ما تاريخ هذا البحر الذي ظلّ قروناً بحيرة عثمانية؟ المؤرخون الغربيون الذين كتبوا عن الإمبراطورية العثمانية، تجاهلوا حقائق تربطها بالبحار. يعزو الكاتب ألكسس ويك ذلك، إلى أن العلاقة بالبحار ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحداثة، والحرية والتطور والتقدم. والمقصود كان إبعاد العثمانيين والعرب والإسلام وحتى الأفارقة عن الحداثة والحرية وما إلى ذلك. «البحر الأحمر - البحث عن فضاء مفقود» (The Red Sea: In Search of Lost Space - press 2016) عمل ريادي مهم موجه لأهل الاختصاص في مجال علم البحار والتاريخ والفلسفة والسياسة.

يلاحظ القارئ المتتبع لأحداث المنطقة انتشار الصراع فيها، بحيث أضحى يهدد البحر الأحمر، سواء من خلال حرب أعراب عبر الأردن وتآمرهم مع العدو الصهيوني على العرب عموماً وعلى مصر وقناة السويس تحديداً، أو من خلال حرب أعراب الخليج، ومعهم مصر السيسي على اليمن ومضيق باب المندب. مع أن الأمور تتجه في الوقت الحالي إلى استغناء القوة الاقتصادية الصينية العظمى عن الطريق عبر بحر الصين ومضيق ملقا والمحيط الهندي وبحر العرب، مروراً بالبحر الأحمر، وانتقال خطوط التجارة شمالاً عبر طريق جديد يمر بالقطب الشمالي. يضاف إلى ذلك، الصراع على مدخل البحر الأحمر الجنوبي، وفي جيبوتي تحديداً، وكذلك التواجد التركي الجديد في البحر الأحمر عند ساحل السودان.
هذه التطورات وغيرها تشير إلى احتمال قوي بتحول البحر الأحمر إلى فضاء جغرافي - سياسي ساخن ضمن منطقة المشرق المتفجرة.
لكن هذا جانب سياسي- استراتيجي من جوانب البحر الأحمر من منظور كونه فضاءً جغرافياً.
لكن ما تاريخ هذا البحر الذي بقي قروناً طويلة بحيرة عثمانية خاصة تضاف إلى البحار الأخرى التي كانت سواحلها تطل عليها وهي البحر الأبيض ــ المسمى حالياً بالبحر الأبيض المتوسط ــ وبحر قزوين والبحر الأسود الذي كان عثمانياً خالصاً، والمحيط الهندي وبحر العرب والخليج الفارسي. ولا ننسى أن عاصمة الإمبراطورية العثمانية كانت إسطنبول، وهي مدينة بحرية، بل أم المدائن البحرية.
هنا من المفيد التذكير بأن الإمبراطورية العثمانية أشارت تاريخياً إلى البحر الأحمر بأسماء عديدة منها بحر القلزم، وبحر السويس وبحر مكة وبحر اليمن، ولم يذكر بأنه «الأحمر» إلا في منتصف القرن التاسع عشر، تحديداً عندما فقد أهميته ولم يعد له وجود في أدبياتها! اختفاء أسماء ذلك البحر الأخرى آنفة الذكر لصالح الأخير، قد يبدو لبعضهم أمراً ثانوياً، لكن الكاتب يشدد على أهميته، فهذه الإشارة الدلالية تحفز إعادة تقدير لافتراضات أساس مرتبطة بالفلسفة والاقتصاد السياسي وعلم رسم الخرائط والجغرافيا والتاريخ.
من الأمور ذات الصلة التي يشير إليها الكاتب، الذي يتناول المادة ضمن التاريخي العثماني، حقيقة أن الكتاب المتخصصين في تاريخ المنطقة من الأوروبيين تجاهلوا تماماً هذا البحر. مع أن العالم الفرنسي فرنان بروديل (1902-1985) كتب في سجنه النازي في مدينة ليبك الألمانية رسالة أكاديمية (نال عليها شهادة الدكتوراه). كانت عملاً مهماً عن البحر الأبيض هو «المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني» (1949). المؤرخون الغربيون الذين كتبوا عن الإمبراطورية العثمانية، تجاهلوا حقائق أساسية تربطها بالبحار، وتمسكوا بنظرة استشراقية تدعي أنها كانت «دولة يابسة»، تقودها نخب تعيش من عائدات الحروب التوسعية والعائدات الزراعية التي يوفرها السكان، وأن الارتباط بالبحار، ومن ضمن ذلك التجارة، هو أمر أوروبي خالص.


