في حال فاز ياباني بجائزة «نوبل» للآداب هذا الموسم، سيكون هاروكي موراكامي! لكن التوقعات شيء، ورأي لجنة العجائز الغامضين في الأكاديمية الملكية السويدية شيء آخر. لم تبتعد الجائزة كثيراً عن الأرخبيل الياباني، إذ ذهبت إلى روائي آخر نصف ياباني ونصف بريطاني هو كازو إيشيغورو (1954).
قراء العربية لم يهتموا بهذا الروائي كثيراً، رغم ترجمة ثلاثة من أعماله إلى لغة الضاد، هي: «بقايا اليوم»، و«عندما كنّا يتامى»، و«فنان من العالم الطليق» (المركز القومي للترجمة/ القاهرة ــــ دار أزمنة/ عمان). بذلك يحتل هذا الروائي الذي يكتب بالانكليزية الرقم 3 في قائمة «نوبل» بالنسبة إلى اليابانيين، بعد ياسوناري كواباتا (نالها عام 1968)، وكنزابورو أوي (1994). ولادته في ناغازاكي، المدينة التي دمرتها القنبلة الذرية الأميركية (1945)، تركت آثاراً عميقة في روحه. هذا ما سنجده في أطياف روايته «فنان من العالم الطليق» التي رصد خلالها «عملية إعادة تقييم مبادئ الحرب والسلام» بطريقة ملتبسة تضع قارئها في حيرة. إذ يترك الأسئلة معلّقة من دون إجابة حاسمة في ما يخص مسألتي العقاب والغفران، والتأرجح بين مديح الأمس والتطلّع نحو المستقبل، و«الرضى الزائف عن الذات»، وخزي الخسارة. عالم قلق ومضطرب ومدن بلا أسماء، تنعشها الذاكرة وحدها بنوعٍ من الاتهام والسخط «هناك رائحة شيء يحترق في المنزل.. لقد شممت رائحة حريق» يقول. عبارة من هذا الطراز قد تحتمل أكثر من معناها المحسوس لتذهب إلى دلالات أخرى تتعلق ببلاد كاملة. الحرب حاضرة إذاً، في معظم أعماله، فقد كانت روايته الأولى «منظر شاحب من التلال» (1982) تصوّراً أولياً عمّا تركته آثار القنبلة الذريّة من حطام نفسي على شخصياته، ومرثية في معنى الفقدان، على خلفيّة من العزاء العاطفي، أو وفقاً لوصف لجنة جائزة نوبل «عرّى في رواياته التي تتسم بقوة عاطفية عظيمة، الخواء الكامن تحت شعورنا الواهم بالعلاقة بالعالم». هكذا يستدرج درجات الخواء بنبرة تهكمية، في مواجهة الواقع الراهن، وتلك الحيرة، أو الصدام بين التقاليد اليابانية العريقة/ العتيقة، والحداثة المتوحشة التي تصل إلى حد الخيانة، أو الخدعة. بنظرة أخرى، فإن صاحب «من لا عزاء له» يعمل في منطقة فضح الخديعة، لكنه في المقابل لا يغرق مباشرة في الإجابات الحاسمة عن يابان ما بعد الحرب العالمية الثانية: «ينازعني حنين إلى الماضي، وإلى الحي كما كان. بيد أني حين أبصر كيف شُيّدت المدينة من جديد وكيف تعافت بسرعة فائقة خلال هذه الأعوام، يشمل قلبي سرور أصيل». ربما سنقع على أكثر نصوصه مهارة وقوة غنائية، في روايته «بقايا اليوم» (بوكر/ فيلم سينمائي). هنا يلتفت إلى فضاء آخر، لا يخص ذاكرته اليابانية، باستدعاء حياة رئيس خدم في قصر أحد اللوردات الإنكليز، وتشريح معنى الكرامة والعار بنبرة فلسفية خفيضة، في استذكارات متتالية، تنفتح تدريجاً على المشاعر المختلطة والعالم الداخلي المخبوء، بالإضافة إلى استكشاف عالم النخبة وكواليس السياسة، والحب المحبط. لكنه هذه المرّة سيسجّل بحسم على لسان كبير الخدم «ستيفنس» ضرورة الخلاص من أعباء الماضي بقوله: «لا تنظر خلفك طوال الوقت و إلا ستصاب بالاكتئاب. أنظر دائماً إلى الأمام بأمل». خصوصية أدب كازو إيشيغورو تتمثل في استخدام ضمير المتكلم في معظم رواياته، ما يمنحها دفئاً، أقرب ما يكون للتجارب الذاتية، لكنّ اعتناءه بالتفاصيل الدقيقة يرهق رواياته أحياناً بما يفيض عن حاجة المتلقي (بتأثير الترجمة ربما؟). لكن مهلاً، لماذا ذهب خيار «نوبل» إلى روائي كلاسيكي؟ على الأرجح، رغبت اللجنة في طي صفحة بوب ديلان الذي حصد الجائزة في العام الفائت وما رافق ذلك من احتجاجات وسخط. مهما يكن، فإن روائينا محظوظ، فهو بسبع روايات اخترق الصفوف نحو الواجهة، مكللاً بجوائز وأوسمة مرموقة، و40 لغة عبرتها رواياته.
ولكن لماذا لم يحصدها مواطنه هاروكي موراكامي الذي شغفنا به أكثر؟ نظن أنه سيكمل تمارينه اليومية في المشي، وهو ينصت إلى موسيقى الجاز غير عابئ بما يحدث حوله.