في شهر آذار/مارس من عام 1968، وبينما كانت فرنسا تستعد لتعيش أكبر تحركات احتجاجية عرفتها منذ الإضرابات العمّاليّة عام 1936، كانت تونس وجامعاتها ترزح تحت وطأة العسكرة والحصار من طرف قوات البوليس وميليشيات الحزب الحاكم، و«الموجة الاحتجاجية» اليسارية بصدد الخفوت. عجّت السجون وقبو وزارة الداخلية وغيرهما من مراكز الاعتقال حينها بمئات المناضلين اليساريين المنتمين أو المقربين من التنظيم الثوري «تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكية بتونس»، المعروف أكثر باسم جريدته «آفاق» (برسبكتيف)، وبعض المنتمين إلى الحزب الشيوعي التونسي. وختمت أحداث «آذار/مارس 1968» في شهر أيلول/سبتمبر من العام نفسه، بمحاكمة 101 من بين الموقوفين من قبل محكمة زجرية تم إنشاؤها لهذا الغرض وهي محكمة أمن الدولة، التي أصدرت في حقّهم أحكاماً بالسجن تراوحت بين بضعة أشهر وستة عشر عاماً ونصف.
مناضلون يساريون في سجن برج الرومي في بنزرت

غالباً ما يحفّ بالتحقيق حول «محطات تذكارية» بقيمة الحشد الاحتجاجي الذي عرفته الجامعة التونسية في آذار/مارس 1968، خطر غلبة استذكارها الملحمي على الأحداث نفسها. ويزداد الخطر حدّة في حالة هذا «الحدث» لأن روايات الفاعلين فيه هي أهمّ مراجعنا حوله.
لهذا يهمني، قبل تناول ما بقي من هذا الحدث التاريخي بعد عقود، أن أعود إلى إرهاصات «مارس 1968» التونسي، مؤكداً على رسوخه في السياق السياسي المحلي التونسي، من دون إنكار آثار الرهانات والصراعات الإقليمية والدولية القائمة حينها عليه. أذكّر، بعد ذلك، بأحداث كانون الثاني/جانفي ـــ آذار/مارس 1968 التي شهدتها الجامعة التونسيّة قبل أن أختم هذه الورقة بعرض مثال عن «حياة لاحقة» (vie ultérieure، وفق تعبير كريستين روس)، لهذا الحدث في حياة الشبيبة اليساريّة داخل الجامعة مطلع هذا القرن.
ولعل أول تساؤل يطرحه علينا حدث «مارس 1968» التونسي هو: كيف لشباب منتمٍ إلى فئة اجتماعية محظوظة نسبيّاً، على الأقل من ناحية الفرص المهنيّة والمواقع الاجتماعيّة المتاحة لها نظريّاً، كالطلبة التونسييّن في سنوات الستينيات أن يتحولوا خلال تلك السنة إلى رمز لمقاومة نظام الحكم البورقيبي التسلّطي (3، تراجع الهوامش في النص المرفق أدناه).
لفهم أسباب هذا الحدث، يجدر بنا العودة إلى السياق العام في تلك الفترة، حتى نتبين أنه لم يبزغ من فراغ بل كان تتويجاً لمخاض اجتماعي وسياسيّ طويل انطلق منذ أواخر فترة النضال الوطني من أجل الاستقلال.

سياق عام مأزوم
كان النظام السياسي يعيش إبّان انفجار الوضع الجامعي، نهاية الستينيات، على وقع أزمة اجتماعية واقتصادية كبرى يشهد عليها اختناق نمط «القيادة التسلّطية»، وفق تعبير ميشال كامو وفانسون جيسير. وقد عاشت البلاد تحوّلات اقتصادية واجتماعية كبرى مهّدت للتغيرات السياسيّة العميقة التي ستعرفها البلاد تباعاً. وهكذا، يمكن تفسير الأزمة السياسيّة جزئياً، حسب صدري الخياري، بـ«الامتعاض الذي عرفته الأرياف والذي أخذ أحياناً أشكال انتفاضات، ومخاوف الطبقات العليا، خصوصاً عندما قرر بن صالح (4) تعميم نظام التعاضد (5)» والتدهور النسبي للأوضاع الاجتماعية منذ أواسط الستينيات.
ويتفق محسن التومي وكامو وجيسير، على أن هذه الفترة عرفت على المستوى السياسي تحولات عميقة، يجسّدها اندلاع عملية تحوّل «الهيكل المسيّر» من هيمنة تامة للنخب السياسية المحترفة غير المختصّة التي تلقت تكوينها في صلب الحزب الدستوري الجديد في خضم النضال الوطني، إلى هيمنة شبكة مندمجة من النخب القطاعية الجديدة المختصّة، الحائزة على قدر عالٍ من المعارف التقنيّة والمفتقرة إلى رصيد نضالي وسياسيّ ذي شأن. ويوضح كامو وجيسير سبب هذا التحول، إذ «تُرجمت طموحات الاستقلالية الاجتماعية وتحلّلُ الهيكل المسيّر في تعطّل قانون عمل النظام السياسي... وقد اهتزّت القيادة السياسيّة جرّاء التمكين الذي عرفته مجموعات اجتماعيّة كانت هذه القيادة هي من سهّل عمليّة تشكّلها». وليست هذه التغيّرات الهيكليّة العميقة بريئة من الشروخات المتعاظمة التي عرفتها القيادة السياسيّة حينها.

