وفجأة، دوّى انفجار كبير، يشبه ذلك اﻟ Big Bang... انهار الوطن العتيق على من فيه وما فيه. ليجد آدم وحواء نفسَيْهما عاريين وسْط الركام. كان ذلك في أواسط سبعينات القرن الماضي، يوم لم يعد للشوارع أسماء.

والناس شبه كائناتٍ في حال هذيان...
كان ذلك في أعقاب «الحرب اللبنانيَّة»، «حرب السنتين»، عندما نفض موسى الغبار عنه ليعود إلى الحياة، بعد محاولة اغتيال تعرَّض لها.
لم يكن الثائر بصمت، جيلذاك، على الموروث الاجتماعي والتقاليد، والسائد من الأفكار... لم يكن يحمل عصاً بيده ليشقَّ الدخان الكثيف الذي ملأ المكان... هو الذي لم يمْتَشِقْها أصلاً في أيّ لحظةٍ من حياته. ترى، أتكون تنشئته المسيحيَّة هي التي ثبَّتَتْ في وجدانه حالة اللاعنف تلك!؟
جريمة هذا المثقَّف الماركسي، القادم من بلدة الشيخ طابا في عكار، والعائد لتوِّه من باريس، مدينة الأنوار، في نهاية عام 1974، مثقلاً بإشكاليَّة العلاقة بين الذات والموضوع؛ جريمة هذا «الكازانوفا» الطالع، في الأصل، من بيئةٍ مسيحيَّةٍ ارثوذوكسيَّةٍ محافظة، أنَّه استساغ في لحظة نضوجٍ لغة الجسد، ليُفرغ شهوته في فردوس حواء... غير آبهٍ بالأفاعي والثعابين وكلّ السموم... وشجر التفاح؛ جريمة هذا الشيوعي «المرتد»، الزاهد بالسلطة وكلّ المسؤوليَّات، أنَّه انْتَعَلَ بدل الـ Rangers «صندالاً»، حرّر به أصابع رجليه من عبثيَّة حربٍ، لم تنته فصولاً بعد، هو الذي تمَرْكَس منذ العام 1968، ليترك الحزب بصورةٍ نهائية عام 1976، إثر أحداث «تل الزعتر»، على خلفيَّة تقديمه كرامة الإنسان، الإنسان القيمة في حدِّ ذاته، على أي مصلحةٍ عقيديَّةٍ أو حزبيَّةٍ أو سياسيَّة، مهما بلَغَتْ ضرورتها؛ جريمته أنَّه تأبَّط حقيبةً جلديَّةً بدل الكلاشنيكوف، وفي داخلها دفترٌ صغيرٌ وقلم... بدل المماشط والرصاص... وبين دفَّتيه كلماتٌ مفاتيح، تُقرئُك الفلسفة وتجعلك تتلذَّذ بها: من ديكارت وعقلانيَّته إلى سارتر ووجوديَّته، مروراً بكانط ونقديَّته، وهيغل وجدليَّته، وماركس وبيانه، ونيتشة وعدميَّته... وبعدهم فوكو وحفريَّاته، ودولوز وأفهوميَّته... وغيرهم من الفلاسفة الذين أثْرَوا الحياة البشريَّة بفِكَرِهِم والعِمارات؛ جريمة موسى وهبة أنَّه ذهب بعيداً في ارتداده عن حزب البروليتاريا، ليكتشف ضالَّته فيما بعد عند ايمانويل كانط، لجهة إعلان هذا الأخير، في ثاني شروطه، «ضرورة اعتبار الإنسانيَّة غايةً في ذاتها لا وسيلة». وموسى الملتزم، ومسؤول فرنسا في الحزب خلال فترة إقامته على ضفاف نهر السين، لم ينسَ يوماً ذلك الكتاب للروائي البريطاني Colin WILSON ،The Outsider، الصادر عام 1956، والذي ناقش فيه الكاتب الوجوديَّة بُعيْد صدور مصنَّف جان بول سارتر L’être et le néant، ليخلص إلى إبراز فكرة «اللامنتمي»... فقد عَلِق مضمون هذا الكتاب باكراً في ثنايا عقله الباطن رغم تحزُّبه اللاحق، بل دغمائيَّته... ليتكشَف أثره في التحول الفكري الذي عاشه «الرفيق المشاكس»، والمتسائل دوماً، عام 1977. يبتسم موسى عندما يتذكر قول كمال الحاج له ولرفاقه الماركسيّين، يوم كان هذا الأخير يجادل الشيوعيّين في الجامعة ذهاباً وإياباً... جيلاً بعد جيل: «حِلّولي قصّة الموت وأنا معكن»... ترى هل كان لمجادلات «فيلسوف القوميَّة اللبنانيَّة» أثرٌ في ذلك التحول؟
كلُّ ما أعرفه في هذا السياق، أن لكمال الحاج، الذي انْتَقَدَهُ موسى في البدايات، حيزاً كبيراً في أطروحته، إلى جانب زكي نجيب محمود.