السبب ــ دوماً وفق الكاتب ـــ أن العلاقة بالبحار وخوض غمارها أمر يعد مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالحداثة، وهذه مرتبطة في الوقت ذاته بالحرية والتطور والتقدم. المقصود هنا إبعاد العثمانيين والعرب والإسلام وحتى الأفارقة عن الحداثة والحرية وما إلى ذلك، دوماً بحسب الكاتب.
أما مشروع هذا المؤلف، فينطلق من إدراك حقيقة عدم وجود أي بحث تاريخي يخص البحر الأحمر، يمكن مقارنته بعمل بروديل عن البحر الأبيض. علماً بأن العديد من الأحواض المائية مثل المحيط الهندي والمحيط الأطلسي والمحيط الهادي وحتى البحر الأسود، نالت اهتمام مؤرخين.
يقول الكاتب إن هذا أمر مثير للدهشة، آخذين في الاعتبار حقيقة أن البحر الأحمر يشكل فضاءً موحداً من منظور الجغرافيا والمناخ والانتماء الديني والتكامل البشري والتجاري والسياسي والتشريعي، وهو أمر لا يحظى البحر الأبيض المتوسط حتى بواحدة من ميزات الأول. لذلك، فإنه يؤكد الآتي: «عند التوجّه لدراسة حضور/ غياب البحر الأحمر عن مجال الأبحاث، يطرح هذا الجدل مجموعة من الأسئلة الأساس المتعلقة بمجال العمل التاريخي عموماً: ما المنهجيات المنطقية التي تُمَكِّن أمراً ما من أن يصبح موضوعاً واقعياً للتاريخ؟ وكيف يمكن لموضوعات معينة أن تكون جديرة بأن تُعتبَر تاريخية؟ وكيف تحوَّل البحر وماضيه وحاضره إلى موضوع للتحليل التاريخي على نحو فعلي؟ والأهم من ذلك كله، من أجل مَن ومن قِبَل مَن، يتحقّق تحوُّلُ البحر إلى موضوع تاريخي؟ هل يجب، وهل يمكن، أن يكون هناك تاريخ شامل للبحر؟ أم أن هناك سلسلة من النزعات العميقة الخفية في الفرع المعرفي الحديث الخاص بالتاريخ، يمكن لها تفسير سبب غياب تاريخٍ متكامل للبحر الأحمر وكشْف الكيفية التي أنتجت بها أوربة التاريخَ والجغرافيا المهيمنَيْن في الحاضر العام؟».
لذلك كله، يؤكد الكاتب، وهو أستاذ مساعد لمادة التاريخ في «الجامعة الأميركية» في بيروت، وجوب إنتاج البحر الأحمر موضوعاً عِلمياً. وهذه العملية تمت تحت ظروف تاريخية محددة هي اتساع الهيمنة الأوروبية الاستعمارية على الإقليم والعالم. لذا لم يوجد إنتاج عثماني لفكرة بحر ذي سيادة قبل منتصف القرن التاسع عشر، وهو ما منع العثمانيين من إعطاء ذلك البحر اسماً جامعاً. انطلاقاً من هذا، فإن هذا المؤلف يتقصى إمكانية كتابة تاريخ من دون إيلاء أي وزن للجغرافيا- السياسية والمركزية الأوروبية، فاتحين الطريق أمام تاريخ أكثر نسبيةً وإيحاء، يتشكل من ثلم وانقطاعات، حيث لا يكون الزمان كرونومترياً وإنما غير قابل للتعداد، ولا الفضاء متجانساً وإنما كسري (fractal).
لم يهدف الكاتب فقط إلى إدخال البحر الأحمر في تاريخ البحار حيث يرى أن التحدي العلمي يكمن في دفع نقد المركزية الأوروبية أبعد من ذلك، وجدال أن تنظيم مصطلحات الجغرافيا الحديثة (البحر، المحيط، الإقليم...) ليست موضوعية ولا محايدة. بدلاً من ذلك، فإنها تتبع نظاماً كثير الاستطراد أخذ شكله مع ولادة العلوم الإنسانية في منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا عندما صار التاريخ والجغرافية مواد علمية مستقلة.
يلاحظ الكاتب: أليس من المدهش هنا التشابه بين نزعة المركزية الأوروبية بخصوص البحار وخرافة نرسيس حيث تعرفت أوروبا إلى نفسها وإعجابها بنفسها في الماء، ماضياً وحاضراً؟!
لذلك، فإن هذا المؤلف يكشف دينامية البحر الأحمر العثماني ويتابع في الوقت نفسه أصول تهميشه كمادة تاريخية على يد أهل الاختصاص.


