في عصر بؤس الفلسفة وبؤس تعليمها، هنا عند العرب، والآن حيث العنف على أنواعه يأكلنا وينخر عظامنا، من واجبنا أن نتأمل غياب معلّمنا العزيز، فيلسوف الانفتاح.
فلسفة موسى وهبة هي مرآة للإنسان الذي كانه، عبارة عن تأويل لإنسانه، هي ذاته. كانت له فلسفة خاصة لأنه كان إنساناً حاضراً. الفلسفة عنده ما كانت مجرد ترف جميل، ترف يسعى إلى اكتشافات ظافرة تدوّن في النهاية في أندية الفلاسفة على القبة الزرقاء للأفكار، إنما كانت حاجة وضرورة، باعتبارها متكأً وسكينةً وترياقا ونجاةً وتصالحاً مع الذات.
فاهتمامه بكانط كان اهتماماً بحرية الفرد واهتماماً بالفرد نفسه. استماعه للفرد ما كان على أساس أنه «ينتمي إلى» التي تقود إلى الحكم بل على أساس كونه فرداً فريداً.
وإيمانه بيونيفارسالية الفلسفة هو إيمان بيونيفرسالية القيم وتشديد على حقوق الإنسان حيثما كان. بين الفلاسفة «المعادين للتنوير» (والمنتصرين لنشأة الإنسان وثقافته الخاصة) والآخرين، مَن يُطلَق عليهم «الرومنسيون» في الفلسفة، اختار موسى وهبة الفرقة الثانية دون أن ينفي يوماً أهمية ثقافة الفرد ومكان نشأته وأهمية الحفاظ على أصله حتّى لا ينسلخ عن نفسه.

فالمكوث في الحضارة لا يعني «الانسلاخ عن الذات» والإنسان الباريسي ثمّ البيروتي الذي صاره موسى بامتياز كان فيه روحٌ من شيخ طابة العزة والرجولة وشيخ طابة المحبة وشيخ طابة العرق البلدي وصابون الزيت والزيتون...
إنّ حثّه على الترجمة في الفلسفة كأساس للتفلسف هو حثٌّ على معرفة الآخر، فالترجمة هي أوّلاً حوار مع الآخر، حوارٌ يقودنا إلى درء العنف في التفكير. فالجهل يوصل إلى العنف وجهل الآخر يقود إلى ممارسة العنف ضده. هذه الحاجة الملحة أحسّها موسى في الفلسفة كما في المجتمع فنحن مجتمع يكثر فيه العنف وبوقاحة، يعّنف نفسه أولاً لأنّه يجهلها: يعنّف المرأة الكامنة في نفسه ويعنّف الطفل النائم في ذاته، كما يعنّف الحيوان الرابض في جسده. وإنْ كان يجهل نفسه فإنّه يجهل الغريب عنه طبعاً، الغريب من الطائفة الأخرى والغريب من البلد الآخر والغريب الذي يتكلّم لغة مختلفة عن لغته والغريب الذي يختلف لونه عن لونه...
أما مشروعه اليتيم بإقامة معهد عربي للفلسفة تترجم فيه أمهات النصوص الفلسفية على شاكلة بيت الحكمة في عصر المأمون، فإنّه كان يعبر عن شعوره بالمسؤولية تجاه الفلسفة وهو شعور موسى الإنسان بالمسؤولية تجاه العالم. فالفيلسوف يؤسس ومن مكان اشتغاله بالفلسفة للعمل في المعرفة مقابل «الجهل الممأسَس» المتجذّر في المجتمع والممثّل بالقائدين الإلهيين الآخذين شرعيتهم من نصّ «مقدّس». هذا الشعور بالمسؤولية هو شرط للعمل في الحياة، شرط للوصول إلى تحقيق الذات والحسّ بالسعادة.
هكذا كان موسى وهبة فيلسوفاً صادقاً تتلاقى أفكاره الفلسفية بمسار حياته الشخصية. يعلّم بحكمة تغيير العالم عبر تغيير كيفية تعاملنا معه ويدعو إلى عدم البقاء على الهامش، هامش النصوص وهامش الذات بل العمل على النصوص نفسها وعلى داخل الذات نفسه.
أمّا الآن، وقد توقف رقّاص الساعة عن الحركة، أو قُل توقفنا عن سماعه ينبض
نبضَ، كان ينبض، لم يعد ينبض، سينبض
ألف تحية لروحك الطيبة من فكرةٍ خرجت من رأسك يوماً، وسقت بلابل الجبل
* أستاذة مبرزة agrégée في اللغة والحضارة العربيّة وأستاذة جامعيّة وباحثة في فرنسا