وصلتني إلى بريدي الإلكتروني رسالة من صديق، تتضمن رابط فيديو على «اليوتيوب» لتعليم اللغة العربية للناطقين بالعبرية. وللدهشة كانت المادة التعليمية هي قصة قصيرة لي، وأمام دهشتي وارتباكي، أرسلت سريعاً للصديق أؤكد له أني لم أعط الأذن لأي موقع إسرائيلي لنشر قصصي، وتوقعت أن الموقع حصل على القصة أثناء مشاركة مجموعتي القصصية في مشروع «رواة المدن» الذي تبنته معاهد غوته في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
ولا أنكر أن ارتباكي هذا تحول لاحقاً إلى شعور بالانتهاك وربما قلق من فكرة أن اسمي موجود على موقع عدو، وأن قصتي، التي تحكي عن عصفور غر باع جناحيه ليحصل على قدمين ويتنزه في المدينة، وحين أراد أن ينام اكتشف أن «لا أعشاش في المدينة»، لم تعد حكاية بريئة كما كانت بينما أستمع إليها بصوت الإسرائيلي، الذي لا أستطيع أن أتخيله إلا سارقاً للمدن والأشجار وأعشاش العصافير. فأنا نشأت في بلد، لم يتنازل يوماً عن موقفه الرافض للاعتراف بوجود الكيان الصهيوني، ولم يهادن أو يفاوض أو يتبع «الموضة» التي شاعت خلال السنوات الأخيرة في بعض البلدان، والتي تدعو لفصل الثقافة والفن عن السياسة، والمشاركة جنباً إلى جنب مع إسرائيليين في المهرجانات والاحتفاليات الثقافية واعتبار التطبيع الثقافي مع العدو حرية فردية، بل وشكل من أشكال التواصل الإنساني الطبيعي والتبادل الثقافي!

سرعان ما اكتشفت أن الفيديو موجود على ثلاثة مواقع إسرائيلية أخرى مهتمة أيضاً بتعليم اللغة العربية. وفي أحد تلك المواقع فيديوهات تتضمن قصصاً لأدباء من سورية وفلسطين والعراق ولبنان ومصر والكويت والسعودية والجزائر، منهم: غادة السمان، نزار قباني، محمد الماغوط، أدونيس، إحسان عبد القدوس، جبران خليل جبران، محمود درويش، أنسي الحاج، سعاد الصباح و غيرهم.

وإن كانت لمحمود درويش آراء تميل للتطبيع الثقافي مع الكيان الصهيوني، وكذلك نجيب محفوظ الذي سبق أن عبرعن تأييده لسياسة «السلام» مع إسرائيل، فمن المفارقات وجود قصة للكاتبة سلوى بكر، التي فازت هذا العام بـ «جائزة محمود درويش للإبداع»، ورفضت الذهاب إلى فلسطين لاستلامها، وبررت ذلك بأنها «رغم شوقها لزيارة الأراضي الفلسطينية، وإلى رام الله على وجه التحديد، فهي، نفسياً، لا تستطيع العبورعلى معبر إسرائيلي، كونها تنتمى إلى جيل تربى ونشأ على قناعات بأن إسرائيل هي العدو».

وبعد فشلي في إيجاد طريقة لحذف الفيديو، خطرت لي فكرة، لم لا أقيم دعوى قضائية على الموقع، الذي نشر قصتي وقصص الكتاب الآخرين من دون أخذ إذن بالترجمة؟

ولدى استفساري من أحد المحامين حول إمكانية رفع الدعوى، قال لي ما معناه أن إسرائيل سرقت بلداً كاملاً بكل ما فيه من حكايات وبيوت ومفاتيح وشجر، ولم يستطع أحد إيقافها، فكيف أتوقع أن أتمكن من مساءلتها على سرقة قصص وقصائد؟

كلامه جعلني أبحث على «غوغل» عن سرقات إسرائيل، ليتبين لي أن المواقع الإسرائيلية آنفة الذكر كانت «محترمة» حين سرقت القصص وترجمتها دون إذن، كونها نسبتها إلى أصحابها، إذ ما أن كتبت عبارة «إسرائيل تسرق» حتى ظهرت أمامي قائمة طويلة من خيارات السرقة المنسوبة للكيان الصهيوني ومنها: سرقة كتاب « كليلة ودمنة» و« ألف ليلة وليلة» و«علي بابا والأربعين حرامي»، و«نوادر جحا» و«علاء الدين والمصباح السحري» ونسب هذه الحكايات إلى التراث العبري التوراتي، سرقة كلب بلدي مصري وتسجيله على أنه كلب إسرائيل الرسمي، سرقة أغنية فيروز «سألوني الناس» من قبل فرقة إسرائيلية والادعاء بأنها من تأليفها وألحانها، علاوة على سرقة أغنية هاني شاكر «حسستك بالأمان» واستخدام الشرطة الإسرائيلية لجزء منها في حملة لمخاطبة أبناء فلسطين، سرقة الفول والفلافل والحمص والشاورما والتبولة والكبة والسحلب ونسبهم لتراثها، سرقة الغاز المصري والنفط السوري، سرقة الزي الفلسطيني التقليدي وارتداؤه من قبل مضيفات خطوط الطيران الإسرائيلية «العال» على أنه ثوب من التراث الإسرائيلي، وصولاً إلى سرقة الأشخاص حيث قامت وزارة الثقافة الاسرائيلية بتدشين مركز دراسات في تل أبيب باسم الراحل كامل الكيلاني رائد أدب الأطفال في مصر والعالم العربي، بزعم أنه من اليهود الذين عاشوا في مصر بحي عابدين.

وبعدما تعبت من ملاحقة سرقات هذا الكيان الهلامي المختَرع الذي لا هوية له ولا تراث ولا تاريخ، سألت نفسي بحيرة حقيقية: كيف يستطيع عربي مثقف، (يتقن القراءة على الأقل) أن يتعامل بعادية وطبيعية «معنى كلمة تطبيع» مع هذا الكيان المجرم؟

وهنا استحضر رد الشاعر السوري أدونيس على سؤال حول التطبيع الثقافي مع إسرائيل: «إسرائيل ليس لديها ثقافة، فما يسميه البعض ثقافة إسرائيلية ليس سوى ثقافات الأمم والشعوب التي جاء منها المثقفون في إسرائيل، ونحن لسنا في حاجة الى التطبيع مع إسرائيل لأنه ليس هناك ما يعطونه لنا، لكن نحن لدينا الكثير الذي نعطيه لهم كمثقفين، وقد أخذوا منا على مر العصور ثقافتنا وموسيقانا وأغانينا ولغتنا».