القاهرة | قبل أيام من رحيله مساء الجمعة الماضي، كان من المفترض بالناقد المصري علي أبو شادي (1946 ــ 2018) أن يدير ندوة حول الكاتب عبد الرحمن الشرقاوي ضمن فعاليات «معرض القاهرة للكتاب». لكن «الأستاذ علي» اتصل معتذراً عن عدم الحضور لأنه يعاني من احتقان في الصوت.
بعدها بيومين، اتصلنا به للاطمئنان والسؤال عن وضع الكتاب الذي يعدّه عنه الناقد محمود عبد الشكور في إطار تكريمه (أبو شادي)، في الدورة العشرين من «مهرجان الاسماعيلية الدولي للأفلام الوثائقية والقصيرة» التي تعقد في نيسان (أبريل) المقبل، فأجاب بأنه انتهى من المراجعة واختيار الصور مع مصمم الكتاب، على أن يكون جاهزاً للطباعة في بداية الأسبوع المقبل.
على مدار عقود، لعب علي أبو شادي الذي ينتمي إلى جيل الكبار من النقّاد السينمائيين في مصر، دوراً في اكتشاف وتشجيع ودعم الأجيال الجديدة، من خلال العديد من المواقع الثقافية التي تولاها كموظف في وزارة الثقافة أو كناقد. هذه الثقة في الشباب الصاعد، ومنحهم الفرص التي لا تتاح غالباً إلا لكبار السن قديمي الخبرة، في بلد يعادي الشباب بالفطرة، كانت إحدى صفات علي أبو شادي التي لم تتغير. وكم من فرص أتاحها للشباب سواء من خلال عمله كرئيس تحرير لمجلة «الثقافة الجماهيرية» (1975-1983) أو عمله في مجلة «الثقافة الجديدة» (1991-2001) أو خلال «مهرجان الاسماعيلية» الذي تولى رئاسته لسنوات، أو لجان التحكيم التي شكّلها أو رشّحهم للسفر إلى المهرجانات العربية التي كان يتعاون معها...
ترك علي أبو شادي «هيئة قصور الثقافة» عقب الأزمة المعروفة باسم «الروايات الثلاثة» عام 2000، عندما ثارت ضجة هائلة وصلت إلى البرلمان حول ثلاث روايات نشرتها الهيئة واتهمها بعض المتطرفين بالإباحية. التقط الكرة بعض رجال الحزب الحاكم لضرب وزير الثقافة آنذاك فاروق حسني. تفادى الأخير الضربة بإقالة علي أبو شادي مؤقتاً، ليعيده بعد أقل من عام إلى الوزارة لتولي مناصب أكبر، كرئيس لـ «المركز القومي للسينما» ورئيس لـ «مهرجان الاسماعيلية» ورئيس لـ «المهرجان القومي للسينما»، وفوق ذلك كله كرئيس للرقابة على المصنفات الفنية. كما لو أن فاروق حسني كان يسخر ممن اتهموا أبي شادي إبان أزمة الروايات الثلاثة بـ «الترويج للخروج على الآداب والإلحاد»!
شكل علي أبو شادي حالة استثنائية وسط موظفي وزارة الثقافة ونقاد السينما. يأتي النقاد عادة من عالم الفن نفسه أو الأكاديمية أو الصحافة، وعادة ما يظل الموظفون أسرى وظيفتهم، يتنقلون بين الإدارات والمناصب حسب الأقدمية ومدى رضى رؤسائهم عنهم. «الثقافة الجماهيرية» وحدها، بحكم حاجتها إلى «منشطون» خبراء في الفن، أتاحت ظهور عدد من النقاد السينمائيين من بينهم كمال رمزي وعلي أبو شادي. لكن الأخير فقط هو الذي استطاع أن يستمر، ويتولى مناصب مؤثرة، حتى أنه اقترب أكثر من مرة من مقعد وزير الثقافة، لكنه كان يذهب إلى شخص آخر في اللحظة الأخيرة.
كيف استطاع أبو شادي أن يوازن بين عمله كناقد صاحب رأي مستقل وقلم حر، وعمله كموظف في دولة بيروقراطية سلطوية لا يستطيع الموظف فيها أن يملك رأياً يختلف عن رأي رؤسائه؟ كيف استطاع أن ينجح باعتراف الجميع في أداء عملين متناقضين، بل متخاصمين، إلى هذا الحد وأن يظل قابضاً على جمر الدفاع عن حرية الابداع وجمر الولاء لمهام الوظيفة الحكومية «السياسية» من دون أن يختل توازنه؟

هو أفضل من قدم ملخصاً وافياً لمسيرة السينما المصرية

لعلّ السر كله يكمن في شخصية علي أبو شادي، وبالتحديد في صفتين من شأنهما تحقيق هذا التوازن: الأولى هي كبرياؤه واعتزازه بكرامته، مما حفظه دائماً من الوقوع في براثن التزلف للمسؤولين أو التنازل من أجل الحفاظ على موقع أو الحصول على ترقية. أما الصفة الثانية، فهي دماثة الخلق والهدوء حتى في أحلك المواقف وأكثرها إثارة للغضب أو الاستياء. وهذه الصفة كانت دائماً ما تفوّت على خصومه فرصة تصيّد الأخطاء له.