أتكون تنشئته المسيحيَّة
هي التي ثبَّتَتْ في
وجدانه حالة اللاعنف تلك!؟

قد يظنُّ بعضهم أنَّ الله مات في قلب موسى يوم انتصر الشاب الطموح، لحظة نضوجه الجسديّ والفكري، لحريّته الشخصيَّة. وقد لا يفهم البعض الآخر بأنَّ فيلسوفنا ترك «الحزب الشيوعي» عام 1976، مع بعض رفاقه، لتشبُّثِهِم بنزعةٍ إنسانيَّةٍ قيميّةٍ صادقة... الخبر الذي لم يبْلُغْ «حاجز البربارة» الذي اخْتُطِف موسى عنده عام 1985، وهو في طريق عودته من عكار، ليُخْلى سبيله بعد أيامٍ عدَّة، وبعد التأكّد من خلو جلده وثيابه من شتى أنواع البارود ورائحة الدخان...!؟
عاشقٌ للحرية هو... ورافضٌ للعنف وفرض الرأي بالقوة... يؤثرُ العقل والحجَّة والحوار على ما عداها من سُبُل. لا يُغريه شيء. اللهمَّ إلا إذا استَثْنينا من ذلك، الجمال والأنوثة والخمرة وصفوة الأصدقاء... دون أن ننسى، طبعاً، مطاعم الحمرا وأزقَّتها.
تقدُّم العمر لا يعنيه. إنّه الشباب الدائم الحيويَّة والعطاء. حياته كلّها هادئة... كما مشيته. فهو غالباً ما يسير «عَ ﻟْ هدا»، غير متعجِّلٍ... وذلك على عكس ما هو عليه كلٌّ منا: «مسْتَعْجِل وما مَعو وَقْت».
هكذا هو موسى... وهكذا كان.
أذكر أنَّه كان يقضي وقتاً، مع أشيائه – شَنْطَتِه ودفْترِه وغليونِه ولحيتِه السوداء الكثيفة - لقطع المسافة بين بنايتي كلية الآداب، قبل أن يَصْعَد إلى الصف. كنا نَنْتَظِره بشغف... كما فَعَلَتْ أجيال من بَعْدِنا.
كان لي، ومنذ أن عرَفْتُهُ، الأستاذ والصديق... ليضاف إليها، في ما بعد، الزميل... هو الذي شجَّعني للذهاب إلى باريس، أنا الذي حُرِمْت، في ذلك الزمن الجهنميّ الأسود، من منحة دراسيَّة، مستحقَّة لي، للتخصص في الخارج... بسبب انتمائي المذهبي، بعد أن قُسِّمَتْ الجامعة اللبنانيَّة محاصصةً بين المتحاربين.
ومن المفارقات أنَّنا عمِلْنا معاً، فيما بعد، في أواخر التسعينات، إلى جانب عددٍ من الزميلات والزملاء، وفي مقدَّمهم الهام منصور ووليد خوري وعلي حمية ومحمد العريبي ووفاء شعراني ونايلة وغيرهم، على تحطيم الجدران التي حوَّلَت فروع الجامعة التي نحبّ، إلى شبه «غيتوهات»، لنؤسِّس «اللقاء الفلسفي في لبنان»... اللقاء الذي أحدَثَ خرقاً نوعياً، لجهة إعادة ربط أقسام الفلسفة، بعضها ببعض، عبر الندوات والحلقات الدراسيَّة والنشاطات المشتركة... ثم كانت مجلة فلسفة... التي ولدت مرتين لتتوقف، بعد ذلك، لعدم توفر الإمكانات الماديَّة.
