يكتب الأب جورج مسّوح، المولود في لبنان من أب سوري وأم لبنانية، متحرّراً من قيود المجتمع. بعد الإجازة في الرياضيات من الجامعة اللبنانية، غادر إلى باريس ليحصل على ماجستير «اللاهوت الأرثوذكسي»، حيث استجمع قواه الفكريّة: «لو بقيت في لبنان، لما كان هذا فكري»، يقول. من روما، حصل على دكتوراه في الإسلاميات من المعهد البابوي، لتبدأ رحلته إلى لبنان ورعيّته في عاليه وإدارته لـ «مركز الدراسات المسيحية ــ الإسلامية» في «جامعة البلمند»، وتمرّسه في كتابة المقالات المثيرة للجدل والنقاش عبر السوشال ميديا. هذا الحوار أجري معه قبل أشهر من وفاته.لا ينفكّ الكاهن الأرثوذكسي يسير عكس التيّار، في ظلّ ما يشهده العالم العربي من «أزمة هويّات»، ومخاوف تجاه الأقليّات وتهويل بإفراغ الشرق من مسيحيّيه. يؤكّد أنه لا يمكن استمرار المسيحيين في المشرق من دون المسلمين، بدليل أنّ قسماً منهم تمسّك بالعيش في ظل الحكم الإسلامي لعدد من المدن مثل دمشق، حماه، حمص، حلب، الموصل، بغداد، عكا، حيفا والقدس. يقول إنّ «هذه الحواضر الكبرى استمرّ فيها الوجود المسيحي مما قبل الفتح الاسلامي إلى يومنا. حصل تعايش حقيقي بين المسلمين والمسيحيين، لأسباب عديدة، منها الحاجة الاقتصادية إليهم والثقافية والاجتماعية لامتلاكهم العلوم ومعرفتهم بالحرف».

مسيحيّو لبنان
يشير مسّوح إلى أنّ من الخطأ تعميم وضع المسيحيين في المشرق كلّه. يميّز بين مسيحيي المدن الذين تعايشوا مع المسلمين، ومسيحيي الجبال من الموارنة في لبنان ووادي النصارى الذين تعرّضوا للاضطهاد من قبل البيزنطيين تماماً كالشيعة والدروز الذين كانوا خارج الإسلام السنّي الرسمي. وبلغة العارف، يذكّر بأن هذا التعايش بين المسيحية الرسمية الأرثوذكسية، والإسلام الرسمي مردُّه إلى «أن الدولة الإسلامية ورثت البيزنطية بدواوينها وأراضيها ونمط حكمها، وتالياً أثّر ذلك في نشوء مجتمعات مدينية مسيحية إسلامية، وأخرى جبليّة مختلفة تماماً. لذا تختلف التجربة في لبنان، إذ لم تنشأ مدن بالمعنى الفعلي والسياسي قبل القرن التاسع عشر، سوى طرابلس، فيما كانت بيروت لا تزال بلدة كبيرة، وتالياً لم يكن للموارنة حضور مديني قبل ذلك القرن. أما في العراق مثلاً، فثمة خبرات مختلفة مع الكلدانيين والأرمن والآشوريين».
أنا مثلاً أرفض أعجوبة النور المقدس والبعض كفّرني


يدعو مسّوح إلى عدم التعميم في مقاربة وضع مسيحيي المشرق والتهويل بوجود مؤامرة تستهدفهم: «ثمة مشاكل دائمة بين الجماعات الدينية، لكن يُستغلّ فيها الدين لتحقيق مآرب سياسيّة. المسيحي ليس مستهدفاً بذاته، بل مثله مثل أي شخص آخر في المنطقة. تُثار الادعاءات لاستنهاض الهمم المسيحية والعصبيّة والحشد الطائفي. استغلّوا الوضع لإثارة الطائفية وتحويل الأنظار عن القتال ضد إسرائيل للاقتتال في ما بينهم. اللبنانيون يتحدثون عن المؤامرة أكثر من سواهم، ما لا نشهده لدى مسيحيي العراق أو سوريا». مع ذلك، لا ينفي وجود مؤامرات ومخططات في السياسة تستهدف المنطقة لاستثمار ثرواتها وتوسيع نفوذ القوى الكبرى فيها.

