يفعل الضباب ما يفعله عادةً، يمشح الابتسامات بالحزن. في تلك الظهيرة الخريفية وجدناه فجأة فوق عاليه. نعرف أنها مدينة يزورها الضباب، وأن الطقس سيكون بارداً. ورغم ذلك بدا الضباب مفاجئاً. وعلى الأرجح، كانت السمفونية السابعة لموزار، تلك التي تملأ غرفة الاستقبال. وكان الأب جورج مسوح ينتظر حسب الموعد، يستمع إلى الموسيقى التي تخرج من التلفزيون. كل شيء على طبيعته: العازفون داخل الشاشة منهمكون بالعزف. الضباب في الخارج يستجيب لموزار، وينزل برفقٍ على الجبل القريب. وكان الأب مسوح، في صالون المنزل الذي أقيم إلى جانب الكنيسة، يتحدث عن الجبل، الكنيسة، وعن لبنان المتخيّل، ولبنان كما هو في الواقع. وكنا نعرف، أن «أبونا جورج» منفتح، ورغم ذلك، كان الأمر مفاجئاً. أن يكون الأب مسوح منفتحاً أكثر مما توقعنا بكثير.قصدنا كاهن رعية عاليه ليحدثنا عن الأجراس المفقودة. عن تلك القصة التي نسمعها دائماً عن حرب الجبل، وأين ذهبت أجراس الكنائس. وكانت الأسئلة تطفو على السطح بينما كان الأب مسوح يخرج أجوبته من مكانٍ عميق في قلبه، وكي لا نبالغ، في ذاكرته أيضاً. بين كثيرين قابلتهم وحده جورج مسوح كان متسامحاً تماماً. وبالمعنى اللاهوتي للكلمة وحده فقط كان مسيحياً. يرفض التشكيك بحدوث «المصالحة» في الجبل وبإتمامها. ولكنه يرفض الشك، أكثر من رفضه للواقعة، أو اكتراثه بحدوثها من عدمه. يرفضه على قاعدة الإيمان. يؤمن مسوح بإمكانية المصالحة وبإمكانية العيش، ويستدل إلى ذلك بتاريخ جبل لبنان المتكسّر، وبتاريخ طويل للمسيحية الباقية في الشرق. وكما يقول البابا جوزيف راتزنغر في أحد كتبه إن «لا أحد يستطيع التملص تماماً من الإيمان». كان مسوح مؤمناً أن المسيحيين واللبنانيين والبشر بشكلٍ عام لن يستطيعوا التنصل من وجودهم، وأن تنصلهم من العيش مع الآخر، هو محاولة تنصل فاشلة من الوجود. كان الأب محباً للفلسفة، لكنه كان أقرب (بكثير) إلى كيركغارد منه إلى هيغل، ويبحث عن الحس الإنساني أكثر من بحثه عن الثقافة. كل مقالاته تدل على أنه يرى الثقافة بدون «شعور إنساني» لا ترقى إلى مصاف التسمية. ونقول كيركغارد، لأن جورج مسوح كان وجودياً، وكان مؤمناً في الوقت عينه، من دون أن يوافق على «ديانة فردانية». لقد انتمى إلى الكنيسة في الشرق، ولكن الذي يقرأه يشعر بأن جورج مسوح والكنيسة معاً ينتميان إلى الشرق. وهو انتماء على قاعدة وجودية أيضاً لا اختلال فيها للزمن من الاختلالات التي تفعلها السياسة والحروب.
كان وجودياً ومؤمناً في الوقت عينه


بين كثيرين، وحده أبونا جورج، كان واضحاً وحاسماً: العودة قبل الحديث عن الحرب. وعلى الجميع أن يعودوا، أن لا يديروا ظهورهم لبعضهم البعض. ومثلما يقول في كثير من مقالاته إن الأماكن المقدّسة حتى في مهد المسيحية، ليست أهم من الفلسطينيين أنفسهم، ولا يجب أن تكون كذلك، قال مسوح قبل 6 سنوات إن الجبل هو الجبل، وأن البيوت ليس بيوتاً بلا ساكنين. إنه واحد بين قلة ينظر إلى الحرب، نظرةً من خارجها. فلا يضع نفسه في وضعية تحرمه تأويلها تأويلاً إنسانياً، أو تأويلاً مسيحياً، كما نفترض أن الأب مسوح كان ليسميه. وعلى هذا المنهج، يتخذ مواقف كثيرة جلبت له المتاعب. أنصفه العارفون عندما اعترفوا بنزعاته «الهرمنوطيقية»، وحاربته فئة أوسع، كانت تهمس ضدّه حتى استحضار مصطلحات قروسطية ضدّه، الهرطقة ليس سوى أكثرها دلالة على الفضاء الذي أراد مسوح الخروج إليه. وما كان يميّزه، أنه كان قادراً على تقديم إحالات لاهوتية في غاية الجدية، عندما يطرح الأفكار الجديدة، إن كانت تلك الأفكار تدعو (بصوتٍ خافت) إلى البحث في دخول المرأة إلى الكهنوت، أو إلى التمييز بين ما هو جوهري في المسيحية، وما هو غير جوهري فيها، من دون أن يمس ذلك بجوهر المسيحية نفسها. وإن كان أعداؤه يحاولون «تصويره» ــ من دون أن يعرفوا ذلك ــ كنسخة شرقية من فويرباخ، فإن ذلك ليس دقيقاً على الإطلاق.
أفكار كثيرة تركها الأب مسوح معلّقة على الرفوف. أفكار للسجال والمساجلة، في المسيحية، من داخلها ومن خارجها. أفكار للجميع، أرادها لحماية المسيحية من كهنتها. برحيله أمس، يُخشى على تلك الأفكار. هل يجوز القول إن جورج مسوح كان إشكالياً؟ غالب الظن لا يحبّ ذلك. كان يحب أن يقال إنه «مؤمن»، وأنه ينتمي إلى «الكنيسة الأورثوذكسية»، بمعزل عن تأويلات المعنى عندما نقول أورثوذكسية. كان مؤمناً حقيقياً يريد لصورة الإيمان أن تكون ساطعة مثل صورة الإنسان وهو ينظر إلى النهر قبل أن يتعمد. سيجري النهر لكن الصورة ستبقى في مكانها عائمة على وجه الماء: أبونا جورج مسّوح مبتسماً، ذاهباً إلى العالم الآخر. العالم الذي لا نتخيّله بالضرورة مثلما يتخيّله. ولا نعرفه مثلما يعرفه. على عكسه ليس لدينا تصورات عمّا يمكن أن يكون ذلك العالم. ما نعرفه هو أن الضباب سينزل حزيناً على عاليه اليوم، كما لو أنه زيت مقدّس يمشح المدينة الحزينة.