عملية بحث الكاتب في الموضوع، استدعت منه الاستعانة بمئات أو آلاف الوثائق العثمانية ذات العلاقة، إضافة إلى توظيفه مراجع بسبع لغات منها العربية أيضاً. يلخّص الكاتب مسعاه العلمي آنف الذكر في خمسة فصول، تلي المقدمة، ويليها ملخص، وهي الآتية:
الفصل الأول «مكان في الوسط: جغرافية البحر الأحمر التاريخية» خصصه لتقديم المسرح الأساس للبحر الأحمر على المدى الطويل كما يتم تخيله هذه الأيام، ويقدم فيه أسس معالم الفضاء الزمني (هو دمج لأبعاد الفضاء الثلاثة مع البعد الزمني الوحيد) الذي تمت الإشارة إليه على أنه «البحر الأحمر». هذا بدوره يبدأ بحقلي البيئة والجيولوجيا (وفق مقاربة بروديل) ثم يثير المعالم المركزية لأبعاد البحر الاجتماعية والاقتصادية قبل تقديم رواية جامعة للمكان.
الفصل الثاني «دراسة البحار على الطريقة التركية: ست موضوعات عن فلسفة التاريخ» هدفه إنتاج فلسفة تاريخ من الخارج، أي من خارج أوروبا. يعتمد هذا الفصل على دراسات متخصصة سابقة تتعامل مع الماضي العثماني من منظورات نظرية. يرى الكاتب أن العقود الأخيرة شهدت مغادرة المؤرخين العثمانيين من محاريب أبرشياتهم ضيقة الأفق، وبدأوا بطرح أسئلة على جانب كبير من الأهمية. يعتبر الكاتب أنه بذلك ليس ثمة من سبب لافتراض أن التاريخ العثماني عاجز عن توفير تأملات ثرية ذات قيمة عالمية في تطبيق التاريخ. عبر ستة موضوعات، يوضح الفصل كيف تبدو فلسفة التاريخ حيث ينظر إليها من البوسفور، وما سبب عدم وجود تاريخ البحر الأحمر العثماني، أو عدم إمكانية ذلك، أو حتى وجوب عدم وجوده.
يروي الفصل الثالث (صورة ذاتية للبحر الأحمر العثماني - 21/06/1777) تاريخ الإقليم من منظور المصادر ذاتها بدلاً من تقديم تحليل موضوعي بواسطة علم البحار بروديلية التوجه. الهدف هو عرض الكيفية التي نظر فيها العثمانيون أنفسهم إلى البحر الأحمر وعالمه في نهايات القرن الثامن عشر.
مصطلحات الجغرافيا الحديثة (البحر، المحيط، الإقليم...) ليست موضوعية ولا محايدة


يركز الفصل الرابع (اختراع البحر الأحمر علمياً) على تحليل مباشر لخلق البحر الأحمر بصفته هدف المعرفة والقوة. الموضوع هنا هو التمدد الدراماتيكي للقوى العسكرية الاستعمارية الأوروبية إلى الإقليم، وإنتاج البحر الأحمر موضوعاً علمياً، وصولاً إلى الربع الثاني من القرن التاسع عشر. في تلك المرحلة فقط، أضحى البحر الأحمر فضاءً سيادياً عضوياً، يتم فيه خلق ادعاءات بالحقيقة. هذا التحول العلمي سار جنباً إلى جنب مع التوسع الاستعماري البريطاني في الإقليم وفي العالم أيضاً. ثم ينتقل بعدها إلى سيادة التصورات المؤقتة عبر تدويلها عبر العثمانيين والمصريين اللذين تبنيا مصطلح «البحر الأحمر» منذ عام 1850.
الفصل الخامس والأخير (الهوس بالبحار: الحداثة والبحر) يتفحص ظهور البحر بصفته تصوراً فعالاً كثير الاستطراد يقع في مركز الحداثة، ويوضح أهمية مكانة البحار في الفكر الحداثي. كما يوضح أن فكرة البحار والمحيطات، كما القصص عنها، لم تكتشف في الطبيعة، وأنه يمكن تتبع ولادة فكرة كون البحر يشكل فضاء محدداً ومتناسقاً في مطلع القرن التاسع عشر وأسس العلوم الحديثة مثل التاريخ والجغرافيا وعلم النباتات وعلم المحيطات.
عمل ريادي مهم في مضمونه وموعد صدوره، موجه لأهل الاختصاص في مجال علم البحار والتاريخ والفلسفة والسياسة. يبحث المؤلف تفصيلياً في أمور أخرى ذات صلة، لكن من غير الممكن تناولها جميعها في هذا العرض المختصر.