دمشق | أكثر من عشرة ملتقيات ثقافية أهلية تنشط اليوم في الشام القديمة وسائر مناطق دمشق. ورغم أن الشعر يأخذ الاهتمام الأكبر في تلك الأمسيات، إلا أن الكثير منها يهتم أيضاً بالموسيقى والغناء والقصة القصيرة. كما تحيي تلك الملتقيات تواقيعَ للكتب التي تُطبع غالباً بإشراف الثقافة الأهلية أو بجهود مؤلفيها، بمعزل عن أي مؤسسات ثقافية رسمية مثل وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب!
الجمهور هنا يؤكد أن الثقافة بخير، وأن ما يُحكى عن اختناقات تعصف بالشعر وبقية الفنون الإبداعية مجرد هراء. منذ ست سنوات من الحرب السورية، استيقظت كل الأسئلة المعرفية والأسلوبية، كأن المجتمع الأهلي نهض من سباته وراح يبحث عن الخلاص بمعزل عن عقلية التبني والإرشاد. الناس يمكن أن يذهبوا بكثافة إلى «نينار كافيه» في باب شرقي، أو إلى كافيه «القصيدة الدمشقية»، أو «عثمان باشا» وجميعها في الشام القديمة، من أجل حضور أمسية لشاعر مغمور وغير مكرس في المشهد، بحيث نكتشف أعداداً كبيرة من المهتمين والحضور. لكن هذا الجمهور سيتردد كثيراً في الذهاب إلى المركز الثقافي الرسمي، إلى درجة أن الأمسيات التي تقام هناك لن يتعدى جمهورها أصابع اليد الواحدة! هذا الأمر ينسحب على كل النشاط الثقافي الأهلي تقريباً خلال السنوات الماضية حتى ظهرت الثقافة الرسمية كأنها تترنح أمام الثقافة الأهلية أو توشك أن تخرج من المباراة بالضربة القاضية.
هذا الواقع على الأرجح هو ما دفع إلى تعيين حمود الموسى مديراً لـ«ثقافة دمشق» الرسمية، فهو صاحب تجربة غنية تعود لسنوات طويلة عندما كان مديراً للثقافة في الرقة ونظم نشاطات ارتكزت على تعاون المجتمع الأهلي مع المؤسسة الثقافية الرسمية، ما جعل كثيرين يتوقعون أن تلتقط الثقافة الرسمية أنفاسها من أجل استعادة المكانة وتعويض التراجع بحيث يكون العمل على قدر الميزانيات والأبنية والتسهيلات الأخرى المقدمة لها. يبرر مدير «ثقافة دمشق» حمود الموسى عزوف الناس عن فعاليات الثقافة الرسمية بلجوء الثقافة الأهلية إلى عوامل جذب للجمهور وأساليب مبتكرة في الدعاية والإعلان. يقول: «ملتقيات الثقافة الأهلية ليست صاحبة سويات عالية من الناحية الإبداعية، لكنّ أجواءها مريحة تجذب الجمهور بسبب تعدد الأمكنة وتوفر الضيافة وراحة الجلوس أكثر من الصالات الرسمية». ورغم أن الموسى يأخذ على الملتقيات الأهلية سلبيات عدة، منها السويات الإبداعية غير العالية، إلا أنّه يشير إلى أنّ التباين الإبداعي طبيعي خلال الحرب، وخاصة في هذه المرحلة التي يمكن تسميتها النهوض الثقافي.

أكثر من عشرة ملتقيات
في الشام القديمة تقيم سهرات موسيقية وشعرية


يتحدث حمود عن خطة ثقافية جديدة ستطلق قريباً في المديرية، وهي مختلفة جذرياً عما درجت عليه العادة في «ثقافة دمشق». وسيكون من أهم معالمها التنسيق مع الثقافة الأهلية والتعاون مع رموزها من أجل إقامة أنشطة ترعاها المديرية بشكل غير مباشر. يقول الموسى: «سنبدأ بإطلاق مجموعة ملتقيات تتعلق بالسرد والموسيقى والتشكيل والشعر والفكر، من مبنى المركز الثقافي في أبو رمانة، لكنها ستكمل مشوارها في أماكن الثقافة الأهلية وفق ما يراه القائمون عليها». يؤكد الموسى أن هدف المديرية الذهاب بالثقافة إلى الناس، عوضاً عن انتظارهم للقدوم إلى مبنى المركز الثقافي. يضيف: «سنذهب إلى الجامعات ومختلف الأماكن، فمن نفتقد وجودهم معنا سنذهب إليهم».