بمَ نختلف عن «داعش»؟
لا يحيد خادم رعيّة عاليه الأرثوذكسية عن معارضته الشديدة «لاستغلال الوضع السوري بهدف الحشد الطائفي في لبنان وتجييش الأصوات، أكان ذلك في البترون أم في بشري». برأيه، على المسيحي الخروج من قوقعة الأنظمة الأقلوية، إذ إنه «لا مستقبل لنا في هذا الشرق إلّا مع المسلم». وفي ما يخصّ تراجع الإسلام الذي يعوّل عليه، عن دوره اليوم، يجيب بأن «بعض المسلمين يعودون إلى عصور غابرة، ولذلك ينتكس المسيحيون. أين المسيحي من عصر الأنوار الأوروبي وعصر النهضة؟». ما يفرّق المسيحيين عن «داعش» برأيه، أنّ «الأخيرة تحمل سلاحاً وتذبح، لكن العقلية ليست مختلفة كثيراً، والتكفير يطاول كل من يقول كلمته خارج إطار المألوف».

الظواهر الدينية دليل نقص
يعلّل مسّوح أسباب تراجع الدور الفكري المسيحي في هذا الظرف، إذ «يكفي الالتفات إلى الظواهر الدينية من عجائب وظهورات يرفضها البابا أحياناً، لكن المسيحي يتمسّك بها». برأيه، هذه الظواهر، من دموع وزيت، «خطيرة اجتماعياً لأنها نوع من تعويض عن نقص عاطفي وفق علم الاجتماع الديني». إنه نوع من استنفار للعصبية. بمعنى أن الحق معنا وإيماننا صحيح وعلينا أن نكون كتلة واحدة. يرى أن هذه الظواهر «لا تحشد الناس حول مشاريع وطنية وإنسانية، بل حول تعصّب ديني سطحي». ثم يستفيض متناولاً مسألة «احتقار دين الآخر»، ويفسّر كيف أن التكفير موجود بمسائل ضمن الطائفة الواحدة... «أنا مثلاً أرفض أعجوبة النور المقدس، والبعض كفّرني، الفكر الداعشي موجود. إن التشكيك بظاهرة واحدة يصبح تشكيكاً بالدين ككل».

لا أرى جدوى من الحوار المسيحي الإسلامي ما دامت المؤسسات الدينية ترعاه


من ناحية ثانية، يرى أن «قلّة من المسيحيين يشغلها قيام فكر مسيحي اجتماعي حقيقي يُعنى بالفقراء ويضمن المساعدات المدرسية والاجتماعية للمرضى والطلاب، فيما البعض غير قادر على إعالة أولاده». وبرأيه، ثمة تشويه لصورة المسيح: «ما معنى أن يكون لدينا مستشفى باسم قديس أو مؤسسة رهبانية ويموت الناس على أبوابها؟ هل هذا ما فعله المسيح للسامريّ (مثل السامريّ الصالح)؟». أما عن حقوق المسيحيين في مؤسسات الدولة، فلديه الكثير ليقوله: «هل من حقّ المسيح عدد معيّن من نواب ووزراء ومديرين عامّين؟». ويعلّق: «حقوقنا هي فقط العيش بكرامة بوجود ماء وكهرباء وضمان صحي وضمان شيخوخة وتعليم وجامعة مجانية»، مؤكّداً أن حقوق المسيحيين هي عنوان يجري استغلاله في البازار السياسي، والكارثة الأكبر في غياب معايير أخلاقية تقود العمل المسيحي في السياسة.

فصل الدين عن الدولة
في شأن الحوار بين الأديان، يؤكّد مدير «مركز الدراسات المسيحية ــ الإسلامية» في «جامعة البلمند» أنه لا يعمل في الحوار الإسلامي - المسيحي، بل «أنا باحث في شؤونه بمعنى مراقبة سير عمله ولست طرفاً فيه. لا أرى جدوى منه في لبنان. ما دامت المؤسسات الدينية ترعاه، فإنه محكوم بالفشل. الحوار يجب أن يكون حراً بين أشخاص لا يتكلمون باسم مؤسسة، ويُملى عليهم ما يقولونه. بدل الصلاة معاً، لو أن رجال الدين يقومون بثورة فكريّة لعمل اجتماعي مشترك، حتى تتوقف المؤسسات الدينية عن التمييز بين مسلم ومسيحي».
يرى مسّوح أنّ اختيار الدولة المدنية كدولة مثالية يجب أن تسعى إليه المؤسسات الدينية قبل سواها بما يتوافق مع حرية الإيمان في الدين. وينظر إلى مسألة حق الزواج المدني كمثال للنفاق، إذ يلجأ الناس للزواج الديني، لحاجتهم إلى توثيق الزواج وليس من منطلق إيماني. «يأتي المسيحي إلى الكنيسة مرّة ليتزوّج وأخرى غصباً عنه وهو ميت. لسنا بحاجة لحرية دينية، لأن المؤمنين يمارسون إيمانهم، بل نريد حريّة دينية لغير المؤمنين ليكونوا أحراراً من السلطات الدينية. الاضطهاد يطاول غير المؤمنين. ثمة مسلمون يودّون الأكل والشرب خلال الصيام ولا يستطيعون، ومسيحيون يودون الزواج مدنياً وليس بمقدورهم السفر إلى قبرص». أكثر من ذلك، يقول مسوح بلا مواربة: «علينا فصل الدين عن السياسة وإبعاد رجال الدين عن قوانين الأحوال الشخصية».

