يخوض المسرحي اللبناني ميشال جبر تجربةً خاصة في «كيفك يا ليلى». المسرحية التي كتبها استناداً إلى وقائع حقيقية، سبق أن قدّمها مرتين: العام الفائت على خشبة «مسرح المدينة» احتفالاً بعامه العشرين، ثم أعادها على «مسرح مونو» (الأخبار 17/1/2017). وها هو يعود بها إلى «مسرح المدينة» مجدداً.
إنها حكاية مونودرامية ترويها «ليلى» (نيللي معتوق) تقوم على مزج الذكريات بالواقع، بالمحكي بالمجرّب. يطرح السؤال بقوةٍ: لماذا هذا العنوان المختلف؟ ثم ما الذي تريد هذه المونودراما قوله؟ يجيبنا جبر بكل مباشرة: «حين تكون الفتاة عازبة، يسألها الناس: كيفك يا حلوة؟ كيف صحتك؟ أما بعد زواجها فيتوقفون عن سؤالها عن نفسها، ليصبح استفسارهم: كيفهن ولادك؟ كيفو زوجك؟ يبدو الأمر كما لو أنّها انتهت واختفت. هنا السؤال: هل المرأة هي آلة للإنجاب والمتعة فقط؟ «كيفك يا ليلى» أيضاً لأنّ البطلة عندي اسمها الحركي «ليلى» تتعاطى المخدرات وتقوم بالكثير من الأمور، لذا اتخذت اسماً مستعاراً».
إذاً، تقوم المسرحية على رواية القصة الجدلية لهذه الفتاة التي تبدأ علاقتنا بها من خلال «كاستينغ» (اختيار ممثلين) لمسرحية جديدة يقوم بها المخرج (داخل المسرحية). ضمن الكاستينغ، تتقدم ليلى وسط ديكور لمسرحية «النورس» للكاتب الروسي أنطون تشيخوف. يسألها المخرج: «من أكثر شخصية أثرت بك؟» تقول: «نينا لأنها تتوق إلى الحرية». فحبيبها الذي أُغرمت به، لم يكن يحبّها جدياً، كان يتسلّى. وحين سئم، تركها، فانهارت، كأن أحداً اصطاد نورساً وعطبه» يشير جبر. تغوص ليلى في أنويتها وقصصها الذاتية وتجعل المشاهدين يغوصون مثلها في تلك التجارب الشخصية والحادة.

