علينا الاعتراف بأن العدو الإسرائيلي أشدّ وعياً منّا حول أهمية التراث والثقافة الشعبية. علينا أن نفهم سبب استماتته لضمّ ما يناسب (وطمس ما لا يخدم) مشروعه من تركة أجدادنا، من موسيقى وأزياء وحتى أطباق، بهدف «تكوين» تاريخ يفتقده، ثم تزويره للترويج له مع مفعول رجعي. الثقافة الشعبية مرآة جذور المجتمعات. والإسرائيلي يريد سرقة مرايا أرواحنا، أملاً بأن يرى العالم فيها جذوره في فلسطين. علينا ألّا نهمل هذا الموضوع ولو لثانية. لأن عندها، وعندها فقط، ندرك أهمية ما أنجزته ريم بنّا، وبالتالي حجم خسارتها وهي في عزّ عطائها.

ايهاب بسيسو: في سماء الوطن

نعى وزير الثقافة في السلطة الفلسطينية الشاعر ايهاب بسيسو الراحلة ريم بنا وقال على صفحته على فايسبوك: «لن أقول عن ريم بنا... رحلت. لكنني سأقول إن هذه الأخت الفلسطينية الغالية اختارت أن تحلق فجر هذا اليوم مع الملائكة في سماء الوطن… صعدت ريم بنا نحو الأبدية وهزمت سرير المرض… وبقيت لنا الذاكرة… وبقي الصوت يغني فلسطين، وسيظل يغني فينا فلسطين رغم رحيل الجسد».

أسوأ وأخطر ما في الخبر، لمن يرى الأمور بشموليتها، هو تزامنه مع الحديث عن تسجيل الجمهور العربي إعجابه بأغنية المغنية الإسرائيلية المؤهلة للفوز بـ «أوروفيزيون» لعام 2018 (مايو المقبل)… والسوء هنا، غير ناتج بالدرجة الأولى عن مدّ إسرائيلية بإعجابٍ بعمل من توقيعها، بل، أولاً والأهم، عن الإعجاب بالقبح: أولاً، بتجرّد، قبح المغنية شكلاً، فهي تصلح نموذجاً إن أردنا تسجيد الشرّ للأطفال في الرسوم المتحرّكة (مقابل خسارة فنانة سخّرت نصف طاقتها للأطفال). ثانياً، قبح الأغنية فنياً وعدم ارتباطها لغةً (إنكليزية) ونمطاً (الغربي الهابط) بالحد الأدنى من مكوّنات فنوننا السمعية (مقابل خسارة فنانة سخّرت النصف الآخر من طاقتها لتوثيق إرث شعبها الفولكلوري). نعم، رحيل ريم بنّا خسارة. لكن، عندما خسرت «أوركسترا برلين الفلهارمونية» قائدها العظيم فيلهلم فورتفانغلر عام 1954، وصل إلى غرفة هربرت فون كارايان (قائدها التالي الأعظم) الفاكس التالي: مات الملك، عاش الملك. هكذا تتصرّف الشعوب الأصيلة. هكذا ترّد على ضربة الموت بضربة أكبر. أما نحن، وبقليل من المبالغة والخيال، فكأننا أرسلنا فاكساً لـ «أوروفيزيون» يقول: ماتت الجميلة، عاش القبح.إذاً، بعد صراع شرس وطويل مع المرض، خسرت ريم بنّا المعركة. ابنة الناصرة أسلمت الروح حيث ولدت عام 1966. وبين والولادة والرحيل، نضال حقيقي، ذكي، هادِف، متقَن وصادق. منذ منتصف الثمانينيات، أدركت ريم أن لا مفرّ من الكفاح: إمّا لاستعادة المسروق في الجغرافيا، أو للحفاظ على ما يسعى العدو لسرقته في التاريخ. كصبية ذات ميول فنية وصوت جميل، اختارت الجبهة الثانية ومارست كفاحها بدون مواربة أو ضبابية: أغنياتنا لنا وأغنيات أطفالنا لنا. فهي طالعة من صميم حناجر الأجداد في الحقول ومن فائض عطف الجدّات على الأحفاد. نغنّيها كي لا ننساها. نسجّلها كي لا تنساها أجيالنا القادمة. نسجّل حقوقها لنحفظها من التزوير. نجول فيها حول العالم وننشدها في الحفلات ونرفع علم فلسطين، لا لشيء إلا لكي نرشد الناس إلى هويّتها. أما لناحية القالب الفنّي، ومهما انتقد من لا يستهويه الروك والبوب الغربي المعاصر، فكانت ريم أحذق من أن تتشبّث بالفولكلور: النص هو هو، اللحن هو هو (أو مع بعض التصرّف لضرورات التعبير). أما الغلاف الخارجي فعليه أن يحمل فلسطين وتراثها إلى العالم… فالمزمار والمجوز والربابة غير قادرة على ذلك. وهذا القالب، العصري غير الهابط بالمناسبة، أتقنته بمهنية. فتنفيذ أعمالها، الأخيرة بالأخص، يضاهي أفضل الأعمال الغربية في فئتها. أما حبة الكرز على قالب التنفيذ، فكان صوتها، أو الأصح أداؤها ومخارج حروفها ولكنتها التي لم تميّعها ولم «تغرّبها».