هوامش


ساهم عاملان مهمان آخران أيضاً في إضعاف نظام بورقيبة انطلاقاً من الستينيات. تمثّل الأول في تواتر الأزمات (6) بين قيادة الحزب الحاكم والاتحاد العام التونسي للشغل (المركزيّة النقابيّة)، وهو ما هدد علاقة يُعتبر استقرارها أحد دعائم نظام الحكم، الذي يذهب البعض حدّ تسميته «شبه ــ نظام الحزبين» (أي الحزب الحاكم من جهة واتحاد الشغل من جهة أخرى). أمّا العامل الثاني فهو الصراعات التي شقّت الحزب الحاكم حول خلافة «الزعيم» والتي عرفت أوضح تجلياتها في الانشقاقات التي عرفها الحزب في مؤتمره الثامن في تشرين الأول/أكتوبر 1971.
بالإضافة إلى هذه العوامل التي تمسّ السياق المحلّي، فإنّ عوامل إقليميّة ودوليّة كان لها دور مهم بدورها في تجذير الحركة الطلابيّة التونسيّة نهاية الستينيات. من ناحية، أدت هزيمة 1967 وتبعاتها على المناخ السياسي داخل الدول العربيّة، باستثناء فلسطين، إلى تقلّص شرعيّة هذه الأنظمة وتصدّع «أحلام الاستقلال» والسيادة بعد بضع سنوات من دحر الاستعمار المباشر. في هذا السياق نفهم صعود التيارات الكفاحية اليسارية ذات النزعات القوميّة (كالاشتراكيين العرب) والتي كانت «جبهة التحرير الفلسطينية» التجسيد الأول والأمثل لها، وما كان لها من تأثير لاحق في بقية الدول العربية، من ظفار في بحر العرب إلى غاية المغرب الأقصى. من ناحية أخرى، تأثّر الطلّاب التونسيّون كغيرهم في عدد من الدول، بصعود التيّارات النقدية لليسار الجديد وعمليّة «دحر الستالينية» الجارية تقريباً في كل أنحاء العالم منذ صدور تقرير خورتشوف سنة 1954 والثورة الثقافية في الصين منذ 1966 والصدى الواسع الذي وجدته الاحتجاجات الطلابيّة في عدد من الدول، كما تشهد عليها مثلاً حركة «حرّية التعبير» في جامعة بركلي في كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية والمطالبة بالحق في النشاط السياسي داخل الجامعة.
تجدر الإشارة أيضاً إلى أن تأثّر الاحتجاجات الطلابية في تونس بهذا السياق الدولي يجب أن يُقرَأ في إطار رسوخ الثقافة المناهضة للاستعمار والامبرياليّة داخل الحراك الطلابي التونسي منذ أوائل الخمسينيات. ويمكن لنا أن نجد أثراً لهذه الثقافة منذ أشغال المؤتمر الأول للاتحاد العام لطلبة تونس عام 1952 وبعض المقالات الصادرة في جريدته «الطالب التونسي» وبياناته الصادرة طيلة ذلك العقد، ولم يزد دعم الثورة الجزائرية ومناهضة الامبريالية الأميركية في كل العالم وخصوصاً في الفيتنام (7) هذه الثقافة إلا رسوخاً.
في نهاية الستينيات كان النظام يعيش على وقع أزمة اجتماعية واقتصادية


إلا أنه من المهم قراءة هذه الروافد الإقليمية والعالميّة للاحتجاج الطلابي في إطار واقع الصراعات السياسية والاجتماعيّة القائمة في تونس، لا بمعزل عنها. إذ إنّ الاشتباك الحاصل داخل الجامعة التونسيّة وفي الحقل السياسي المحلّي هو الذي يعطيها معنى داخل السياق التونسي ويحوّلها إلى موارد سياسيّة قابلة للحشد. هكذا نفهم رواج الماوية في صلب الشباب الطلابي اليساري خلال أواخر الستينيات، كاستراتيجية للتمايز مع «الحزب الشيوعي التونسي» ومن خلفه «الحزب الشيوعي الفرنسي» ولنقد نظام الحكم. أمّا في ما يخص «الحزب الشيوعي»، فقد مثّلت الأطروحات الماويّة توجهاً تحرّرياً مناهضاً للإمبرياليّة في مواجهة الأطروحات الاستعمارية التي دافع عنها «الحزب الشيوعي الفرنسي» والتي تبناها «الحزب الشيوعي التونسي» في تماهٍ تام ومن دون نقد، عندما أدار ظهره لمطلب الاستقلال الوطني التونسي عن فرنسا الاستعمارية. كما أنها أيضاً تتمايز عن هذا الحزب الذي اتبع منذ الاستقلال سياسة «الدعم النقدي» لنظام الحكم التونسي والتي اعتبرها جزء من هذا الشباب الطلابي دعماً واضحاً لا غبار عليه للنظام. أما في ما يتعلّق بالحزب الحاكم والنظام البورقيبي عموماً، فقد مثّلت الماوية فرصة لتجذير نقد الخيارات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة للنظام وخصوصاً تلك المتعلقة بسياسته الخارجية التي اعتُبرت، عن حق، منحازة بشكل تام للسياسة الخارجيّة الامبرياليّة الأميركيّة (8).

الانغلاق السياقي وتجذّر الاحتجاج الطلابي
عرفت الجامعة التونسية حديثة النشأة (9) عام 1968 درجة من التوتر لا سابق لها، وبالإضافة إلى العوامل الخارجية التي سبق ذكرها، فإننا نعتقد بأن عاملين آخرين، على الأقل، في ارتباط مباشر بالجامعة، قد لعبا دوراً في بلوغ هذا الوضع. يمكن اعتبار تبعات التسلّطيّة البورقيبيّة على النضال الطلابي أوّلهما. فقد مثّل التسلّط والإقصاء اللذان اعتمدهما «الحزب الدستوري الجديد» على المعارضة الطلّابية داخل الاتحاد العام لطلبة تونس منذ أواخر الخمسينيات أرضية خصبة لتجذّر النضال الطلابي.
مثّل الاتحاد العام لطلبة تونس، منذ تأسيسه سنة 1952 ورغم الهيمنة «الدستورية»، فضاءً انتعش فيه النقد الاجتماعي والسياسي المفقودان في غيرها من الفضاءات. وقد ضمّت هذه المنظمة في صفوفها في تلك السنوات تيّارات سياسيّة متنوّعة، ويمكن لتبسيط العرض تلخيصها في ثلاثة تيارات أساسيّة.

