بدأت رحلتنا التي لم تبلغ منتهاها عام 1997 أولاً بصداقة من أول نظرة. فصول علاقتنا تنامت بتسارع يوماً بعد يوم. كلانا ينتمي إلى عالم الفن والأدب والبحث والكتابة والواقع والخيال. توطدت أواصر المحبة وصرنا نلتقي بانتظام.
اقتربنا كل واحد باتجاه الآخر دون الانتباه سوى إلى الصداقة والمودة البالغة التي تجمعنا. مرت أربع سنوات ونحن عشاق في الصداقة فقط. أصدقاؤنا المشتركون سبقونا بالتنبؤ بارتباطنا القوي بعلاقة عاطفية لم تكن قد ولدت بعد. وربما هذا ما جعل حبنا المفعم بالصداقة قابلاً للاستمرار. تحولنا بعد أربع سنوات من الصداقة إلى عاشقين صديقين لأكثر من خمسة عشر عاماً. تبادلنا كل شيء، الأفكار، العمل، الأصدقاء وأهم شيء السفر. سافرنا معاً كثيراً، في كل ربوع فرنسا ولبنان أولاً ثم في عدد كبير من البلدان كان آخرها مكاني المفضل جزيرة بالي الأندونيسية. أصبح كل واحد منا يكمل الآخر كأنه مرآته أو صداه، رغم حرص كلينا الشديد على استقلاليته. لم يحتل أي منا الحيز الخاص بالآخر، ظل لكل واحد منا سرحاته وبعض صداقاته الخاصة.
تدخلت رلى عن كثب في معظم مجريات حياتي الفنية والشخصية، وبالمثل فعلت في كتاباتها ومشاريعها. لم نكن متطابقين (لحسن الحظ) ولكننا كنا متفقين على الأساسيات التي كان لا بد منها في معالجة أمور الحياة اليومية، وهذا ما سهل الإبقاء على وقت أطول للحوار ولإغناء الجانب الفني والثقافي المتبادل.
أول المشاريع الكبيرة التي شاركتني رلى بالعمل عليها كان «ذاكرة النيلة» (Mémoire d’Indigo). وضعت رلى نص المشروع في صيغته النهائية ثم تدخلت في كل تطوراته. جاءت الفرصة السانحة لتنفيذ المشروع عندما دعيت من قبل اليونسكو لتقديم العرض أثناء «سمبوزيوم الصباغات الطبيعية الدولي» (International Symposium on Natural Dyes) الذي انعقد في حيدر أباد في الهند عام 2006. سافرنا معاً رلى وأنا في بداية ذلك العام لعمل التحضيرات اللازمة لهذا المشروع الكبير وأهمها تعيين الموقع المناسب للعرض، فهو مصمم ليقدم بعد الغروب في الهواء الطلق. حملنا معنا نموذجاً مصغراً للمسرح المائل يطوى ويركب بحركة واحدة. أعجب ذلك الهنود كثيراً، والمهم أنّه أعجب المتعهد الذكي الذي نفذ منصة العرض الصعبة بناء على النموذج الصغير. عملنا أيضاً الاتصالات اللازمة من أجل إيجاد راقصين وموسيقيين وجميع الاحتياجات التقنية الأخرى. في خريف السنة نفسها، عدنا مرة أخرى من أجل تنفيذ العمل ومنه الإشراف على بناء المسرح الذي حمل بأعواد القصب وربط في الحبال، ولكن منظره الخارجي بدا كأنه مقصوص باللايزر. جرى تدريب الراقصين يرافقهم الموسيقيون وهم فرقة دينية تابعة لأحد طرق العبادة الهندوسية ولم يكونوا قد عزفوا أمام جمهور من قبل. وافقوا على العمل معنا بسبب ما يحمل المشروع من شحنة روحية. أنهينا جميع التحضيرات ثم قدمنا ثلاثة عروض حضرها جمهور كبير ولاقى العمل إعجاباً كبيراً.
كانت رلى تراقب كل شيء وتقول رأيها الذي انتبهت له دائماً، فصوتها كان دائماً الصوت الأول الذي يخاطبني أثناء وبعد كل إنجاز. الحدس كان إحدى وسائل تخاطبنا، يفكر أحدنا بشيء فيسمعه الآخر. لقد توحد نبضنا واتسق إيقاعنا.
