هاجرت منال سمعان إلى سويسرا منذ نحو سنتين. وطنها الذي كان يُفترض أن يحتضن موهبتها وصوتها ورسالتها الفنية تجاه مجتمعها، اشتعل بعَيد تخرّجها من أعرق معاهده الموسيقية بثلاث سنوات. زميلها ومواطنها، الموسيقي سعيد ميرخان، الذي كانت تحضّر معه لألبومٍ غنائي خاص، توقّف قلبه لاجئاً في لندن وهو في زهرة شبابه. هكذا أجّل القدر المقالة الحالية أكثر من مرة، إذ لطالما انتظرنا مناسبةً للإضاءة الوافية على المغنية السورية الأنيقة التي تحيي أمسيةً بعنوان «عالبال»، مساء غد في «جامعة البلمند» (الكورة — شمال لبنان) ضمن «مهرجانات قلحات — 2017» برعاية وزارة الثقافة.
في السابق، ذكرنا منال بشكل عابر ومكثّف في أكثر من محطة، لكن ضمن مشاركتها في حفلات الفنان زياد الرحباني خلال السنوات الأخيرة، حيث لا مجال للتركيز على شخصها، رغم دورها البارز، من بين ثلة الفنانين المحترمين الذين حضروا بالإضافة إليها في تلك المناسبات. لذا، لم يعد واجبنا المهني وهمّنا الفنّي (وحتى الأخلاقي) يسمحان اليوم بإهمال الحديث عن هذه الفنانة في إطار الحد الأدنى من التغطية، لا لإعطائها حقاً تستحقّه فحسب، بل أيضاً لحثّ الجمهور، شيئاً فشيئاً، على استعادة علاقةٍ مجمّدة منذ أكثر من عقدين، مع الجمال، والجدية والرقي.

العبارات الأخيرة لا يختلف اثنان على أنها لم تعد تشكّل ألف باء شروط الإنتاج الفني، ولا حتى جزءاً من لائحة شروط النجاح والنجومية في مجال الغناء العربي. ببساطة، إن توافرها غير مطلوب اليوم. أو ربما أسوأ: مطلوبٌ عدم توافرها تحت طائلة التهميش الإنتاجي والإعلامي... والشعبي. نعم، الشعب أيضاً شريك في «الجريمة». إن لم يكن كذلك، فمن هم هؤلاء الكثر الذين يتمتمون بدون أي خطأ ولا احتمال خطأ (ولا يعلِّم الشطّار، وغيرهم، سوى التكرار، كما نعلم) تلك الأغاني الهابطة متى صدحت في المناسبات العائلية؟ ليسوا من المريخ، أليس كذلك؟ ومن هم هؤلاء الذين يملأون الحفلات المتتالية لصاحب (ة) هذه الأغاني المنحطّة؟ ليسوا أشباحاً، أليس كذلك؟ هم من الشعب. هم الشعب، أليسوا كذلك؟ هؤلاء لا ترهيب ولا ترغيب يدفعهما إلى هذا السلوك، كما في السياسة.


تغني فيروز والأخوين رحباني
وزياد، بالإضافة إلى أعمال خاصة
هؤلاء سلوكهم أسوأ وأخطر من الاستزلام لزعيم رديء وُلِّيَ عليهم كما كانوا. قد يجد بعضهم في هذا الكلام استطراداً في غير مكانه ضمن تغطية لأمسية غنائية. ربما... لكن، صدّقونا، لم نعد نملك ترف تفويت أي مناسبة لتكرار هذه التحذيرات. تأثير هذه الموجة بلغ الخطر على الحياة، إذ بات بالإمكان المراهنة، بدون أدنى مجازفة، على أن من يعتدون على الناس بوحشية في الشارع هم بدون شك من مستهلكي الفن المسمّى هابطاً (أي من مانحي شرعيته ومموّلي استمراريته). الدماغ ـــــ والنفس من ورائه ـــــ لا يحب القبح ولا الضجيج ولا النشاز. إنْ تعرَّض إليها بشكل متكرّر، سيصاب بعطبٍ، يتظهّر على شكل تعنيف طفل أو خرق قانون السير أو غياب ضميرٍ إنسانيٍّ أو مهني.
إذاً، الانحطاط هو قاعدة اليوم، ومنال سمعان هي استثناء. وأفضل طريقة لوصف الاستثناء هو الانطلاق من القاعدة، وتعداد ما لا ينطبق عليه من ملامحها وشروطها. هذا الأسلوب يسمح بإيصال الصورة بشكل أوضح وأسهل، ولهذا سبب: خصائص القاعدة منتشرة ومتداولة في المجتمع، بالتالي فهو يستطيع تكوين فكرة عن الاستثناء بما «ليس» فيها من القاعدة. بالتالي: منال سمعان ليست من النوع الذي يتفرّغ لدراسة الغناء وتدريب الصوت بعد اعتزال الفن (هذا الكلام لزياد الرحباني منذ ربع قرن). ولا من النوع الذي لا يشتري اللحن إلّا والكليب معه. لا تحيي حفلات خاصة على يخوت أمراء كرمى لذائقتهم الرفيعة وأذنهم الموسيقية المرهفة. لا تخاف من الأداء بصوت عارٍ (بدون مرافقة موسيقية) ولا تتعرّى خوفاً من ضعف صوتها. لا تستقصد إثارة الفضائح لتسريع عدّادات مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بها. لا تتخلّى عن خيار الغناء الحساس والبسيط، لصالح الإبهار الخبيث عن طريق قياس مساحات الصوت بالأوكتافات الممطوطة. لا تبخل بعُرَبها الجميلة والمتينة. لا تغطّي نبرتها الحسنة والرقيقة بالصراخ الفارغ. لا تخشى عدم إصابة ربع الصوت أينما حلّ (كثيرون يصيبونه، لكن يخشَونه) وإصدارها الوحيد «تراتيل بيزنطية» كما رَفعها تحدّي اتكال زياد الرحباني عليها في أغانيه الشرقية الثقيلة يشهدان على هذه القدرة التي باتت نادرة بعدما كانت بديهية. لم تتخرّج من برنامج هواة في لجان تحكيم كهذه. ليست من الشلّة التي «ممنوعٌ» عليها، أخلاقياً أولاً، ثم فنياً، أداء أغاني فيروز. لا تغني playback... ولا تفوّتوا حفلتها.
أحيت منال سمعان حفلات عدة في سويسرا في السنتَين الأخيرتَين (بعضها لدعم المتضرّرين من الحرب في سوريا)، وتأتي إلى لبنان بمرافقة الموسيقي اللبناني المقيم في فرنسا، عازف البيانو إيلي معلوف الذي يتشارك معها الشغف والهمّ الفنيَّين السليمَين، وتضم الفرقة إليهما شاهان كلاغيبيان (كونترباص) ونادر مرقس (إيقاعات). أما البرنامج، فيتألف بغالبيته من ريبرتوار فيروز والأخوين رحباني وبعض أعمال زياد الرحباني، بالإضافة إلى أعمال خاصة (غنائية وآلاتية من تأليف إيلي معلوف).

أمسية «عالبال» لمنال سمعان وإيلي معلوف: 8:00 مساء غد الأحد ـــــ «جامعة البلمند» (الكورة). للاستعلام: 71/844696 ـــــ 79/171793