كانت قد ترسخت الثقافة المناهضة للاستعمار داخل الحراك الطلابي التونسي

يمثّل «الطلبة الدستوريّون» أول هذه التيّارات وأهمها من دون منازع ويمكن تقسيمهم لتوجهين متفاوتي التأثير: المهيمن وهو التوجه الموالي لقيادة الحزب والمدافع عن تبعيّة «الاتحاد» التامة لقيادة «الحزب الدستوري الجديد» والذي كان يسيطر على قيادة المنظمة، بالإضافة إلى توجه ثانٍ استقلالي أقل تأثيراً، من دون أن ينفي ذلك فاعليّته ووزنه داخل المنظمة، ويدافع عن خصوصيّة الشأن الجامعي وشرعية تقرير المصير بين منخرطي النقابة من دون تعسّف من طرف قيادة الحزب. أما التيّار الثاني في «الاتحاد» والذي جسّد حتّى أواخر الخمسينيات القوّة النقابيّة المعارضة الرئيسيّة فقد مثّلها طلبة «الحزب الشيوعي التونسي». وعرف اتحاد الطلبة أخيراً ومنذ أول الستينيات بروز تيّار جديد تنامى باطراد داخل هياكله في فرنسا والتي كان يدرس بها إلى حدود تلك الفترة أغلب الطلبة التونسيين. جمع هذا التيّار خليطاً من مجموعات تفتقر إلى التناغم السياسي والأيديولوجي (شيوعيّون، تروتكسيّون، عروبيّون وبعثيّون (10)، وآخرون غير منتظمين) كان ما يوحّدهم هو معارضتهم للقيادة «الدستوريّة» ومطالبتهم بالاستقلال التام للمنظمة عن الحزب.
ظلّت هياكل «الاتحاد» إلى غاية أوائل الستينيات خاضعة لهيمنة «الطلبة الدستوريّين» أنصار التبعيّة لقيادة الحزب، من دون أن يلغي ذلك وجود بقية التيّارات التي كانت نادراً ما تنجح في إيصال بعض عناصرها إلى القيادة في مقابل تمكّنها غالباً من ضمان حدٍّ أدنى من التواجد داخل الهياكل الوسطى والقاعديّة للمنظمة. كان هذا التواجد يضمن حضوراً أدنى للخطاب النقدي تجاه نظام الحكم، سواء لمناسبة المؤتمرات السنويّة أو خلال الجلسات العامة الدورية وعلى أعمدة جريدة «الطالب التونسي».
من هنا يمكن لنا أن نفهم خطورة ما أقدمت عليه الأغلبية «الدستوريّة» حين تعسّفت على المعارضة النقابية وأنصار استقلاليّة المنظمة وفرضت بالقوة انطلاقاً من كانون الثاني/جانفي 1963 إخضاع أحد آخر الفضاءات شبه المستقلّة عن السلطة والتي كانت تلعب دور «الفضاء السياسي المعوّض»، وكيف كانت دافعاً لظهور اليسار الراديكالي في تونس بعدما أغلقت الباب أمام المعارضة النقابية الأقل راديكاليّة. وقد تتابعت الإجراءات التعسّفيّة إلى أن بلغت أقصاها بمناسبة المؤتمر الحادي عشر لـ«الاتحاد العام لطلبة تونس» المنعقد في شهر آب/أوت 1963 بمدينة الكاف، حين قررّت القيادة نهائياً إقصاء العناصر المناوئة لها والمسؤولة عن فرع فرنسا بالإضافة إلى إقرار «ميثاق طلابي» جديد للمنظمة ينصّ على تبعيتها للحزب الحاكم. وقد كانت هذه الخطوة حاسمة في دفع العناصر التي تم طردها، والتي تكونت في صلب «الحزب الشيوعي التونسي» أو داخل هياكل الحزب الحاكم قبل الابتعاد عنهما تدريجيّاً لتبنّي التروتسكيّة أو غيرها من التوجهات اليساريّة بالإضافة إلى القوميّة، للقطع مع مرحلة الاكتفاء بالمعارضة المعتدلة من داخل هياكل «الاتحاد» (11)، إلى تأسيس تنظيم سياسي جديد يتبنّى المعارضة الراديكاليّة لنظام بورقيبة.
تمّ تأسيس هذا التنظيم الذي أطلق عليه «تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي» رسميّاً في تشرين الأول/أكتوبر 1963 ضمن المبيت الجامعي في ضاحية أنتوني الباريسيّة. ولم يكن لهذا التنظيم حينها، عدا خطه السياسيّ اليساري العام المتأثر بالماركسيّة، هويّة سياسيّة وأيديولوجية واضحة، وكانت أبرز النقاط المرجعيّة لديه تتلخّص في المعارضة الحازمة لنظام الحكم البورقيبي وفي أولويّة واضحة للمسألتين الاجتماعيّة والوطنيّة. وتذكرنا هذه التعددية السياسية داخل التنظيم بتجربة «حركة 22 مارس» في فرنسا عام 1968 والتي شبهها جون شيسنو بـ«كونفدراليّة من القبائل المتمرّدة».
مثّل تأسيس تنظيم «آفاق» مرحلة مهمة في تشكّل معارضة تونسية ناقدة للنمط المجتمعي البورقيبي، المؤسّس على «وعد الحداثة» الذي يرفعه، وعلى الميثاق الضمني الذي بني عليه، وهو «ميثاق أمني». أَوكل تنظيم «تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي»، المعروف بـ«برسبكتيف» على اسم مجلّته، إلى نفسه مهمّة تحليل وفهم الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي التونسي واقتراح البدائل. وقد مثّّلت المجلّة فضاء بيّن من خلاله التنظيم ما وصفه بزيف الإصلاحات المُتبعة من النظام، حيث نقدت منذ عددها الأول (12) في كانون الأول/ديسمبر 1963 البؤس الذي يعمّ أرياف البلاد والذي لخّصته تحت يافطة «الوضع الزراعي». وتناولت الأعداد اللاحقة قضايا أخرى لا تقلّ عنها أهميّة مثل «المسألة النقابيّة» و«الطبقة العاملة» و«الرقابة الذاتية لدى المثقفين»، إلى أن بلغ نقدها للواقع التونسي درجة من الشمول سمحت لها بأن تقدّم قراءة عامّة في المنوال الاقتصادي التونسي الذي تصنّفه كـ«رأسمالية دولة».
قرّر هؤلاء الطلبة إيقاف هجرتهم إلى فرنسا والعودة والترسيم بشكل مكثّف في الجامعة التونسيّة «بنيّة ملء الفراغ السّياسي الذي تركه الاتحاد العام لطلبة تونس» الذي اهتزت شرعيته للمرّة الأولى في تاريخه. في هذا السياق، عاد مؤسّسو «برسبكتيف» انطلاقاً من تشرين الأول/أكتوبر 1964 للاستقرار في تونس وتطوير نشاط التنظيم الذي ذاع صيته سريعاً بين الطلبة والأساتذة بفضل مجلته. واصل التنظيم الانخراط في «الاتحاد» عبر عناصره الطلابيّة مع لعب دور قيادي في الاحتجاجات الطلّابيّة المتنامية خارج هياكله والتي تعبّر عن الصعوبات المتزايدة التي عرفتها الجامعة.
لم تفتأ قيادة «الاتحاد العام لطلبة تونس» تفقد شرعيتها أمام عموم الطلبة خلال هذه الفترة، وقد عوضتها المعارضة الطلابيّة تدريجيّاً في التعبير عن تطلعات وطموحات الطلبة وهمومهم. وقد تحولت «برسبكتيف» خلال سنة 1967 إلى القوة المعارضة الأساسية في البلاد، لا فقط داخل الجامعة، رغم انحصارها داخل أسوارها، وحصل ذلك بالتوازي مع التجذّر الشامل الذي عرفه خطّها السياسي، خاصة بعد حسمها، بمناسبة ندوة الجزائر التي التأمت في آذار/مارس 1967، أسسها النظرية وأهدافها السياسية، التكتيكية والاستراتيجية. تلت هذه المرحلة عملية الحسم الأيديولوجي في صلبها وعبّر عنها إعلان تبنيها الماويّة رسمياً في أيلول/سبتمبر من نفس السنة، وتبعاً لذلك فقد صارت المنظمة تطرح على نفسها خوض المواجهة المفتوحة والشاملة مع النظام عبر وضع الثورة الاشتراكية في تونس هدفاً لها.
إضافة إلى دور الانغلاق السياسي والدور النشيط الذي لعبته «برسبكتيف»، فإنّ عاملاً ثانياً كان له دور في تجذير الاحتجاج الطلابي التونسي ضد النظام السياسي، وهو الطفرة المفاجئة في عدد الطلاب بالجامعة التونسية والتغيّر النسبي لتركيبتهم الاجتماعية. فعددهم تضاعف 6 مرات تقريباً حيث مرّ من 2300 في 1961 إلى 15000 طالب وطالبة سنة 1970. انجرّ عن هذا النمو اضطراب على مستوى تناسق البنية التحتيّة وإمكانات التأطير المتوفرة بالجامعة مقارنة بالاحتياجات المستحدثة.