دعي عرض «ذاكرة النيلة» مرة أخرى إلى حلب التي كانت من أوائل المدن المرشحة لهذا المشروع بسبب كونها إحدى أهم مدن الشرق للصباغة بالنيلة الطبيعية. كنا رلى وأنا على اتصال مع عيسى توما الذي أبدى اهتمامه بالمشروع، وهو من بحث عن سبل تنفيذه. اخترنا أعالي قلعة حلب العريقة لتقديم العرض. سحر المكان أضفى على العرض بعداً غنياً بالرموز وبالجمال. كما هي العادة كانت رلى سيدة المكان بحضورها وبإدارتها للكثير من الأمور.

أول المشاريع
الكبيرة التي شاركتني بالعمل عليها كان «ذاكرة النيلة»

المشروع الكبير الآخر الذي عملنا عليه معاً هو كتاب عن الفنان المصري الرائد حامد عبدالله وكل ما نتج عنه لاحقاً من معارض وندوات. كتبت رلى نص الكتاب الذي لقي اهتماماً وصدى في أوساط عديدة، وساهم في التعريف بأعمال هذا الفنان القدير وبفصول حياته ومواقفه. مؤخراً اقتنى الـ «تيت غاليري» في لندن ثلاثة من أعماله علقت في قاعة تضم عدداً من كبار فناني العالم.
كتبت رلى عن الأنشطة الثقافية العربية بشكل عام، لكنها كتبت بشكل خاص عن الفن التشكيلي بكل مكوناته وأشكاله. نشرت كتاباتها باللغة العربية في جريدة «الحياة» التي عملت فيها وكانت مراسلتها الثقافية من باريس منذ عام 1991 وحتى 2001. نشرت كذلك بالعربية في مجلة «زوايا» ومجلة «أمواج». أما في الفرنسية، فنشرت في مجلة «القنطرة» التي تصدر عن «معهد العالم العربي»، وفي الإنكليزية نشرت مقالاتها في الـ «ديلي ستار» وCanvas التي كانت عضواً في هيئة تحريرها.
مقالاتها عن الفن التشكيلي، غطت مساحة واسعة من الفن العربي من محيطه إلى خليجه. أهمية هذه المقالات ليست بالكثرة ولا بتغطيتها للمساحة الجغرافية الواسعة فقط، بل في محتواها الذي يرسم ملامح الفن العربي لثلاثة عقود بسلاسة وبعمق. رلى كتبت بطريقة مختلفة عما سبق وعرفناه، ربما بسبب تكوينها الأكاديمي والمهني. لفت انتباهي في أول مقال قرأته لها عن أحد الفنانين، طريقتها في استنباط موضوعها مرتكزة على ما يقوله الفنان عن نفسه وعن عمله، ثم ما تجده هي مما يحيط بالفنان ويساعد في تكوين صورته. أهمية هذا النوع من الكتابة أنها تفتح للقارئ نافذة على عالم الفنان وعلى فلسفته وكيانه الفني. قرأت ذلك المقال حتى آخره، وفهمت منذ ذلك الوقت بأن قلمها من نوع جديد في خصائصه وطريقة تناوله لموضوعاته. في القراءات اللاحقة، رأيت كيف يستطيع قلمها أن يميط اللثام عن عوالم أكثر غنى وأعمق غوراً. لم تأت تلك الخصوصية من العدم، ذلك أن بناء رلى الكتابي ينتمي بطريقة ما إلى خلفيتها كدارسة لعلم الآثار وكممارسة له، ثم لدراستها اللاحقة للأنثروبولوجيا. قبل أن يبدأ فريق العمل بالتنقيب عن موقع ما، يكون على علم عما ينقب عنه وعلى دراية أو تخمين بمحتويات الموقع، ثم يأتي البحث الممنهج الذي يبدأ غالباً بإزالة المواد المتراكمة أو العالقة بجسم المواد المراد اكتشافها. كلما اقترب المنقب من موضوعه، يصير أكثر حذراً ويتعامل بأناة وبدقة بحثاً عن الصورة الأكثر اكتمالاً لماهية المكان. عندئذ، تجري