نص متناسق، وحركة على المسرح، واستخدام الضوء
والصوت بطريقة منهجية

تجارب تبدأ بعلاقتها الملتبسة مع جسدها الذي أصبح «عقدةً» بالنسبة إليها، فوالدها «كان يضعها على الميزان أمام عائلتها، طالباً منهم جميعاً أن يراقبوا وزنها». هنا كانت البداية للشخصية، تلك العلاقة الملتبسة مع الجسد تخلق كائناً ثائراً، راغباً في الابتعاد، في الهروب، في الخروج على التقاليد، لكن في الوقت عينه تواقاً لقبول الآخر له. والآخر هو والدها قبل أي إنسان آخر. «حدث مع ليلى ذلك لأن والدها عطبها عن غير قصد، وهذا منعها من التصالح مع نفسها. والدتها كانت سمينة أيضاً، فأصبحت محتارة تسأل نفسها: والدي يكره المرأة السمينة، لماذا إذاً تزوج أمي؟ من ناحية أخرى كانت تريد أن تشبه أمها لتشبع عقدة «إلكترا» لديها». إنها تبحث عن القبول من أيٍّ كان في تماهٍ مع شخصية الأب. حتى إنها في لحظةٍ ما، تجد في «الديلر» أبوقاسم (تاجر المخدرات) الذي تشتري منه «سمها الأبيض»، صورةً عن هذا الأب المفقود، فتحكي مطولاً عن تلك الشخصية التي وجدت أنّها تحن عليها حتى إنّها «تعطيها الحنان مع السم الذي تبيعها إياه». اللافت أنّها كانت مدركةً وواعيةً بأنّ ذلك غير صائب، لكن لم يكن هناك بديلٌ عنه. تبدو التجارب في المسرحية واقعيةً إلى حدٍ كبير، فمن صورة الجسد المهتزة، إلى العلاقة الملتبسة مع العائلة، إلى تفاصيل الحكايا مع الحبيب والمجتمع والعطب الذي تعانيه الشخصية الأصلية للبطلة. يضاف إلى كل هذا الصراع مع المجتمع الذي يقيّم ويتعامل مع أفراده بقوانين وضوابط متشددة، مما يدفع بأي «مخالفٍ» إلى هامشٍ قد لا يكون الخلاص منه بالسهولة المتوقعة.
أدائياً تبدو نيللي معتوق جيدةٍ على المسرح، خصوصاً إذا ما علمنا بأنها تجربتها الأولى في أعمال مماثلة. بدت مقنعة إلى حدٍ كبير بأنها «ليلى»، إذ تنفعل في اللحظة المناسبة، وتخفت حين يحتاج الدور ذلك، ناهيك بأنّ صوتها جميل ومدرّب، نظراً لأنّها درست الموسيقى وتدرّسها، مما أفادها أيضاً عندما تغنّي في المسرحية، وهو أيضاً أحد الأسباب التي جعلت ميشال جبر يختارها. بدورها، تشير نيللي معتوق: «اخترت الدور وأنا أعرف أنه متعب، لكني متحمسة وأنتظر يومياً اللحظة التي أصعد فيها إلى المسرح. أحب الدور، وأحب ليلى وأريد أن أفجر طاقتي في هذه العروض التي أقدّمها». إخراجياً، يبدو جبر ناضجاً إلى حد كبير في التعامل سواء مع بطلته أو العمل ككل، فالمخرج الذي قدّم في السابق أعمالاً مهمة مثل «برناردا ألبا»، «المهاجر»، «هي في غياب الحب والموت»، «ستريبتيز»، و«بلا تحشيش»، يحافظ كثيراً على تقنياته الرئيسية: الديكور الممنهج (الديكور هو في الأساس يقارب مسرحية «النورس» لتشيخوف)، النص المتناسق، الحركة على المسرح، إضافةً إلى استخدام الضوء والصوت بطريقة منهجية. يضاف إلى كل هذا الفيلم القصير الذي يقدّمه في بداية العرض (إخراج جبر) ليحكي كيف كانت بداية القصّة في المسرحية: «إنه موجود لإيضاح الفكرة، في البدايات. لم أكن قد وضعته في بداية المسرحية، لكن وجدت أنه من الأفضل أن يكون هناك كي يوضح القصة أكثر للحاضرين». في جانبٍ آخر، بدت حرفة المونودراما ناجحةً إلى حدٍ كبير، إذ تتحدث البطلة بطلاقة راويةٍ عن قصتها إنما مع تدخلات خارجية من خلال الهاتف الذي يرن، أو الموسيقى التي تعلو وتنخفض، لتأخذ البطلة صوب جانبٍ معين ترويه من القصة. أضف إلى ذلك أنّ الضوء في العمل لعب بطريقةٍ إيجابية لخلق ذلك الجو المتوتر والثائر في آنٍ معاً.
باختصار، تأتي «كيفك يا ليلى» مونودراما جميلة قد لا تكون لجميع المشاهدين، ذلك أن قسوة الواقع فيها يجعل المشاهد الراغب بفسحة «تسلوية» لا يجد ما يطلبه. أما من يريد مشاهدة الواقع بدون تجميلٍ ولا بهارات، فقد تكون هذه المسرحية ضالته بلا منازع.

«كيفك يا ليلى»: من الخميس لغاية الأحد حتى 21 كانون الثاني (يناير) ـــ «مسرح المدينة» (الحمرا) ــ للاستعلام: 01/753010