«العامل التونسي» الصادرة عن نفس المنظمة التي تعدُّ من الجيل الثاني للحركات اليسارية في تونس

وكمتلازمة مع هذا الارتفاع، تمكّن طلاب من الفئات الدنيا للطبقات الوسطى والشعبيّة من دخول الجامعة التي كانت في السابق حكراً على أبناء الفئات الميسورة للطبقات الوسطى والعليا، ويعزو بعض الكتّاب تصاعد الراديكاليّة الطلاّبية إلى هذا التحول الاجتماعي.
شهدت الجامعة انطلاقاً من سنة 1965 تصاعداً في نسق الحراك الاحتجاجي وعمقه. ففي شباط/فيفري 1965، نظّم بضع مئات من الطلبة أول تحرك احتجاجي خارج أسوار الجامعة (13) تنديداً بالمحسوبية التي يتمتع بها طلبة الحزب الحاكم في الحصول على الخدمات الجامعيّة.
في كانون الأول/ديسمبر 1966 تمّ، وللمرة الأولى في تاريخ الجامعة التونسيّة، إعلان الإضراب العام عن الدروس من طرف المعارضة النقابية الطلّابيّة (بدعم من الأساتذة) وبمعزل عن قيادة «الاتحاد العام لطلبة تونس» تنديداً باقتحام قوات البوليس لكلية الحقوق. بعد بضعة أشهر بعد هذا الإضراب، نُظّمت مسيرات طلابيّة ظهيرة يوم 6 حزيران/جوان، في شوارع تونس، دعماً للجيوش العربيّة في مواجهة إسرائيل و«تنديداً بتواطؤ النظام التونسي مع الإمبرياليّة الأميركية ــ البريطانيّة ــ الصهيونية». خلال هذه المسيرات طاف آلاف المحتجين شوارع العاصمة، بتأطير من «برسبكتيف» في البداية، قبل أن يفقد المنظمون السيطرة على المتظاهرين وتتحول الاحتجاجات إلى اعتداءات على السفارتين الأميركية والبريطانية والمركز الثقافي الأميركي والكنيس اليهودي الأكبر في «شارع الحريّة». وقد أكدت عدة شهادات من طرف قياديين «برسبكتيفيين» وغيرهم تواطؤ الأمن التونسي (بحضور قياداته)، وذلك عبر سماحه للمتظاهرين بمهاجمة الكنيس وبقية المراكز الأجنبيّة من دون أدنى حماية، مما غذّى فرضية التآمر الرسمي لاستغلال الأحداث لاحقاً لقمع الحركات الاحتجاجية. طالت حملة قمع كبرى في وقت لاحق من ذلك اليوم القيادات الطلابيّة ومن بينها محمد بن جنّات، المناضل «البرسبكتيفي» الذي حكم عليه بالسجن لعقدين مع الأشغال الشاقة (14).
عند هذا المستوى، تجدر الإشارة إلى أن «برسبكتيف» كتنظيم طلابي بالأساس، يجسّد بشكل أو بآخر الإيمان الراسخ بـ «الدور المنقذ» للجامعة وبـ«مهمة تاريخيّة» على «النخبة المثقفة» أن تلعبها عبر تقديم الإصلاحات التي يحتاج إليها البلد. ورغم محاولة القطيعة مع البورقيبية على المستوى السياسي والأيديولوجي، فإنّ هذا التصور النخبوي للنضال يُعَدّ تواصلاً لمركزيّة «النهج الإصلاحي» في الفكر السياسي التونسي منذ نهاية القرن 19 وتحوله إلى أيديولوجيّة دولة منذ انفراد «الحزب الدستوري الجديد» بالحكم غداة الاستقلال. ونعني بـ«النهج الإصلاحي» في هذه المرحلة من تاريخ مجموعة «برسبكتيف» ارتباطاً مزدوجاً لها، من ناحية مع الطابع العمودي والنخبوي للإصلاحات ومن ناحية أخرى مع الطابع التدريجي للتغييرات المقترحة في تمايز مع المنهج الثوري الذي سينمو تدريجاً في صلب المجموعة حتى يصبح المهيمن في أواخر الستينيات.

