القدس المحتلة | ربما بسبب الذكر والتهديد المفرط بنقل السفارة الأميركية إلى القدس منذ دعاية ترامب الانتخابية وما تبعها، لم نعر ــ وربما المحيط المقدسي العام أيضاً ـــ قدراً من الأهمية لما يمكن أن يحمله ذلك الخطاب الذي لم يقل شؤماً عن غيره من الخطابات المماثلة.
يبدو أنّ ادراك مواطني القدس لكون قضيتهم تشخصنت منذ حين، أنتج ما يمكننا وصفه ببنج ضد الصدمات، ذي مفعول يعمل على حفظ رباطة الجأش الوهمي. أمر أبطلته دقائق ما بعد انتهاء الخطاب بلحظات!
للحقيقة، لم يتم إعارة الخطاب أهمية أكثر من أي خطاب ماضي أو مستقبلي، وربما لحظات سماع كلمات الخطاب لم تكن بالمفاجئة. وحتى هنا، يمكن التعويل على المخدر. وأتحدث هنا تحديداً من زاوية شخص من مواليد أوسلو، عاش في القدس منذ اتفاقيات السلام الداخلية والخارجية، وعايش فترات مد وجزر صعود ونزول وتحولات (وهنا يكمن مربط الفرس). تحولات لم نعشها فقط بل يؤسفني القول، إننا عايشناها تحت ضغط أجواء استعمارية تعمل دوماً على دعس هوية المستعمَر وتهجينها. للوهلة الأولى، لم يعط الخطاب صداه المتوقع حدوثه. لعل الاعتياد على السوء جعل كيونتنا تتوقع الأسوأ دوماً. لكن ما تلاه من صمت بين المتسمرين أمام التلفزيون، يفسر هذا الحداد على موت مُتوقع لعزيز صارع المرض طويلاً كما وصفته صديقتي المنكوبة.
والمسكّن الوحيد الذي كان يمكن له أن يخفف من هول ويلتنا، هو ما الفرق بين القدس وتل أبيب؟ القدس لم تكن مستعمرة مثلاً؟ أم أنّ تل أبيب لا تشكل جزءاً من أرض فلسطين؟ في كل الأحوال، لم يتغير الوضع كثيراً، طالما أنّ السفارات موجودة على أرض فلسطين المحتلة أينما كانت. وان كانت عاصمة الكيان الاستعماري القدس أو تل ابيب أو أي شبر من أرض فلسطين، فالنتيجة واحدة!
بين الحزن على مدينتي العاصمة وبين ضياع الأهداف والرؤى، تكمن الكارثة الأكبر. لدى البعض، انتهى حلم القدس عاصمة فلسطين، وأي فلسطين؟ فلسطين ذات حدود عام 1967؟ وإن كان كذلك، فان أفضل ما كان يمكننا جنيه اليوم هو اختفاء القدس كلياً. لأننا في هذه الحالة، سنحافظ على رؤية القدس عاصمة لفلسطين الحقيقية، لا لبقايا فلسطين.
وان كان الخطاب المذكور، دُفع بتوجيهات عربية، فلن يغير من الواقع شيئاً. فلم تعد الوعود المحيطة تعني شيئاً في محيطي ولا حتى ما يدعى بالخيانات أو تخاذلات بعض العرب، الذين ما فتئنا ننادي «وين الملايين» معاتبين خيانتهم. فلم يثبت التاريخ يوماً نتيجة معاكسة، لتكون أطلالاً نعيش عليها اليوم.
للحقيقة! تبدو القدس اليوم حزينة! وربما للمرة الأولى أشعر بأساها! كم يواسيها أعداد الصحافة الهائل على درجات بوابة دمشقها؟ وهم بأغلبيتهم مفبركون ومحرفون لواقع الآخر الموجود أمامهم على الدرج المقابل. أو كيف يمكن تفسير تجمهر مجموعة سيّاح، لأخذ صورة تذكارية في ظرف كهذا؟
الآن يمكننا رؤية المشهد بوضوح، من زاوية على درجات باب العامود مع كوب من الشاي الساخن في ظل الهواء البارد الذي ارتاعنا ليس البارحة فقط! ترى على الزاوية المقابلة تماماً، خطاً من الصحافيين منتصبين هم وكاميراتهم كمترقب لحدث آت لا محال. وعلى محطات متفرقة من الدرج نفسه، تجد أناساً فرادى أو جماعات خائبة، ربما لم يتبق لها غير هذا الدرج، ولا وسيلة غير الاعتصام لاثبات فلسطينية القدس عليه. ولاكتمال المشهد، كان لا بد من رشفة شاي من يدٍ متجمدة محتمية بدفء هذا الكوب. فكم كوباً مسكّناً نحتاج للاحتماء من العاصفة التي بدأت منذ بلفور وسايكس بيكو حتى اليوم؟ وكم ويلاً سنجنيه بَعد على هذا الشعب قبل تحويل المشهد؟