شهادات | طويل القامة، صوت عالٍ، حركات كبيرة، أفكار عظيمة... جلال خوري. كنت في العشرين من العمر، كنت أعرف غيباً المسرح الكلاسيكي الفرنسي، كورنيل، موليير، راسين، وكنت واثقاً من نفسي. فإذا بمتشرّدَين ينتظران غودو (Godot) بالقرب من شجرة هزيلة على خشبة صغيرة، وينطقان حواراً غير متماسك. كان أحدهما جلال خوري. في ذلك اليوم، تقوّضت معالم ثقافتي المسرحية. قلت لجلال، منذ وقت ليس ببعيد، إنه كان معلّمي دون أن يعرف، وإنّني كنت أستمع إليه وأحلم بأن أكون مساوياً له. ضحك (ضحك جلال!) ورّبما لم يأخذ كلامي على محمل الجد. غير أنّه هو أوّل من علّمني أنّ المسرح يحرّض على التفكير، وأنّه مكان يسعى فيه المرء إلى البحث عن إجابات، وأنّه فنّ يعكس الواقع من أجل إدراك الواقع.سبقني في التحوّل من المسرح الفرنكوفوني إلى المسرح العربي. بل أكثر من ذلك، هو الذي قذفني فجأة في تجربة لم أكن مستعداً لها، مثل رمي شخص في البحر كي يتعلّم السباحة. ولكن في تلك الفترة، كنّا لا نتردّد في تلبية طلب الصديق مهما كانت صعوبة الطلب.

كنّا زمرة رفاق في الـC.U.E.D. (المركز الجامعي للدروس المسرحية)، وروابط الصداقة التي انعقدت آنذاك لم تنفكّ قطّ. كذلك مثّل جلال في تجاربي الإخراجية الأولى، وكذلك مثّلتُ دور أرتيرو أوي (Hitler) في تجربة جلال الأولى باللغة العربية.

كان يستخدم بريخت لأنه
كان يعتقد أنّ نظريته أداة صالحة

قيل إنه كان في خدمة بريخت (Brecht). هذا ليس صحيحاً. كان يستخدم بريخت لأنه كان يعتقد أنّ نظريته أداة صالحة. كان جلال هذا المجادل المثابر الذي يتوقف في كل مرحلة للتأكد من أنه على الطريق الصحيح. أي طريق؟ تلك التي من شأنها أن تؤدي إلى مجتمع أفضل، لأن مصير المجتمع «ليس حتميّاً بل قابل للتغيير».
مهما كانت الظروف السياسية العربية أو العالمية، كان لديه تحليل جاهز وقاطع ركائزه إدانة الرأسمالية وشجب دولة إسرائيل. وكان يرفق التحليل بتعليق ساخر ومضحك، ذلك بأنه كان أنيساً وكانت الجلسة معه دائماً مسلّية.
لقد مرّت السنوات واجتازتها الخلافات وخطوط التماس، إلا أنّ الصداقة لم تتعثّر، وعندما كنتُ في وضع صعب بعد الحرب الأهلية، قامَ بإدخالي إلى معهد الـIESAV (في الجامعة اليسوعية) حيث وجدت الاستقرار الذي كنت بحاجة إليه بغية تأمين معاشة عائلتي.
معلّمي، صديقي، زميلي، إذا خسفت صورتك في غياهب النسيان التي يوفّرها للفنّانين الراحلين هذا البلد المفقد للذاكرة، كما يوفّرها للأصدقاء الذين سبقونا: عصام محفوظ، فاروق سعد، أسامة العارف، يعقوب الشدراوي، غازي قهوجي، برج فازليان... أعرف أنني سوف أعيد بلا فتور وبمحبّة كبيرة قراءة صفحة التاريخ التي كتبناها معاً.