قبل أن تستقطب عدداً كبيراً من المخرجين والمخرجات العرب. من بين هؤلاء المخرج اللبناني جان شمعون، الذي كرّس القسم الأكبر من أفلامه للقضية الفلسطينية، ونبيهة لطفي، وقاسم حول، ورفيق حجار، وقيس الزبيدي، وخديجة أبو علي. وجدت هذه الحركة السينمائية أصداءها في الغرب أيضاً، فزار السينمائي جان لوك غودار المخيمات الفلسطينية في الأردن، بهدف إنجازشريط لم يتحقق. ماورير أيضاً واحدة ممن سمعوا صوت المقاومة الفلسطينية، فنقلته في أفلامها باللغة الإنكليزية إلى المشاهد الغربي. Born out of death التي أنجزته ماورير عام 1981، هو أحد هذه الأشرطة التي تدعو العين العالمية إلى رؤية الحقيقة. إنه أشبه بقصيدة سياسية بعثت بها ماورير إلى العالم الغربي، كما قالت في اللقاء. وهذا ما يبرر عنف الصور التي يتضمنها الفيديو (9 د) لمجزرة الفاكهاني في بيروت التي حصدت أرواح حوالي 300 لبناني وفلسطيني في يوم واحد.




مناضلة أولاً

قبل التحاقها بالعمل في السينما لـ «منظمة التحرير الفلسطينية»، اهتمت مونيكا ماورير (1942) بالقضايا الكبرى التي كانت تشغل اليسار العالمي، وحركاته النضالية والتحررية. عملت لفترة كمساعدة للمخرج الإيطالي كارميلو بينه، وكتبت في مجلة Ramparts الأميركية اليسارية، التي دافعت عن «الفهود السود»، أكثر الحركات النضالية راديكاليةً في أميركا. إلى جانب حقوق الأفارقة الأميركيين التي صورتها أيضاً في فيلم يظهر التنوع العرقي والإثني في نيويورك الستينيات، تتبعت ماورير حيوات العمال المهاجرين في ألمانيا والعنصرية التي كانوا يصطدمون بها هناك. طارت المخرجة والصحافية الألمانية بعدها إلى تشيلي لتصوير ظروف العمال في سنتياغو خلال فترة حكم سلفادور الليندي، ثم إلى فرنسا لتوثيق إضرابات عمال أحد المصانع هناك، لتنتقل بعدها إلى لبنان منتصف السبعينيات.