الانفجار الاحتجاجي و«مارس 68» التونسي
أدّى تظافر العوامل سابقة الذكر إلى انتشار إحساس بالإحباط تجاه وعود دولة الاستقلال وزعيمها ونمو النقمة تجاه نظام الحكم، وهذا ما عمّ أجزاء من التونسيين، كان الطلاب أبرزهم. لعب الطلّاب خلال هذه الفترة دور القوّة المعارضة الأولى للنظام ومثّلت الجامعة الفضاء الذي ترعرعت فيه ما أطلق عليها جان أنتيليس عام 1974 عبارة «الثقافة السياسية البديلة». ويشخّص أنتيليس، في خضم تحليله لعلاقة الجامعة بالنظام السياسي القائم حينه، الشعور العام لدى الشباب بفقدان ثقة تامة في كل النخب الموجودة، سواء كانت في الحكم أو خارجه. وهو استخلاص يمكننا، إذا سايرنا كاتبه (الذي اعتمد للوصول إليه على استمارات وزّعها على الطلبة)، من أن نستشفّ فيه بوادر مساءلة عميقة لشرعية النّظام، وقد تكون المواجهات المستمرة والعنيفة التي جمعت بين هذا الشباب الطلابي ونظام الحكم منذ سنة 1967 إلى غاية أواسط السبعينيات إحدى نتائجه.
وعودة إلى تفاصيل ما حدث سنة 1968 في الجامعة التونسيّة، نؤكد بداية بأنّ هذه السنة قد شهدت «دورة احتجاجية» غير مسبوقة. إذ انطلقت الاحتجاجات منذ بداية السنة، في تواصل لرسوخ المواقف المعادية للامبريالية والاستعمار في صفوف هذا الشباب الطلابي، وكانت أولى التحرّكات احتجاجاً على شخصيتين ترمزان للعدوان الأميركي على فيتنام؛ الأول هو تران فان دو، وزير الخارجية في حكومة سايغون المنصّبة والموالية لأميركا، والثاني هو هوبرت همفري نائب الرئيس الأميركي. وقد عرفت الجامعة اضطرابات كبرى خلال هذه الفترة مرفقة بمواجهات يومية محتدّة جمعت الطلبة بقوات البوليس بين الثامن والحادي عشر من كانون الثاني/جانفي، وتميّزت هذه الاضطرابات ببروز تعاطف من قطاعات مجتمعيّة أخرى مع الطلبة، وهو ما يمثّل مرحلة أعلى من مراحل انتشار فقدان الثقة في النظام. وقد قرأت «برسبكتيف» هذا التعاطف كتوفر استعداد شعبي لـ«إنجاز الثورة البروليتارية في تونس»، وهو ما يذكرنا بتكتيك «الالتقاء» بالطبقة العاملة الذي تبنته منذ تشرين الأول/أكتوبر 1967.
تمّ تأسيس «برسبكتيف» رسميّاً في تشرين الأول 1963 في باريس


لم تفتر الاحتجاجات خلال الشهرين المواليين، بل على العكس، فقد احتدّت وتيرتها داخل المؤسسات الجامعيّة وتوسّعت إلى المعاهد الثانويّة. وقد اقترن هذا الاحتدام بحملات تعليق ملصقات على جدران الأحياء الشعبيّة المجاورة للعاصمة، قامت بها «برسبكتيف». إلّا أن منعرج الأحداث قد حصل في الفترة ما بين 13 و19 آذار/مارس حين حصل التصعيد الأخير من طرف الطلّاب، والذي أعلن فيه عن إضراب عامّ مفتوح في مؤسسات التعليم الجامعية والثانويّة.
وقد تم تشكيل لجنة طلّابية (هيمن عليها «البرسبكتيفيّون» مع وجود أقلوي للشيوعيّين وغير المنتمين)، لقيادة التحركات والإشراف عليها وتكثيف المطالب الجماعيّة والتفاوض حولها مع السلط المعنيّة طيلة فترة الإضراب المفتوح. كانت المطالب متعدّدة، لكن يبقى أهمها ذلك الذي طالب بـ«دمقرطة التسيير الجامعي» وتمكين الطلبة والأساتذة من المشاركة فيه على نفس القدر من المساواة مع السلطة التنفيذيّة. هذا المطلب، وإن كان يبدو بسيطاً اليوم في خضم التغيّرات السياسيّة الحاصلة، فإن تنزيله في سياقه العام التسلطي البورقيبي يجعل منه مطلباً «قصووياً» نوعاً ما. ورغم ذلك فقد نجحت قوة التحركات وثباتها في حشد الدّعم لها، خصوصاً دعم الأساتذة، وإجبار سلطة الإشراف على قبول كل المطالب التي رفعتها اللجنة باسم المحتجّين.
في المقابل، كان يفترض على لجنة التفاوض أن تلتزم بالإيقاف الفوري للاحتجاجات، وهنا بالتحديد حصل الانشقاق داخل اللجنة، رغم أن بوادره كانت سابقة، بين «البرسبكتيفييّن» من جهة والشيوعيّين وغير المنتظمين من جهة أخرى. ففي حين دافع الفريق الأول عن رفض الاتفاق والتصعيد في مواجهة السلطة، فإن الفريق الثاني رفض هذا المقترح ودفع في اتجاه إيقاف الاحتجاجات. وقد لعبت الأغلبية «البرسبكتيفيّة» وهيمنتها ميدانيّاً على تأطير التحركات وفرض موقفها.
لفهم موقف «برسبكتيف»، يجب علينا الاستنجاد بقراءتها للوضع السياسي في حينه وآفاق الفعل فيه. فقد كانت الحركة ترى أن الوضع ثوريّ متفجّر، وأنّ المطروح في ذلك الظرف ليس التوقف عند تحقيق مكسب ظرفي قطاعي، بل تجذير الاحتجاج وربطه ببقيّة الفئات الشعبيّة ودفعه نحو مساءلة أكثر عمقاً للنظام البورقيبي.
يمكن قراءة هذا الرفض أيضاً بصفته شكلاً من الانتفاض ضد نظام تسلّطي يهيمن على جزء مهمّ من الفضاء الاجتماعي، لا يتردد في ممارسة القمع بكل أشكاله، بما فيه القمع الجسدي، كلّما عجزت أشكال التأطير والهيمنة الاجتماعية الأخرى (خلايا الحزب، الإدارة، القانون، الزبونيّة، خنق كل فضاءات التفكير والنقد الاجتماعي، المدرسة، الإعلام، إلخ) عن ضمان السّيطرة التامّة على المجتمع. وفي هذا السياق السياسي يمكن لنا فهم البعد الجذري في احتجاجات آذار/مارس 1968 التونسيّة. إذ برغم فشلها في نشر الاحتجاج داخل بقية الفئات الاجتماعية المتململة من نظام الحكم وانحسار التحركات بين الطلبة والتلاميذ (عكس ما حصل مثلاً في فرنسا التي تميّزت بحدة الاحتجاجات العمّاليّة بالإضافة إلى تحرّكات الطلبة)، فإن مجرّد التعطيل المؤقت والنّسبي لآليات التأطير الاجتماعي «الدستوري» وإخراجها الاحتجاج والنقد إلى العلن وافتكاك الفضاء العام والخطورة الكبرى التي قد تنجرّ عن سلوك بهذا «التهوّر» هو لوحده مقياس معبّر عن مدى جذريّة «أحداث آذار/مارس 1968» من الناحية السياسيّة. ولعل حدثين تاريخيّين سابقين لعام 1968 يكفيان لتبيان خطورة الاحتجاج السياسي ضد نظام الحكم البورقيبي: الأول ومن دون منازع هو طبعاً القمع الوحشي للانشقاق اليوسفي (15) في صلب «الحزب الدستوري الجديد» غداة الاستقلال، أما الثاني فهو «أحداث القيروان» (16) عام 1961.
لم تكذّب الإجابة القمعيّة لنظام الحكم هذا التحليل وكانت حدّتها ذات طابع له غاية في المشهديّة، حيث تولّت ميليشيات الحزب الحاكم بالتعاون مع الأمن التونسي عمليات الإيقاف والتعذيب بتنسيق كبير بينها، وتبيّن شهادات عدد من المشاركين في تلك الأحداث كيف سبقت الميليشيات الأمن في إيقاف المناضلين وتعذيبهم بحثاً عن وثائق أو معلومات تسهّل التتبع الأمني والقضائي اللاحق.
واستباقاً لحملة الإيقافات، قامت وزارة التربية بتقديم عطلة الربيع المدرسيّة والجامعيّة، من يوم 23 آذار/مارس إلى يوم 19 منه، حتى تخلو الجامعات والمعاهد ويستحيل على الطلبة والتلاميذ إيجاد فضاء يجمعهم لرد الفعل (17). في فجر 20 آذار/مارس، انطلقت حملة الإيقافات الكبرى وشملت مئات الأشخاص. بعد انتهاء «التحقيقات»، انطلقت فترة المحاكمات (أمام محكمة استثنائيّة تم إنشاؤها للغرض وهي محكمة أمن الدولة (18))، ودامت من تموز/جويلية إلى أيلول/سبتمبر 1968، تاريخ النطق بالحكم ضد 94 مناضلاً ومناضلة من «برسبكتيف» و7 من «الحزب الشيوعي»، تم الاحتفاظ بهم بعدما أطلق سراح البقيّة. بالتوازي مع هذا، تمّت أيضاً محاكمة 27 بعثيّاً (19) أمام نفس المحكمة في شباط/فيفري 1969، وتراوحت الأحكام السجنيّة التي صدرت في هاتين القضيتين بين بضعة أشهر وستة عشر سنة ونصف.
وضع هذا القمع المفتوح حدّاً لـ«الموجة الاحتجاجية» اليسارية الأولى، إلا أن ذلك مثّل إيقافاً مؤقتاً، إذ عاد الاحتجاج الطلابي ليحتدم بعد عام من هذا التاريخ. نتج من هذه الموجة القمعيّة أيضاً تفكيك تنظيم «برسبكتيف» القوي وتنظيم الفرع التونسي لـ«حزب البعث» الذي كان ينشط بشكل سرّي وغير مرئي إلى حدّ تلك اللحظة.
مثّلت هذه الأحداث المرة الأولى التي يتم فيها الوعي بمدى منهجيّة ممارسة التعذيب من قبل السلطات البوليسيّة التونسيّة لدى الرأي العام وخصوصاً بين المناضلين (20). وتتطابق روايات المحكومين في هذه الأحداث حول تفنّن سجاّنيهم في تعذيبهم بإشراف من أكبر مسؤولي وزارة الداخليّة، مستعملين تقنيات متنوعة، مدمّرة ووحشيّة. ومن المذهل في هذا السياق أنّ أيّاً من الموقوفين لم يفلت من هذا المصير، حتّى أولئك الذين استقالوا من التنظيم والذين كانت وزارة الداخلية على علم بأدق التفاصيل حول مشاركتهم، ولم تكن تنتظر من استجوابهم إضافة تُذكر. وهو ما يحيلنا على الأدوار الأخرى، الأهم ربما، التأديبيّة والسياسيّة والأيديولوجيّة، التي يلعبها التعذيب بصفته مؤسّسة سياسيّة مكتملة المعالم.