القائمون على الملتقيات الأهلية لهم رأي مختلف. هم لا يشيرون إلى «هوّة كبيرة بين الناس والمؤسسات الثقافية الرسمية» كما يشرح أحمد كنعان مؤسس ملتقى «يا مال الشام». القصة تتعلق بالقوانين والروتين وغير ذلك من تفاصيل تجاوزتها الثقافة الأهلية. يقول كنعان: «المؤسسات الثقافية الرسمية محكومة بقوانين ولوائح أقل ما يقال عنها إنّها غير معاصرة ولا ينتج منها سوى تعميق الهوة مع الناس، وهذا ما سهّل على الثقافة الأهلية، رغم ضعف إمكاناتها، التفوق على تلك المؤسسات بكل بساطة».
جوزيف حداد، أحد مؤسسي لقاء «ثلاثاء شعر» الأهلي، يشير إلى أن التمرد هو الدافع الأهم لتبني خيار الثقافة الأهلية من قبل الناس، في مواجهة التنظير والشعارات التي أغرقت الثقافة الرسمية من دون إنتاج حقيقي على الأرض. يضيف حداد: «الثقاقة الأهلية ظهرت لتكسر المظهر الجامد وتنفتح على الجمهور من خلال المقاهي والكافيهات وافتراش الطرقات. إنها الثقافة الحالمة بتحطيم رتابة المنبر لتصبح قريبة من الجميع وليسهم الكلّ في صياغتها». يعتقد حداد أن بساطة المجتمع الأهلي في تعامله مع الثقافة، كانت من عوامل نجاحه وتفوقه على المؤسسات الرسمية الغارقة في الروتين وسيطرة عقلية الموظفين في التعامل مع فنون يفترض أن تكون إبداعية منطلقة نحو التجديد قبل أي شيء. يقول حداد: «الثقافة الأهلية لم ترفع شعارات كبيرة ولم تقل إنها ستقوم بمشاريع جذرية وهائلة، بل تعاملت مع الأمر بنوع من السلاسة والبساطة، ما أعطاها صدقية جعلت الجميع يرتادون هذه الملتقيات ويتعاملون معها كخيار يعوّل عليه في تحقيق إنجازات جوهرية تحتاج إليها المسيرة الثقافية والمثقفون والمجتمع بشكل عام».
نقطة شكلت قاسماً مشتركاً في آراء الثقافتين الرسمية والأهلية، تتعلق بطبيعة الإدارة القائمة في الضفتين وتأثير ذلك على نجاح العمل الثقافي الأهلي والرسمي في آن. يقول مدير ثقافة دمشق حمود الموسى: «رؤساء المراكز الثقافية لا علاقة لهم بالثقافة، لأن ترشيحهم يتم من جهة لا علاقة لوزارة الثقافة بها، وبالتالي لا يعرفون المشهد بشكل جيد ولا يحسنون اختيار النشاطات ولا يعرفون أهم الأسماء التي يمكن استقطابها». هذا التوصيف سمّاه أحمد كنعان مؤسس «يا مال الشام» مشكلة عقلية الوظيفة داخل الفعل الثقافي، ما يمكن أن يخفف من إمكانية نجاح النشاط مهما كان. يقول كنعان: «أغلب القائمين على أنشطة الثقافة الأهلية، عشاقٌ للثقافة، يعملون بصدق ويهتمون للنتيجة التي سيحصلون عليها، فمن الطبيعي أن يتفوقوا على موظفين ينتظرون نهاية الدوام وآخر الشهر حتى يقبضوا الراتب». الأمر نفسه يؤكده جوزيف حداد عندما يشير إلى «العقلية الخشبية» التي تسود مؤسسات الثقافة الرسمية، مضيفاً: «الإدارات القائمة على الثقافة الرسمية، ترتبط بأشخاص يمثلون ثقافة خشبية لا تتلاءم مع الابتكار والحيوية ومواكبة الواقع الحالي الذي خرج بأسئلة كثيرة وانعطافات كبيرة على صعيد المخيلة. حالات لم تتمكن الثقافة الرسمية من اللحاق بها أو التعبير عنها للأسباب التي ذكرناها، فيما الحال مختلفة تماماً في الثقافة الأهلية لأن الناس هنا يمارسون الثقافة بحب».
يتفق الجميع على وصف مرحلة الحرب السورية بالنهوض الثقافي واستيقاظ الأسئلة الإشكالية وبدء عمليات كبيرة على صعيد تجريب الأساليب، ويرون أن وجود مستويات متباينة في الملتقيات الأهلية أمر طبيعي في ظل النهوض الذي يحدث. الملتقيات الأهلية تمثل هذه الحالات وفيها تحضر كل الأسئلة الإبداعية، وربما تكون هذه الثقافة هي المؤهلة لالتقاط الانزياح المنتظر في مشهد الكتابة وغير ذلك من الفنون!