أضف إلى ذلك الذكاء الذي يصل إلى حد الدهاء أحياناً، عندما تتأزم الأمور، كما حدث وقت أزمة الروايات الثلاث، أو خلال المواقف العصيبة التي واجهته كرقيب على السينما والأغاني خلال السنوات التي سبقت «ثورة يناير» 2011، وكانت فترة حراك وصراع حرجة بين المبدعين ومؤسسات السلطة، تحتاج من المرء أن يسير فوق الصراط المستقيم، أو بالتعبير الشعبي الدارج «يمشي على العجين ما يلخبطوش»!
استطاع علي أبو شادي أن يحافظ على ايمانه الصادق بحرية الإبداع ودور الفن في السياسة، وهو الذي ألف كتاباً مرجعياً عن السينما والسياسة، وخاض معارك كثيرة في الدفاع عن سينما «الواقعية الجديدة» التي ظهرت في بداية الثمانينيات، على يد مخرجين أمثال عاطف الطيب، ومحمد خان، وداود عبد السيد، وخيري بشارة وشريف عرفة، وكتّاب سيناريو مثل وحيد حامد، وبشير الديك، وفايز غالي، وقدمت أفلاماً مناهضة للتطبيع مع إسرائيل والانفتاح الاقتصادي وانتهاكات الشرطة والاعتقال السياسي، منها: «سواق الأتوبيس»، «ناجي العلي»، «البريء»، «كتيبة الإعدام»، «يوم مر ويوم حلو»، «زوجة رجل مهم»، «الإرهاب والكباب» وغيرها.
كان أبو شادي مدافعاً صلباً عن هذه الأفلام وأصحابها، كما كان مناصراً دائماً للسينما السياسية لجيل الكبار من أمثال يوسف شاهين، وتوفيق صالح، وصلاح أبو سيف، وكمال الشيخ، وللجيل الذي تلاهم وضم أسماء مثل علي بدرخان، وعلي عبد الخالق، ومحمد راضي، وممدوح شكري. لم يكن يخفي أبداً انتماءه لليسار المصري والناصرية، حتى في أكثر الفترات التي كان يتعرض فيها اليسار والناصرية للبطش والتشويه والسخرية.
وبالقدر نفسه من الحماس للأفلام ذات المضامين الثورية واليسارية، كان خصماً شرساً للسينما الرجعية، ولأي فيلم يسيء لليسار أو عبد الناصر.
علي أبو شادي هو أبرز من عبّر عن اتجاه «النقد الاجتماعي» الذي يتعامل مع العمل الفني باعتباره إنتاجاً اجتماعياً سياسياً في المقام الأول. إلى جانب أبي شادي، ضمّ هذا الاتجاه الراحل سمير فريد، وكمال رمزي، وهاشم النحاس. شكل الأربعة معاً ما يمكن وصفه بالنزعة اليسارية في النقد المصري، رغم الاختلافات التي يمكن أن نجدها بينهم. من خلال كتاباتهم منذ نهاية الستينيات، أسهموا في تأسيس هوية النقد السينمائي المصري وخصوصيته وصبغ الاحترام على المهنة بشكل عام، حتى أطلق عليهم من قبل خصومهم من النقاد والسينمائيين لقب «عصابة الأربعة»، الذي يبيّن مدى تأثيرهم ونفوذهم في الحياة السينمائية والثقافية.
إلى جانب المنهج الاجتماعي، تتسم كتابات علي أبو شادي بميل عروبي قومي واضح، وبالتدقيق المعلوماتي والعلمي. هو أفضل من قدم ملخصاً وافياً لمسيرة السينما المصرية، نشر أولاً باللغة الفرنسية في الكتاب التذكاري الذي أصدره «معهد العالم العربي» في باريس بمناسبة مئوية السينما المصرية، قبل أن ينشر بالعربية ولغات أخرى. كذلك كان أول من حاول وضع تعريفات لأبرز الأنواع الفنية film genres في السينما المصرية في كتابه «أنواع السينما المصرية». ومن أهم أعماله مشروع «كلاسيكيات السينما العربية» الذي صدر في أجزاء عدة.
أسهم علي أبو شادي بقسط وافر في «تنشيط» حركة الثقافة السينمائية، وبرع في إدارة المهرجانات السينمائية بشكل خاص. تولى رئاسة «المهرجان القومي للسينما»، فبعث فيه الروح حتى بدا كما لو كان كياناً جديداً مختلفاً، وتولى رئاسة «مهرجان الاسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة» بعد ثلاث دورات متواضعة ودورة توقف بعدها لخمس سنوات، فأعطاه كينونة وكياناً وجعل له مكانة على الساحة العربية والعالمية. وهو المهرجان الذي أسهم أكثر من غيره في التعريف بأنواع من الأفلام لا تحظى بالتقدير ولا الشعبية. كما ساهم في التعريف بحركة السينما المستقلة في العالم العربي، وظهور عدد كبير من السينمائيين الشباب، ممن قدموا بطاقة تعريفهم كسينمائيين للمرة الأولى من خلال هذا المهرجان...
هذا المهرجان الذي يتشرف في دورته العشرين بتوجيه تحية إلى علي أبو شادي، من المحزن أنه لن يكون معنا ليحضر تكريمه. لكن رجاءنا أن أعماله ستظل معنا.