محاولة إعادة تركيب الأشياء على الصورة الأقرب لما كانت عليه، وبذلك يمكن تحليلها وفهمها من دون إسقاطات لغوية فارغة تضر بهيئة الصورة الفعلية للموقع أو للفنان. استنطقت رلى محاوريها من الفنانين كما يستنطق عالم الآثار الموقع الأثري وما يعثر عليه من مواد. لا تقحم رلى نفسها في موضوع عملها الكتابي، بل تهيئ له كل الفرص ليتكامل بمكوناته الذاتية، تماماً كما يكون عالم الآثار صورة الموقع الذي ينقب فيه من الآثار والمكتشفات التي يعثر عليها، ومن ثم يعمل على وضعها في سياقها التاريخي العام. تكونت معرفتي عن طريقة كتابة رلى بالتدريج، ومن خلال عملنا المشترك على عدد كبير من المواضيع مع بواكير ارتباطنا العاطفي حيث صار لرلى حيز أساسي في كل ما أنتجته من تصورات وأفكار وكتابات ومشاركة عن كثب في كل نشاطاتي الفنية. بطبيعة الحال، كانت رلى أول من يرى أعمالي بعد انتهائها، وأول من يبدي رأيه بها. فعلت بدوري بالمثل بكل ما أنتجت. اقترحت على رلى قبل سنوات أن تنشر مقالاتها في كتاب مع إعادة صياغتها وإضافة بعض النصوص عن فنانين لم تتوفر لها الفرصة للكتابة عنهم ليكتمل الكتاب ويتشكل في لحمة واحدة. انشغالاتها ثم انتقالها إلى بيروت حال دون ذلك أو لنقل بأن المشروع ظل مؤجلاً. في صيف هذه السنة 2016، وكان قد مر على مرضها أكثر من عام ونصف العام، أعدنا الحديث عن الموضوع وتحمست بشدة وبدأنا بجمع وتصوير المقالات، ووجدنا أنها تغطي أكثر من ثلاثين فناناً ومصوراً وصاحب صالة عرض ومصمم، من بينهم شفيق عبود، وضياء العزاوي، ومحمد عمر خليل، ومحجوب بن بللا، ويوسف عبدلكي، وناصر السومي، وليدا عبدل، وكمال بلاطه، وليلى مريود، وفاديا حداد، وفؤاد بلامين، وزياد دلول، وهنيبعل سروجي، ورشيد قريشي، ورشيد خيمون، وميري حنين، وهوغيت كالان، وناديا بن شلال، وريم الفيصل، وجلال غاستلي، ومروان الحص، وكمال منور، وسامي كنج، وجويف كرم، وفهد الحريري، وعبدي عبد القادر، وغيرهم. فكرنا أيضاً بالعمل على إقامة معارض في بلدان عدة تضم جميع من كتبت عنهم رلى. طوّق المرض رلى مرة أخرى وأعلمتها طبيبتها التي تشرف على علاجها بأن أيامها معدودة. واجهت رلى ما سمعت برباطة جأش قل نظيرها. لم تذرف دمعة ولم تتأوه. ظلت تسير إلى الأمام رغم أخذها في الاعتبار ما قالته لها طبيبتها. أعدت الحديث معها عن مشروع الكتاب، فسرّها ذلك وطلبت منها أن تكتب عنوانه بخط يدها ففعلت «رلى الزين... رحلتها مع الفن العربي» ثم وضعنا معاً أسماء الأشخاص الذين تود أن يكتبوا نصاً صغيراً في مقدمة الكتاب، وهم جمانه الزين خوري، ناصر السومي، هيلغا سيدن، ضياء العزاوي، محمد عمر خليل، صالح بركات، سمير وكرستن عبدالله، وبيار أبي صعب.
إن غيّب الموت رلى، فإنه لن يغيب ألقها وذكراها ومشروعها.

* فنان تشكيلي فلسطيني




تقبل التعازي يوم الأربعاء 7 كانون الأول 2016 قبل الدفن وبعده في دار العائلة في كفررمان، ويوم الخميس 8 كانون الأول 2016 في فندق «فور سيزنز» – وسط بيروت من الساعة 11:00 صباحاً لغاية 7:00 مساءً.