التجربة الحزبية العلمانية
عن إمكانية اتحاد «أصحاب الفكر» في ما بينهم، يصرّح: «نحن قلة، لسنا أكثرية. مؤسساتنا أقوى منا. الناس يصغون إلى المؤسسة مثل «المجلس الكاثوليكي للإعلام»، لا للمفكّر الديني كفرد». المؤسسة أقوى من الأفراد. وفي هذه المؤسسة، يتحوّل نبش قبور الحرب الأهليّة والتذكير بالعمالة مسألة حسّاسة تمنع الالتحام الفعلي في المجتمع بين المسيحيين والمسلمين. لكنّ لمسّوح رأياً مطولاً في هذه النقطة: «ليس سهلاً تجاوز محنة الحرب. لم تدفن حتى نوقظها.

قلّة من المسيحيين يشغلها قيام فكر مسيحي اجتماعي حقيقي يُعنى بالفقراء

الذاكرة حية». العودة إلى الفلسطيني كسبب في كل مرة، وقصة طرد المسيحيين من لبنان واستيطانه، هي ذريعة بائسة... «أعتقد أنها ليست صحيحة، يجدون ذرائع دائمة لتسليط الضوء على ما هو سيئ عند الآخر لتحسين النفس». برأيه، التجربة الحزبية العلمانية لم تكن لتحسن الوضع: «إنها تجربة سيئة حوّلت المشروع القومي من مشروع لتحرير الإنسان، إلى مشروع لاستغلاله في غياب كلي للديمقراطية وتداول السلطة فيها وارتهانها لأنظمة معينة». في معرض تناوله لما طرحه المفكرون القوميون من نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أمثال فرح أنطون وقسطنطين زريق، يرى أن طروحاتهم كانت علمانية، لكن «كل ما في الفكر جميل، يتحوّل في الواقع إلى بشاعة، هذا الفكر الإنسانوي متأثر بالفكر الأوروبي، وأعتقد أن تجديد هذا المشروع لا يزال ممكناً، لكن عبر جمعيات تأسيسيّة جديدة لهيئات تعمل في المجتمع في قطاعات التربية والإعلام وسواها».

إسلاموفوبيا وفق الطلب
لا يرى مسّوح أن الخوف يحكم علاقة المسيحيين بالمسلمين في الشرق، بل إن «الإسلاموفوبيا تعبير أجنبي ينطبق على الحالة الأوروبية والأميركية. تختلف المسألة عندنا». يشبّهها بعلاقة بين زوجين تمرّ بأوقات جيّدة وسيّئة. على المستوى البشري العام، لا فوبيا برأيه، إذ يعيش الناس ويعملون معاً ولا يمكن التمييز بين المسيحي والمسلم. تستعمل الفوبيا أو التخويف عند الحاجة «مثلما استغلّت في الحرب السورية. أدخلوا إلى عقول الناس أن كل إسلامَوي لديه نشاط إسلامي هو إرهابي حتماً». وعن المخاوف التي تحكم علاقة اللبنانييّن، يشير إلى أن «ثمة فيتوات، ليست مسألة خوف، بل عوامل عديدة متداخلة، منها الاعتداد بالنفس لدى المسيحيين برفضهم دخول مناطق معيّنة». ويضرب مثالاً: «إن منع بيع الأراضي في منطقة الحدث وتدخّل البلدية فيه ضرب لمفهوم المواطنة، إذ لا يجوز التمييز بين لبناني وآخر». لا يجوز التمييز بين إنسان وآخر. هذه كانت «خلاصة» أفكار الأب جورج مسّوح.