من جذوع العقيق، من اليشم الأردني، من رخام كرارا والرخام الأسود، من الصوان والترافيرتين، من أحجار لبنان، من صخور الأردن، ترفع منى السعودي (1945) هيكل النحت الأصيل كمن يرتّل للحجر صلاة الشغف: «حبيبي، أنت نقطة عليها دائرة الوجود. فكنت أنت فيها العابد والمعبود». وكذا، قالت يدا منى السعودي للحجر: كن! فكان «العابد والمعبود والمعبد». عشرات المنحوتات حوّلت الصالة الكبرى في «غاليري صالح بركات» إلى هيكل حميمٍ يؤكد أننا عاجنو طينة الآلهة مُذ تكوّن الشِعر! ثم من حبرٍ ومائيات وطباعة حريرية، ارتصفت أيقوناتُ أحرفِ أدونيس المباركة، وزنّرت التعويذات الجمالية لـ «نشيد الاعتدال» من سان جون بيرس، حدود طيف «شجرةٍ» على «أرض» قصيدة محمود درويش... فكانت هديته. وبعض الهدايا تُعتّقُ، لتقدّم أواخر المواسم، كالخمر المقدّس في عرس قانا الجليل، أو كنصف قرن ونيّف من طقوس منى السعودي النحتية «المسكونة بالقصيدة»

«الحجر الصديق»
«قلِ الحجر مسكونٌ بالغيب» (أدونيس).

من هذه العبارة وعلى على بُعد 12 عاماً من معرضها الأخير في بيروت، تعود ابنة «ربّة عمّون» (الاسم القديم لعمان تشير إليه منى السعودي بشوق الانتماء) لإحياء طقوس أجدادها البنّائين بالحجر. تختار لهذا المعرض من كنوزها المنحوتة منذ مطلع الألفية الثانية حتى اليوم، ما يحتم الطواف حوله أو الابتهال أمامه. هنا «القمر مكتملاً»، وهنا «ماء الحياة»، وهناك «شروق الشمس»، وها هي «أمنا الأرض»! يطوف صالح بركات حول كلٍّ منها، يتذوق تفاصيلها بلمسات التبرُّك ويُسرُّ لـ «الأخبار»: «منى السعودي آخر النحّاتات الكبيرات!» يقولها بيقين وتقدير. «شغوفة تفاصيل. انظري هذا! إنه عمل جبّار! انظري إلى التفاصيل. من لا يعرف عالم النحت، قد لا يدرك صعوبة الوصول إلى هذه النتيجة. أعمال منى تلمس الدواخل الإنسانية! في الحقيقة، هذه المنحوتات تتواصل، تنقل الموجات والارتدادات. هناك شيء ما يعود إلينا من هذا النبض التي بثته منى في الحجر! متعة حسية فائقة تتدفق منها!».
كيف لا؟ ففي حين درجت العادة أن يصنع النحاتون نماذج صغيرة، ثم يوكلون نحت نسخات العرض المكبّرة ليدٍ أخرى، وحدها يدا منى السعودي بقيتا وفيتين لـ «الحجر الصديق». يتابع بركات بَوحه، «منى من النحاتات النادرات اللواتي ينحتن بأنفسهن أعمالهن! وددت أن يكون هذا المعرض أقرب إلى تكريم لمسيرة هذه السيدة التي تعمل بجد في الظلّ دون ضجيج. هي مسيرة عبر العالم تستحق التقدير».
نصف قرن من النحت، ومختارات من الربع الأخير منه لهذا المعرض، لا للضوء ولا للقراءة ولا للتأمل فقط، بل لاستعادة الشوق العربي للنحت، للأيقَنة، لتأريخ الشغف.
«أشتاق إلى الحجر- صديق أنقشُ فيه حنين الروح، أشكالي تتعدد، تستدير وترقّ، تستطيل وتتربّع، وأدعو أن لا يتركني هذا الشوق، هذه الرغبة في البحث» تكتب السعودي (تأملات/حجارة – مجلة «مواقف» 1988 تحت عنوان «الحجر الصديق»).
«الحجر الذي هو رداؤك وعريّك، هكذا تخلعينه وتلبسينه، يتألق حضورك الخفيّ، في هذا الصمت يحكي. أحكي عن استدارات تُنبتُ خطوطاً ومساحات، تتحول إلى أزمانٍ وأسفار، وتأخذ مداراتها عبر مسارات كونيّة، وكما تكون الذرّة، البذرة، كما يكون النظام الكونيّ، يدخل كل شيء في الحجر، لا ليتحجر، بل ليتفجّر، لتنبعث الخصوبة والعشق. أعشق كل ما هو حي، وكل ما أعشقه يحيا، وما عرفتُ إلا الإله الذي يسكن في ذرّات الضوء والأرض، في يديّ وفي قلبي، وفي عقلي، في القدرة الخالقة حيث كل شيء قابل لإعادة التكوين» (دائماً بحسب تأملات /حجارة).
وفي حديث إلى «الأخبار»، تنطلق السعودي من شرح إحدى منحوتاتها (حالات الأرض والإنسان) إلى شرح كامل انتمائها: «في حالات الأرض والإنسان. نجد من جهة السلام، الأمن، الهدوء الكامل، الجمال.. لكن في كل شيء من هذا النوع، هناك هذه النقطة. وهذه النقطة تنفجر فجأة أو تميل الأرض وتتحرك! أو يموت الناس أو يحزنون أو تبدأ العواصف، وألف احتمال. وكذا الإنسان والأرض، أربط حالاته بها. كل شيء عندي ينتمي إلى الأرض!». ماذا في الأرض؟! بلهفة تجيب السعودي: «كنوز من الأحجار! كنوز الأرض ليست في الذهب والماس. كل هذه الأحجار كنوز من الأرض والأرض ممتلئة! ولا نعرف عنها شيئاً. هذه الأحجار هي من الأرض السحر! وهي السر!».