سجّلت تراثنا للأجيالنا القادمة ولحفظه من التزوير

فحتى غناؤها بالفصحى أتى دوماً فلسطينياً. هذا من جهة. من جهة ثانية، كان لريم همٌّ آخر. لنسمّه همّ الحاضر للمستقبل، إذا سمّينا عملها على التراث همّ الماضي للمستقبل. إلى جانب الاستعادات الفلكلورية (من تهاليل وأغاني أطفال وتهاويد)، رصدت آلام شعبها، ووثّقت جرائم الاحتلال بشكل مباشر. بعض أغنياتها ــ «ساره» مثلاً ـــ أقرب إلى خبر في جريدة، بكل تفاصيله، مضافة إليه اللمسة الشعرية (شعراء فلسطينيون وعرب، أبرزهم والدتها الشاعرة زهيرة صباغ) وبعض النغم والتلوين (من صنعها، بالاشتراك مع ملحنين وموزعين، على رأسهم زوجها السابق، الأوكراني ليونيد ألكسيينكو). كل هذا كان بالتأكيد يقلق العدو. فأحياناً لا ندرك أهمية الأغنية، لكن ذلك لا يمنعها من حفر أنفاقٍ للذاكرة بثبات.
نقلت ريم بنّا ماضي وحاضر شعبها إلى العالم، لكنها تأخرت لتشاركه مع جيرانها الأحب إلى قلبها في سوريا ولبنان وحتى في فلسطين (غنّت افتراضياً عبر سكايب من بيتها في الناصرة في دمشق وبيروت وغزة المحاصرة). فكونها من الأراضي المحتلة عام 1948، لا يُسمح لها بالدخول إلى هذه البقع القريبة إلا بعد إجراءات شديدة التعقيد. زارت لبنان أول مرّة عام 2010، لكنها لم تغنِّ. ثم عادت عام 2012 وأحيت أمسية في بيروت. بيروت حلم معظم الفنانين الفلسطينيين، ومتى زاروها يسألون غالباً عن زياد الرحباني. التقت ريم بزياد عندما عادت مرةً أخيرة إلى بيروت عام 2014، وغنّت رائعته الجديدة «صمدوا وغلبوا» واثنتين من أغنياتها برفقته ضمن حفلة له في «المركز الثقافي الروسي». في المرة الأولى، طلبت اللقاء به، لكن التواصل معه كان غير ممكن في تلك الفترة. هكذا، توجهّت إلى Notta Studio وتركت له بعضاً من أغانيها وتذكارات حملتها من فلسطين المحتلة، من بينها حفنة من ذاك التراب الذي تعود إليه اليوم... غزالةً بيضاء صغيرة.