غريبٌ أن يرحل جان شمعون بلا صخبٍ أبداً. الشاب القادم من قرية سرعين البقاعية، جذبته المدنُ الكبيرة والعدسةُ الصغيرة في آنٍ معاً، فقرر أن يكون مخرجاً في زمنٍ عز فيه المخرجون الذي يحافظون على بوصلتهم على الرغم من ضياع البوصلة الأم.
هو تخرّج من باريس عاصمة الأنوار (أكمل دراسته في «جامعة باريس الثامنة» و«معهد لوي لوميار»)؛ ودارَ عواصم الأرض، يقول كلمته كما يحبها أن تكون، فقدّم أفلاماً هزّت أفئدةً وضمائر. في العام 1976، قدّم وثائقي «تل الزعتر» (بالاشتراك مع مصطفى أبو علي وبيدو أدريانو) الذي يقارب المجزرة التي طالت ذلك المخيّم الصغير الواقع في قلب ما كان يعرف بإسم «المناطق الشرقية» آنذاك. قد يبدو الكلام ههنا شاعرياً، لكن ميزة جان شمعون أنّه في الوقت الذي بدأت كاميرات الآخرين بالتوجه صوب الخليج و«ماله ورؤيته» في تفسير الهزائم وتبريرها، قرر شمعون أن يكون سابحاً عكس التيار، فظل على احترافيته ومهنيته. والأصدق من ذلك بوصلته التي لم تفارق فلسطين.

هو كان يرغب أن يصبح مهندساً زراعياً، لكن القضية الفلسطينية استهوته منذ الصغر، ففتن بها. لذلك، كان التغيير الكبير في حياته العلمية. دخل كلية العلوم السياسية، لكنه لم يجد نفسه هناك، فقرر أن يلج عالم المسرح، فدخل معهد الفنون الجميلة، ودرس هناك لسنواتٍ عدة قبل سفره إلى باريس ليكمل الدراسة. هناك، لم ينس المخرج ذو الشاربين التقليديين أن ينخرط في الثورة الطلابية عام 1968. لربما كان حبّ الأرض والتعلّق بها، دافعاً لهذا الشاب الآتي من منطقةٍ زراعية تعرف الأرض وقيمتها وتقدّرها، لتقديس القضية الفلسطينية والعمل لأجلها بكل هذه القوة. لاحقاً، سيعود إلى بيروت ليعمل مع المبدع زياد الرحباني لإنتاج البرنامج الإذاعي الساخر «بعدنا طيبين قولوا الله». عزز البرنامج قيمة زياد الثقافية/ السياسية بعيداً عن المسرح، وقدّم شمعون بصفته مخرجاً ماهراً. ولا ريب أنّ الأمر صقلهما معاً. «كان المقاتلون على المحاور وخطوط التماس يوقفون إطلاق النار أثناء بثّ البرنامج للإصغاء إليه، لهذا قمنا بالبرنامج قبل أي شيء» بهذا أسرّ شمعون في مقابلة تلفزيونية معه مرةً. في العام 1982، أوقف تصوير فيلمه الذي كان يعدّه عن الزعيم الراحل أنطون سعادة، إذ هزّه ما حدث في العاصمة اللبنانية مع الإجتياح الإسرائيلي لها. لذا، قرر أن يقاوم على طريقته، أن يحمل كاميرته ويدور في الشوارع التي كانت مكتظة بالناس عادةً لتستحيل مدينة أشباح إبان إحتلالها. صوّر ــــ بعين الفلسطيني ـــ «الدياسبورا الفلسطينية الحديثة» (رحيل المقاتلين في البواخر بإتجاه تونس وعدن) عن بيروت التي عشقها الفلسطينييون أكثر من غيرها. أكمل رحلته الخطرة ليكون أوّل من صوّر مجزرة صبرا وشاتيلا وأرّخها للذاكرة. هو ظل مفتوناً بالذاكرة، محاصراً لها، خصوصاً ذاكرة الحرب. لاحقاً، سيستعيد الذاكرة من خلال «أحلام معلّقة» (1992) الذي ركّز فيه على السيدة وداد حلواني التي خطف زوجها إبان الحرب ولم يعد. في الإطار عينه ولكن في إتجاه مختلف، قّدر شمعون النساء المناضلات. بعدما قارب نضالات حلواني، تناول أيضاً نضالات الأسيرة الفلسطينية المحررة كفاح عفيفي، والشاعرة فدوى طوقان (من الشاعرات الفلسطينيات الأول)، وسميحة الخليل (إحدى رائدات المقاومة الاجتماعية والشعبية ضد الصهاينة) فكان فيلم «أرض النساء» (2004). لاحقاً تعرّف بمي المصري، زوجته الفلسطينية التي انتظر 15 عاماً حتى يجدها.

«طيف المدينة»
وصيته للجيل الجديد
هو كان يشير إلى أنه يعشق حياته «العازبة»، وظل كذلك حتى التقاها، فتزوجا مدنياً، وأنجبا طفلين، وعدداً كبيراً من الأفلام المشتركة: «تحت الأنقاض» (مؤرخاً للحرب الأهلية وفظائعها ــــ 1982)، «زهرة القندول» (قصة حياة المناضلة اللبنانية خديجة حرز ــــــ 1985)، «بيروت جيل الحرب» (1989)، «أحلام معلقة» (1992)، «يوميات بيروت» (2006).
كان لافتاً أسلوب عملهما معاً، إذ بدا مختلفاً عن عمله وحده، أو عملها هي وحدها. بدا أنّ هناك نوعاً من «التفاهم» الضمني بينهما... تفاهم يبدو أقرب إلى اللا كلام، فالصورة أشد بلاغة بالنسبة إلى المخرج.
كان عام 2000 بالنسبة إلى لبنان إنتصاراً كبيراً، إذ رحل العدو الصهيوني عن أرضه بشكلٍ شبه كلي، وكان كبيراً كذلك بالنسبة إلى جان شمعون، إذ حقق فيلمه الروائي الأوّل «طيف المدينة». الشريط الذي انتظر طويلاً كي يقدّمه للجمهور، جاء خلاصة تجربة كبيرة، وكان ناجحاً ومذكراً بأولويات السينما لمن لم يعرفوا سينما لبنانية بعيداً عن سينما «الصالونات» و«الاستهلاك».
قدّم شخصياتٍ رافقته خلال حياته، قارب فيها ما يريد قوله حول الحرب والسلم، والحياة والموت حتى. يومها، أبدعت كريستين شويري في تقديم المرأة التي خطف زوجها وظلت باحثةً عنه. إنه نوعٌ من «التأريخ» لشخصية وداد حلواني، التي استوحى منها «الشخصية» التي أدتها شويري. كان شمعون يريد تأريخ الحرب كي ترى الأجيال الأصغر سناً ماذا تعني الحرب، والدمار الذي ألحقته بالناس، سواء على صعيد البشر أو الحجر. إنها رسالة شمعون لأجيالٍ مستقبلية مع بداية القرن الجديد.
رحل جان شمعون، صاحب الرؤيوية الشعبية في السينما اللبنانية الذي كان يصر على أنَّ السينما إن لم تكن «ملتصقة» بهموم الناس وواقعهم ومشاكلهم اليومية، فهي «ليست بسينما».