أشكال «الحياة اللاحقة»
يحيلنا الحديث عن «الحياة اللاحقة» هنا على شكلين أساسيّين لها: الحياة اللاحقة للحدث عند أولئك الذين عاشوه وشاركوا في صناعته من جهة، وحياته اللاحقة عند أولئك الذين لم يعايشوه وبلغهم حديثه عبر القراءات أو بالسماع.
نحن مدينون لكريستيان روس بتحليل عميق لأشكال الحياة المختلفة التي قد يحياها حدث تاريخي ما بعد انقضائه. وقد كرّست روس كتابها الرائع «ماي 68 وأشكال حياته اللاحقة» لتحليل التناول الأكاديمي والإعلامي لـ«ماي 68» الفرنسي، نقدت فيه الكاتبة أوّلاً إفراغ الرواية الرسميّة للانتفاضة من محتواها الثوري وكيف تمّت تدريجيّاً صناعة صورة جديدة للحدث (انطلاقاً من الذكرى العاشرة لأحداث ماي، وخصوصاً بعد احتفالات ذكراها العشرين)، لا تمتّ بصلة لجوهره الذي شارك في خلقه ملايين الفرنسيين. كما أن الكاتبة لم تفوّت أيضاً فرصة نقد الترابط الجوهري بين دوائر السلطة والدوائر الأكاديمية، وقد وجّهت سهام نقدها للتناول التاريخي والسوسيولوجي والسياسي للأحداث، وكيف أنّها سعت جاهدة، كما تؤكد روس، إلى «مسح طابعها السياسي». وعكس كلّ الروايات السائدة، تؤكد الكاتبة أن «ماي 1968 لم يكن إصلاحاً ثقافياً كبيراً ولا دفعاً في اتجاه الحداثة أو الفردانيّة. وهو لم يكن بالتأكيد انتفاضة لتلك الفئة الاجتماعيّة التي يطلق عليهاً «شباباً». بل كان، على عكس ذلك، انتفاضة متزامنة للعمّال والطلبة جدّت في سياق خاصّ جاء عقب انتهاء حرب الجزائر».
ورغم أن روس لا تشير في كتابها إلى عمل ميشال دوبري المرجعي «علم اجتماع الأزمات السياسيّة»، فإن تحليلها لـ«ماي 68» المناقض للسرديّة المهيمنة يرتكز، في جزء مهم منه، على فكرة الأزمة السياسيّة بوصفها اضطراباً في الحدود الفاصلة بين القطاعات والفئات الاجتماعية أو ما يطلق عليه دوبري «تخطّي القطاعيّة»، والتي يكفّ عندها كل شخص بالتوقّف عن لعب دوره الاجتماعي «العادي» داخل حقل (أو حقول) نشاطه الاعتياديّة وهي أيضاً ظرفيّة تضيع فيها الحسابات القطاعية الكلاسيكية التي تعتمد على انفصال الحقول أو القطاعات الاجتماعية المختلفة ووجود قانون لعبة خاصّ بكلّ منها بسبب ما يطلق عليه دوبري «الاستقلاليّة التكتيكيّة الموسّعة».
وعودة لمسألة أشكال الحياة الأخرى، وبتطبيقها على ما يهمّنا في هذا المقال، وهي أحداث «مارس 1968» في تونس، نقرّ أوّلاً بأن «ذاكرة 1968» التونسية ورغم ضعف تأريخها، فإنها لم تفلت من فخّ القراءات المتأخّرة عن الحدث، التي تسعى جاهدة لكشف ما تعتقد بأنه «معناه الحقيقي» بغضّ النظر عن كل خطابات الفاعلين، التي رُفعت أثناءها. إنّ هذه القراءة تخطئ في حقّ التاريخ لغائيتها، إذ إنّها تعيد إسقاط ما أدّت إليه الأحداث لاحقاً والبحث له عن براهين تاريخيّة يتم اختيارها بصفة انتقائيّة. هذه المقاربة لا تخدم طبعاً الفهم التاريخي للأحداث بل تزيد في أسطرة تصوّراتنا عنها، كما أنّ هذه المقاربة تختزل الأحداث بكلّ ثرائها وتعقيداتها في فعل واع أو غير واع، واحد أوحد، قاد الفاعلين والفاعلات وحدّد اختياراتهم. ولعل أوضح مثال عن هذا التوجه هو قراءات انتشرت في بداية سنوات الألفين (21)، لفاعلين أساسيّين في أحداث «مارس 68» التونسي عادوا بعد عشرات السنين لتأريخ تجربتهم في أعمال سير ذاتيّة، نظّرت لأطروحة «الجوهر الديموقراطي» في نضالات الشباب الطلابي في الستينيات. وقد سبق لهشام عبد الصمد أن توجّه بالنقد لهذه القراءات قائلاً: «إن اختزال حركة سياسيّة في تعبيرة ثقافيّة، ذات بعد ديموقراطي، تلعب هنا دور التحديد الغائي ـــ تهدف لتخليص فعل من الشوائب وتقليصه إلى جوهر خفيّ ـــ وهو نوع من التفسير أو التأويل أو حتّى التخيّل».
إلا أنّنا نبقى في حاجة إلى تفكيك هذا الخطاب بشكل دقيق وعلمي، عبر إنجاز أبحاث مماثلة لتلك التي أنجزتها روس حول «ماي 68» الفرنسي ودراسة معمّقة ومنهجية لأرشيفات الحركة وكل الوثائق المتاحة والشهادات المكتوبة والشفاهيّة عما حصل، وهي دراسة غائبة تماماً اليوم.
وفي انتظار عمل طموح كهذا، قادر على توفير أرضية صلبة لنا نقرأ عبرها الأحداث، سنكتفي بالتأكيد، ونحن نتبع خطى هشام عبد الصمد، بأنّ تلخيص معارضة نظام الحكم البورقيبي خلال الستينيات في المطلب الديموقراطي، على أهمّيته، تعسّف على تنوعها وثرائها. إذ إن هذا المطلب لا يجب أن يحجب عنّا جوانب أخرى ومنها: النقد الجوهري لـ«الاشتراكية الدستوريّة» من منظور يساري مخالف تماماً عن التقييمات الليبراليّة اللاحقة التي ازدهرت منذ صعود الليبرالي (الاقتصادي) الهادي نويرة إلى الوزارة الأولى في 1971. إذ إنّ «برسبكتيف» كانت تعيب قصور ما يسمّى بـ«الاشتراكيّة الدستوريّة» وتصنّفها كـ«رأسماليّة دولة» لا تتجاوز في دورها مهمّة مراكمة الرساميل في يد البرجوازيّة الناشئة من رحم البيروقراطية، وترى في الثورة الاشتراكيّة البديل الحقيقي لها. كما أن «برسبكتيف» كانت تدافع بقوة عن الاستقلال الوطني، الاقتصادي والسياسي والثقافي، عن الهيمنة الامبرياليّة، في تضادّ مع السياسة الخارجيّة التونسيّة التي تصنّفها كموالاة لأميركا وللإمبرياليّة بصفة عامة.
