«إذا في انتخابات بيوقف الوطن؟» يقول الشاعر هنري زغيب بنبرة لا تخلو من غضب أمام الحضور القليل العدد في ندوة «العربيّة في خطوطها الغنيَّة» التي نظّمها قبل أيّام «مركز التراث اللبناني» في «الجامعة اللبنانية الأميركية» مع الخطّاط محمود بَعْيون. ولكن هل الأمرُ حالة استثنائية؟ ما الذي يدفع مثلاً طالبات وطلّاباً في الحرم الجامعي للانضمام إلى لقاء حواري حول الخطِّ العربي؟ ولماذا يُحجِم عدد أكبر من ذلك بكثير عن تلبية الدعوة التي وُجِّهت لهم إلكترونياً ومعظم هؤلاء من أهل اللغة والأدب والإعلام؟ «حسناً لنتصرَّف كما لَو أنّنا أمام ألف شخص» يقول زغيب لبَعْيون. يعرف الرجُلان والحضور أن ثمَّة أزمة تتجاوز الخط العربي إلى ما يتعلّق باللغة العربية عموماً و«استعمالاتها» العديدة. يسأل زغيب أحد الشعراء الحاضرين ما إذا كان لديه «إصدار جديد». يقولُ لِآخَر «حلو إنّو بعدك عم تكتب شِعر مَوْزون». برأيه: «واصلين على أزمة كبيرة، أزمة كتابة وأزمة لغة»، لافتاً إلى «غربة» من أسماه «جيل التاب» عن اللغة العربية قراءة وكتابة. يقول رئيس «مركز التراث اللبناني» هنري زغيب لـ«الأخبار»: «أنا مقهور من الانحدار الذي وصلنا إليه. لماذا نستحي بلغتنا؟ وكيف نعيد الثقة بأنفسنا وهويتنا؟» السؤال الأخير هو الأهم برأي الرجل الذي يؤكّد في السياق أنّ «اللغة ليست مجرّد وسيلة تعبير، بل وسيلة وغاية في الوقت ذاته، ويجب أن نستعملها في أبهى حُلّة تماماً كما لو أننا في موعد مع الحبيبة. اللغة العربية حبيبتي وكل حرف فيها له روح ونبض». يشير زغيب إلى أنّ فكرة «لقاءات حوارية حول اللغة العربية» جاءت انطلاقاً من إعلان اليونيسكو تاريخ 21 شباط «يوم اللغة الأم». يقول إنّ المركز يتفرَّد ابتداء من هذه السنة بتخصيص شهر كامل للغة العربية بين 21 شباط و21 آذار، أي بين «يوم اللغة الأم» ويوم الأم. يشير إلى أنّ الهدف من هذه اللقاءات* هو «معرفة مدى سِعة أكبر عدد ممكن من القطاعات المستعملة كي تصبح مبنيّة على اللغة العربية في الممارسة اليومية». ويجزم زغيب: «نحن مَدينون لأمثال محمود بعيون لما قدّمه للخط العربي وللتراث الفني عموماً»، لافتاً إلى أنّ شعار «الفعّالية» (كلمة «لغة») أبدعه بَعْيون نفسه بخطّ كوفي. يعيشُ الأخير مع الخطّ العربي وفي «عوالمه» منذ 65 عاماً. لعلَّه رقمٌ قياسيٌّ لفنّان في هذا المجال. بدا الرجُل في ظهوره الأخير رشيقاً في حركته، مستعرضاً عدداً من لوحاته التي استغرق العمل ببعضها شهوراً عدّة. يقول بعيون: «إذا الخطّاط ما عاش الحرف ما ممكن يبدع فيه مثل العلاقة بين الموسيقيّ والنوتات». ويعتبر أنّ خط الثُلث هو أصعب أنواع الخط العربي. «الثُلث هو الاختبار الحقيقي لأيّ خطاط».
أحد أبرز روّاد الخط العربي في القرن العشرين