أيقونات الجوهر
«لأن اللوحة هنا حلم المنحوتة وتاريخها» (خالدة سعيد - عن أعمال منى السعودي)

تتوالى الطقوس على طول القاعة وعرضها. نتابع مع بركات طوافه وصولاً إلى خارج حلقة المنحوتات. يتوقف أمام لوحة بلون المحيط. يرتل أمامها ما رسمته منى في قلب هذا الأزرق «وليل كموج البحر!». ينتبه بركات من جاذبية الأحرف ومانترا الماء في لوحات السعودي. يقول لنا: «أحب علاقة النص بالصورة، هذه العلاقة الملتبسة عند العرب وسكان هذه المنطقة بين أن تكون ايقونوكلاست أو لا. للصورة، للعقل، للشعر، أحب هذه الصلة». صلة رسّختها منى السعودي بقرابة مئة عمل معروض في الصالة الكبرى حيث يظهر اللون فجأة بقوة مغناطيسية جاذبة.

زنّار الأيقونات يلف الصالة
الكبرى، وتتوالى التلاوات، ويتصاعدبخور الشعر

«تظهر الألوان في أشكال المستطيل أو المربع أو الدائرة أو المثلث وما يتفرع عنها. وفي الوقت الذي يلتبس علينا المشهد حيث يتحول اللون مرة إلى مستطيل أو مربع أو يتحول المستطيل إلى لون أخضر أو أزرق، يأخذنا أسلوب هذا التشكل من نظام الاصطفاف إلى نظام التجاور، إلى نظام التوالد إلى نظام التقاطع في تشابه غير متشابه» وفق كلمات المعلم سمير الصايغ الواردة في كتيب المعرض تحت عنوان «طريق إلى الجوهر». وما بين اللوحات الحبرية والمائية والالوان، صلات أحرف.. وطريق.. وعبور.
يفيض الصايغ في الوصف: «إن العبور من الصورة الظاهرة إلى الصورة الباطنة، سيفتح أمامنا باب الأجوبة وسيرفع المفاجأة التي أوحى بها حضور هذه الألوان، فتدفقها بقوة وتماسك ونظامية وتنوع ووضوح، تؤكِّد أنّها تجيء من ممارسة طويلة وماضٍ زاخر (..) فحين نقف أمام منحوتاتها في أشكالها التعبيرية أو التجريدية، تلك التي تستكشف أو تلك التي تتجوهر، ندرك أن السعي دائماً كان يتَّجه إلى الداخل، إلى داخل الحجر أو داخل القلب، فما تلك الانحناءات، تلك الأثلام الدقيقة، تلك الخدوش، إلا ممرات سحرية لنصل عبرها إلى روح الحجر».

سان جون بيرس، درويش وأدونيس
«والشاعر يبقى دائماً بيننا»
(سان جون بيرس)


يبقى زنّار الأيقونات يلف الصالة الكبرى. وتتوالى التلاوات، ويتصاعد بخور الشعر. وهي هي الطفلة منى السعودي منغمسة في عالم الشعراء كعطش السمكة للماءِ حياةً: منه تنهل وله تعود وبه تبدأ وعنه تحكي. هنا 13 عملاً تحية لسان جون بيرس، أقرب لتنويعات على مقام قصيدته «نشيد الاعتدال» بترجمة أدونيس. قدّمتها الفنانة الشاعرة بصيغة طباعة حريرية ورقمتها بـ 77 طبعة أصلية لكل تنويع. ثم هناك الأيقونات الـ 12 من وحي قصيدة «رقيم البتراء» لأدونيس.
مطبوعات حريرية ومائيات وحروف تشكل ماء اللوحة. «هذه الرسوم محاولة تواصل مع القصيدة وإيحاءاتها، لا تفسَّر ولا تُشرَح ولا تُزيَّن، بل تحاور النص الشعريَّ وتدخل به عالم الشكل المرئي. وعبر الشعر، أعيد اكتشاف وصياغة أشكالي وخطوطي. أعمالي بمجملها تأتي من ذاكرة شعرية. أعتبر المنحوتة جسداً للقصيدة، والرسم شعراً مرئيّاً. هذه الرسوم هي تحية محبّة للشاعر أدونيس صديقاً ومُلهِماً» بحسب بيان السعودي.
وفي الجزء الحميم، تأتي «قصيدة الأرض» لمحمود درويش وسواها من قصائد الراحل، على شاكلة مجموعة لوحات أيضاً. «هذه هديتي لك يا محمود واعتذر عن التأخر في ارسالها» تكتب منى الصديقة. لوحات كانت ستكون هدية عيد ميلاده في شهر آذار (مارس)، لكنه رحل في آب (أغسطس). منى التي نذرت سنوات طويلة من عمرها للقضية الفلسطينية. كان الشعر رفيقها أيضاً، وكان القضية. ألم تفتتح رحلة المعرض هذا بأحرف هولدران؟ لأنّ «الشعر هو براءة العالم»؟

«منحوتات وأعمال على ورق ـــ 1995 ــ 2017» لمنى السعودي: حتى 28 تشرين الأول (أكتوبر) ـــ «غاليري صالح بركات» (كليمنصو ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/365615