أمّا ما يعنينا أساساً في هذه الورقة، فهو مساءلة النوع الثاني من «الحياة اللاحقة» لـ«مارس 68» التونسي، التي عاشتها الأجيال اللاحقة التي انخرطت في النضال السياسي اليساري. وكمثال عن هذه الأجيال، سآخذ المناضلات والمناضلين الذين عايشوا الحراك الثوري الذي انطلق في كانون الأول/ديسمبر 2010 داخل الجامعة أو على تخومها بوصفهم معطّلين عن العمل مقرّبين ومرتبطين بالحراك الطلابي، رغم ترك بعضهم للجامعة منذ سنوات.
تميّز الفضاء السياسي الذي عاش هؤلاء المناضلون داخله بالتشتت الشديد بين مختلف التنظيمات/المجموعات السياسية اليساريّة والقوميّة. وكانت هذه التنظيمات/المجموعات لا تتجاوز أحياناً بضع عشرات من الأفراد، ولا يميز إحداها عن الأخرى أحياناً سوى بعض التفاصيل في الخط السياسي أو في الخطاب، والتي قد لا تكفي في وضعيات أخرى حتّى للتمييز بين رأيين مختلفين بوضوح في صلب التنظيم نفسه، فما بالك بالتحول إلى هويات سياسيّة متباينة. ونحن نجزم أن هذا الواقع المتشرذم كان له دور أساسي في تشكيل وعي هؤلاء المناضلين والمناضلات بالتاريخ السياسي لليسار التونسي وفي تكوين المخيال الجمعي المشترك لهم. ويبرز هذا في تبنيهم اليوم تصورات مثاليّة موحّدة و«مشيّأة» للنضالات الطلابيّة لسنوات الستينيات والسبعينيات، إذ إنّ «برسبكتيف» قد شهدت صراعات داخلها منذ سنة 1968، أدت إلى استقالة عدد من مناضليها الناقدين لتجذّر الخط السياسي للتنظيم (22) وآخرين اعتبروا أن القيادة اتخذت قرارات مسقطة ومناقضة للخط السياسي الرسمي (23). وتتابعت الانقسامات منذ ذلك الحين وإلى حدود نهاية السبعينيات حين اندثر أثر «برسبكتيف» التنظيمي تاركاً مكانه عدداً كبيراً جدّاً من التنظيمات الجديدة المجهريّة.
عندما يستذكر محدّثونا من أبناء وبنات هذا «الجيل» تاريخ اليسار في الستينيات والسبعينيات، نادراً ما تجدهم ينسبون خطاباتهم أو يُلحقون بها إشارة للصراعات والانشقاقات. ويشي هذا الاستعمال الموحّد والمتّسق لذكريات «برسبكتيف» باحتياجات تتجاوز الأحداث والتاريخ والتفاصيل، فما حصل حقّاً ليس هنا ذا أهميّة تذكر، بل إنّ ما يبقى هو قيمة هذه الذكريات في السياق السياسي الراهن. أي بعبارة أخرى، إنّ هؤلاء المناضلين والمناضلات الذي لم يعايشوا أحداث «مارس 68» مثلاً، يكتفون باستذكار عمومياتها واستخدامها كوسيلةً أو مورد من موارد الصراع السياسي اليوم، وهو ما يستوجب أحياناً إحداث تغييرات طفيفة على مجريات الأحداث أو «تناسي تفاصيل» مهمة حتى يتناسق المثال التاريخي المقدّم مع احتياجات الصراع السياسي الراهن. وتستعمل هذه الذكريات بأشكال متنوّعة، منها الاستدلال على صحّة خيار بتطابقه مع خيارات تاريخية أو محاولة ادعاء شرعيّة تاريخيّة معيّنة أو سحب شرعيّة عن منافس سياسي.
ولتوضيح هذا الاستعمال، نورد ثلاثة أمثلة من خطابات رائجة، نقتطفها من حوارات كنت قد أجريتها مع مناضلين ومناضلات بهدف إجراء أبحاث علميّة حول مواضيع متّصلة. يورد المتحدث الأول في مجرى حديثه أن «القيادة التي هيمنت على قيادة الاتحاد العام لطلبة تونس منذ نهاية التسعينيات قد قطعت مع الإرث النضالي للحركة الطلّابيّة... حيث أن السياسة الانتهازيّة التي اتبعتها تقطع مع ثوابت الحركة الطلابيّة... مع نضالات جيل برسبكتيف» (24). نرى في هذا المقطع نوعاً أولياً من الاستعمالات الممكنة لاستحضار أحداث «مارس 1968» والأحداث التي تلتها، عبر محاولة استلهام شرعيّة مرجعيّة مشتركة للتشكيك في منافس سياسي داخل «الاتحاد العام لطلبة تونس» والفضاء الجامعي عموماً. ويكتفي مخاطبي باستحضار الجانب الراديكالي في الإرث «البرسبكتيفي» مثلاً، متناسياً فترة «الاعتدال» السياسي التي عرفتها الحركة طيلة أربع سنوات من حياتها وهي تقريباً السنوات الوحيدة التي لم تعرف خلالها انشقاقات تُذكر. بيد أن المدافعين عن الخط المنافس أيضاً لا يتورعون عن استعمال المرجعيّة نفسها لدعم شرعيتهم وهو ما يبيّن مدى مرونة هذه المرجعيّة المشتركة وسهولة استحضارها.