ليس غريباً أن يكون القسم الأكبر من اللوحات التي عرضها في الندوة كُتبت بخط الثلث إضافة إلى أنواع خطوط أخرى. يشير الرجل الى تفاصيل الحروف التي خطّتها يداه. يتحدّث عن لوحاته كما لو أنها قِطَع من روحه أو أحد أفراد عائلته. «كل شي عملتو كان شغل إيد. ما بعرف شي بالكومبيوتر». يحاول الرجل بذلك أن يرفع عنه أي «تهمة بالتلاعب بالخطوط من خلال التكنولوجيا الحديثة». ولكن مَن يجرؤ أصلاً أن يشكّك بقدرة ومهارة خطّاط كمحمود بعيون؟ يضيف: «الكومبيوتر، وإن نقل الحرف العربي بأشكاله المتعددة، إلا أنه ضيَّع جمالية الحرف»، لافتاً إلى «أن كل الأحرف دخلت تقريباً على الكومبيوتر إلا الخط الديواني بقيّ عصيّاً عليه. جرت محاولة لكنها كانت أقرب إلى الخط الرقعي ولم تنجح تماماً». يشرح بَعْيون للحضور: «في الخط الديواني، لديك هامش كبير من الحرية في اللعب على المساحات والأحرف والأشكال شرط الاحتفاظ بروح الديواني». يرى الفنان الثمانينيّ أن «الخطاط هو فنّان بشكل أو بآخر، والعكس غير صحيح مع بعض الاستثناءات». يقول إنّ بعض التشكيليين نجحوا في إدخال الحروف العربية في لوحاتهم مشيداً في السياق ذاته ببعض أعمال الغرافيتي التي استخدمت الحرف العربي في رسوماتها. يُسأَل بعيون عن الإضافات الملحَقة بحروفه، فيقول: «استفدتُ من كوني رساماً أيضاً في إضافة الزخارف والألوان. طلعت من إطار الأبيض والأسود وصرت ألوّن وأنجز حروفاً بارزة وأعطيها حياة أكثر». يبدي بعيون في حديثه لنا خشيته مما أسماها «حرباً على الخط العربي». يؤمن بوجود جيل موهوب «لكنّ ذلك لا يكفي فالمدرسة هي الأساس». والقرآن؟ يرى بعيون أن القرآن لعب ويلعب دوراً بارزاً في الحفاظ على اللغة والخط وهو ملهم رئيسي لمعظم مخطوطاته. «الآيات القرآنية لها بعد عاطفي وإنساني كبير. لا أستطيع أن أخطّ أي آية، إلا إذا كنتُ في حالة صفاء ذهني وروحي كبيرة».

بعضٌ من تاريخه

مَن مِن الأجيال الماضية لم تلفته عبارة «بَعْيُون» الموقّعة تحت عناوين كثير من الكتب الأدبية والمدرسيّة؟ بدا الأمر لعقود طويلة أشبه بـ «ماركة مسجّلة» باسم واحد من أبرز روّاد الخط العربي في القرن العشرين. لا يعرف كثيرون أنّ محمود بعيون المولود في الطريق الجديدة في بيروت (1936) كان أوّل من خطَّ عبارة «طيران الشرق الأوسط» ومعها شعار الأرزة الشهير على طائرات شركة «الميدل إيست» (1951) وكان حينها لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره. الرجُل الذي لم يتعلّم فن الخط على يد أحد، طوّر شغفه بالخط العربي لاحقاً من خلال متابعته لأعمال أهم الخطاطين اللبنانيين والعرب. لا يُحصي بعيون عدد المرّات التي نظّم فيها معارض مستقلّة أو شارك في معارض للخط العربي في داخل وخارج البلاد. يقول: «بالمئات». يذكر أن المرّة التي حقّق فيها أعلى رقم من اللوحات المباعة كانت في معرض أقيم في بيروت. «من أصل 80 لوحة، رجّعت معي حينها 14 لوحة فقط». بَعْيون الحائز عدداً كبيراً أيضاً من الجوائز والدروع التقديرية وأبرزها وسام الأرز الوطني من رئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود (أول وسام من هذه الرتبة يُمنَح لخطاط)، اختاره أيضاً رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري خطّاطاً معتمداً لكتابة بطاقات المعايدات في السّراي الحكومي. يفاخر بكتابة خمس نسخ من «المصحف الشريف» واحدة منها بالخط الديواني وهي الأولى من نوعها. أورث بعيون روح المهنة لأبنائه الخمسة، منهم مَن مارسها واحترفها إلى جانب عمله الأساسي، فيما توجّه بعضهم الآخر نحو هواية الرسم. يكفي الرجُل أن 64 شخصاً تتلمذوا على يديه خلال مسيرته الطويلة التي حافظ فيها على محترفه في وسط بيروت قبل الحرب وبعدها.

* اللقاء مع الخطاط محمود بعيون واحد من سلسلة بدأت مع «العربية في الإعلام» (مرسيل غانم) و«العربية في نصوص الحكواتي والأغنية» (احمد قعبور) و«العربية في الوسائل التثقيفية والتربوية للناشئة» (نجلا بشّور) و«العربية في المسرح» (جورج خباز) وتختتم غداً بـ «العربية في لغة الإعلان» (عمر صادق).