لكنَّ «القدرَ لا ينْعَس»، على ما يقول كمال الحاج، فكانت أحداث 2005، لنجد أنفسنا، من جديد، في النفق الذي سبق وأُعدَّ لنا منذ أواخر الستينات... النفق الذي لم نعد نرى - رغم تفاؤلك يا صديقي موسى- وسْط ما يدور عندنا وحولنا من أحداث، أيَّ بصيص لنهايته.
قلْتَ لي يا موسى قبل أسبوع: «لولا الموارنة لما كان ثمة حريَّة»... وقلْتَ لي إنَّك «مع المسلمين... ولست مع الإسلام»... فحبذا، يا صديقي، لو يرجع بعض الساسة الموارنة اليوم من تَهَوُّرٍ دون احتساب، على خلفيَّةِ تمسُّكهم بمشاريع قوانين مذهبيَّة، لا علاقة لمارونيَّتي بها ولا لأرثوذكسيَّتك، بكل ما تحملانه من دلالات... وحبذا لو يرجِع بعض المسلمين إلى حقيقة الرسالة المحمديَّة التي تحملُ من البيّنات، ما يُسهِم في نشر الخير والسلام في الأرض!؟
موسى وهبة، لن أتحدَّثَ عن سيرَتِك الفكريَّة بالتفاصيل. إنها غنيَّة. فأنت أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة والفلسفة العامة، وأستاذٌ مشرف، وناقلُ أمّهات النصوص إلى عربيَّة، طالما اعتبَرْتَها لغةَ فلسفة، ودعَوْتَ للكتابة فيها. وقد شكَّل «إمكانُ التفلسف بالعربيَّة» محوراً أساسياً من محاور تفكيركَ الفلسفيّ، ناهيك بما للميتافيزيقا من موقعٍ لديك. وقد كانت النافذة التي أعَدْتَ عبرها تموضعَكَ الفكريّ. تنوَّعَتْ أبحاثك ودراساتك لتشمل الفكر الحديث والمعاصر والفكر العربي، بالإضافة إلى «نقدك الحاجة إلى الفلسفة». شاركْت في مؤتمراتٍ عدَّة، في لبنان والعالم، وأسَّسْت «نهار الكتب»، بالإضافة إلى مشاركتك في تأسيس «الهيئة العربيَّة لحقوق الإنسان» و«اللقاء الفلسفي في لبنان»، إلى كونك «عضو لجنة الفلسفة الاستشاريَّة في المنظمة العربيَّة للترجمة». عزيزي موسى، هي الحركة الثقافيَّة تكرِّمكَ اليوم. الحركة التي مرَرْتَ، مراتٍ عدّة، على منبرها، متحدثاً. وقد كنْتُ إلى جانبِكَ مرّتين: مرَّة في عام 1996، لدى مناقشتنا كتاب صديقك المغفور له الدكتور بطرس حبيب «جدليَّة الحب والموت في مؤلفات جبران خليل جبران العربيَّة»، ومرَّة ثانية عام 2002، لدى تكريمنا أستاذنا الكبير كمال يوسف الحاج، بعد 25 سنة على غيابه.
هي، بتكريمكَ، تكرِّم الفكرَ الحر والثقافةَ الحقَّة... تكرِّم بكَ جيلاً من الفلاسفة والمبدعين.
فأنت اليوم، وكلَّ يوم، علمٌ من أعلام ثقافتنا البنَّاءَة والمنفتحة... في ثلاثيِّ أبعادها: اللبناني والعربي والإنساني.
أخيراً، ليْتَكَ كتبت، يا موسى، بعضاً من سيرتِكَ تلك، أنت الذي قلْتَ الكثير في كلام قليل، لعلَّها تستحيلُ عصاً نشقُّ بها دخانَ وطنٍ، قد لا يبقى فيه، إذا ما استفحل الجهل وتمَذْهَب التعصُّب، مكانٌ للرجاء!؟

* كلمة الدكتور ناصيف قزّي في حفل تكريم الدكتور موسى وهبة خلال فعاليات «المهرجان اللبناني للكتاب 2013» الذي تقيمه الحركة الثقافيَّة – انطلياس.