من سنة 1965، شهدت الجامعة تصاعداً في نسق الحراك الاحتجاجي وعمقه


كما يذكّر مخاطب آخر بأنّه «حين كان الإسلاميّون محميّين ومموّلين من قبل الحزب الحاكم، كان اليسار في غياهب السجون يتعرّض للتعذيب. لقد خلق النظام الإسلامي لتدمير اليسار لأنه البديل الوحيد، الثوري الوحيد... علاوة على ذلك فإن مواصلة الإسلاميين اليوم لسياسة بن علي في كل المجالات هي خير دليل على أنّهم لا يختلفون عنه كثيراً...» (25). يقصد مخاطبي في هذا المقتطف بأن اليسار حسب رأيه، يمثّل القطيعة الوحيدة الثوريّة مع النظام السياسي والمجتمعي الذي ركّزه حزب «الدستور»، في حين أن الإسلاميين ليسوا أكثر من تغيير على مستوى القيادة السياسيّة والغلاف الأيديولوجي للنظام، وهي قراءة مهيمنة في صلب اليسار، خصوصاً الماركسي منه، في تونس. ويلعب توحيد اليسار في هذا المثال (المقصود باليسار هنا، هي «برسبكتيف») دور المورد السياسي الذي تحشده المجموعات والأحزاب اليساريّة في الصراع الدائر داخل المشهد السياسي الجديد المتشكل عقب انكفاء المسارات الثورية والذي وضعها في مواجهة حركة النهضة، التي تحولت إلى حزب قانوني مهيمن يستعمل نضاله ضد بن علي وبورقيبة كمصدر لشرعيته السياسيّة.
أمّا المثال الأخير، فهو ذلك الذي تؤكّد فيه إحدى المناضلات أن «اليسار الراديكالي أنهى منذ سنوات دورة حياتيّة انطلقت منذ 50 سنة خلت مع برسبكتيف... ويجب على الجيل الجديد، الذي فجّر الثورة، أن يبدأ دورة جديدة لليسار التونسي ويعيد إحياءه من رميمه...» (26). في هذا الخطاب «الشبابوي»، ترد «برسبكتيف» لتذكّر بـ«عظمة فترة تاريخية» وضرورة إخراج اليسار التونسي من الانحطاط الذي يعيشه. وهو خطاب ازدهر منذ 2011 عند مجموعات سياسيّة شبابيّة بالأساس، رأت الضوء أثناء الحراك الثوري 2010 ـــ 2011 أو بعده. ويحاول هذا الخطاب أن يستند إلى الفعل التأسيسي لـ«برسبكتيف» ضد التدهور الذي جسّده «الحزب الشيوعي» حينها، في مواجهة التنظيمات اليساريّة الكلاسيكيّة التي تهيمن على المشهد اليساري اليوم والتي تطرح المجموعات الشبابيّة على نفسها التحوّل لبديل منها كجزء من «مهمة تاريخيّة» هي إعادة إحياء اليسار، «البديل الحقيقي» عن نظام الحكم في تونس.