لندن | عندما تحدثت سارا دانيوس الأمينة العامة الدائمة للأكاديمية السويديّة للآداب مع الكاتب البريطاني كازو إيشيغورو أمس لتعلمه بقرار الأكاديميّة منحه «جائزة نوبل للآداب» للعام 2017، تصرف الرّجل كما يجدر بياباني لطيف، زادته حياته البريطانيّة رهافة إحساس ورقّة مدروسة بعناية. «لقد كان ساحراً، شديد اللطف، عظيم الامتنان، وأحسن اختيار كلماته ليعبّر عن شكره لمنحه هذا التكريم الذي لا يتفوق عليه أي تكريم آخر».
بالنسبة إلى الأكاديميّة، فإنّ إيشيغورو هو عودة بالجائزة العالميّة الأهم إلى نطاقها المألوف، بعد مغامرة بوب ديلان في جائزة العام الماضي الذي تصرّف بدوره كـ «كاوبوي» أميركي نزق، ووضع هيئة الجائزة في موضع الانتقاد لشكل قرارها ومضمونه. أما بالنسبة إلى إيشيغورو، فهي اعتراف ذو صفة عالميّة وتتويج لمسيرة أدبيّة مظفرة لأديب صنع له صوتاً متفرداً من خلال العزف على المساحات الغامضة بين العوالم المتناقضة، رغم أن نقّاداً بريطانيين أمثال ويل سيلف، اعتبروه كاتباً جيداً فقط لا يستحق ربما كلّ هذه الحفاوة.
كما تقول دانيوس، فإنّ نبرته التي «كأنها خليط من جين أوستن وفرانز كافكا مع قليل من مارسيل بروست، من دون كثير تحريك للخليط» تصاعدت عبر رواياته السبع، ليمتلك صوته الخاص بالمطلق ويخلق عوالم كما إله تمكن أخيراً من صنعته، سيّما في روايته الأخيرة «المارد المدفون» (2015).

«المارد المدفون» ملحمة كلاسيكيّة ثيمتها التناقض المتداخل بالذاكرة وخداع الذّات

الأخيرة تشبه ملحمة كلاسيكيّة ثيمتها التناقض المتداخل بالذاكرة والزّمن وخداع الذات في مواجهة العالم. هنا إيشيغورو يأخذنا إلى لحظة هاوية بين عالمين، عندما تتكون إنكلترا كما نعرفها: في الحقيقة، فإنّ الغزاة الأنغلوساكسون القادمين عبر القنال، طهّروا معظم الجزيرة من البريطانيين الأصليين ودفعوا بقليلين نجوا منهم إلى الأطراف النائية غرباً وشمالاً، ليستوطنوا مكانهم مبتلعين ثقافتهم. إيشيغورو يستغل البلبلة في السجلات التاريخيّة عن تلك الفترة، ليقول لنا روايته الممكنة عن أحداث المرحلة على لسان السير غوين أصغر فرسان الملك آرثر سناً، والذي هو بدوره شخصيّة غامضة متأرجحة بين الاسطورة والحقيقة، وبين الشعر والفروسيّة. كأنه ساموراي وراعي بقر ودون كيشوت في آن. ومن كثرة الضباب الذي يحيط بك وأنت تسافر في الحقول الممتدة مع السير غوين، تكاد لا تشعر بالغرابة وأنت تصادف تلك المخلوقات العجائبية والتنانين، وتتقبلها عن طيب خاطر كجزء من سر الخلق، تماماً كما يمكن أن يكون أسلافنا قد فعلوا في غابر الأيّام. إيشيغورو يدفعنا للاعتقاد بأن كل شيء يغدو ممكناً في لحظات التكوين، تلك التي تنصهر مع القيامات لترسم شغف إيشيغورو المقيم الذي رافق بداياته منذ الثمانينيات وما زال، منقباً في أركيولوجيا الذاكرة عن كيفية تعاطي المجتمعات مع التحولات التاريخيّة المفصليّة واستردادها. لكنّه حرص دوماً على أن لا يُقبض عليه متلبساً في مكان محدد أو زمان معروف. ولذا ارتحل بنا إلى فانتازيات هائمة في ثقوب التاريخ السوداء.
الرواية عند إيشغيورو مساحته القصوى للتعبير، رغم أنه تعاطى القصة القصيرة وكتب كلمات الأغاني وخط سيناريوهات أفلام سينمائيّة، بل شارك بفعاليّة في تحويل مجموعة من رواياته إلى أفلام عالميّة حازت قبول المشاهدين والنقاد على حد سواء. وهو جرّب في بداياته تعاطي المقالات الصحافيّة عندما استكتبته الـ «غارديان» البريطانيّة عام 1983 ليكتب عن ناغازاكي الحزينة. يومها، كتب نصاً غير متوقع أدان فيه توظيف مآس كبرى في الأعمال الأدبيّة لاكتساب الأهميّة من دون امتلاك القدرة على نقل فداحة لحظة الموت والقيامة بعده. لكنه أحس أن الكتابة للصحف عمل يلوّث تجربة المبدع «لأنه سينطق كما يريد الآخرون»، ولم يعد لها قط.
ينشر إيشيغورو رواية كل خمسة أعوام تقريباً وإن إحتاجت روايته الأخيرة لعقد كامل كي ترى النور. هو يقول إنه يكتب دائماً، لكنه معني بالناس والحكايا. ولذا، عندما اشترى كوخاً في ركن قصي من الريف الإنكليزي لينعزل ويكتب، انتهى إلى قضاء معظم وقته متسكعاً في المقاهي المحليّة يأكل كعكاً إنكليزياً محلّى ويشرب مع السكان اللطفاء شاي المساء. هذا التعطش لحكايا الآخرين وحده يفسّر كيف أنّ أفضل من كتب عن أجواء الأرستقراطيّة البريطانيّة في فترة ما بين الحربين العالميتين (بقايا اليوم – 1989) كان هذا الشاب الياباني الأصل.
عن «بقايا اليوم» تحديداً، يقول ايشيغورو إننا كبشر نكبر في «قبائل» تعرف تماماً ما هو الصواب و ما هو الواجب. «لربما إذن لو ولدت في جيل سابق لأصبحت فاشياً أو نازيّاً». فمن أنت لتخطّ لنفسك طريقاً مغايراً لما كبرت عليه بينما كان والداك منخرطين في مؤامرة لجعل العالم يبدو كأنه مكان جميل ينبغي أن نشعر نحوه بالانتماء وبالواجب؟
كل رواية جديدة لإيشيغورو هي مغامرة أخرى في الأشكال الأدبيّة: ديستوبيا، وفانتازيا، وسايكولوجيا، وأوهام وتهيؤات، لكننا ما زلنا بعد على أطراف عالمه الذي تأسس مفعماً بالولادات والقيامات والذاكرات المشتبهات. ولذا، فإن القادم من أعماله سيكون دون شك أفضلها.