يمثّل جيل 1968 في تركيا حالة فريدة، ليس لأنّ البلاد كانت تشهد حينها تحوّلاً كبيراً فحسب، بل أيضاً لكونها حليفاً مخلصاً للناتو يقع بجوار الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة
توجد في الغرب وفرة في الأدبيّات حول الستينيّات، بخاصّة حول حركات شباب ذلك الجيل، ولكن من المهمّ دراسة تلك الفترة في جغرافيّات مختلفة حتى يتسنى لنا فهم مختلف ألوان الحركات الطلابيّة حول العالم. وتمثّل دراسة جيل 1968 في تركيا حالة فريدة، ليس لأنّها كانت تشهد تحوّلاً كبيراً خلال تلك الفترة فحسب، شمل نموّ عدد السكان ومستوى التحضّر والتصنيع، لكن أيضاً لأنّها كانت حليفاً مخلصاً للناتو يقع بجوار الاتحاد السوفياتيّ خلال حقبة الحرب الباردة. بناء على ذلك، وجدت تركيا نفسها بين طرفي نقيض، ما قادها إلى استقطاب وعنف سياسيّين نهاية الستينيّات والسبعينيّات.
ظهر جيل 1968 في تركيا أوّل الأمر كحركة طلابيّة تركّز على إصلاح النظام الجامعيّ، لكنّها تطوّرت بحلول نهاية الستينيّات إلى حركة ثوريّة ناضلت في نهاية المطاف باستخدام العنف الثوريّ بعد التدخّل العسكريّ في 1971. بدأ أوّل اعتصام في جامعة أنقرة، وتحديداً في كليّة اللغة والتاريخ والجغرافيا، بتاريخ 10 حزيران (يونيو) 1968، وانتشر بعدها بيوم إلى كليّة القانون والعلوم، ثمّ إلى كليّة القانون في جامعة اسطنبول في اليوم التالي. بعبارة أخرى، استقطبت حركة 1968 في تركيا، أعضاءها من الجامعات، ولكنّ قراءة معمّقة تظهر أنّه لم تحظ سوى أقليّة صغيرة من الشباب بـ «امتياز» الدراسة في الجامعة. في سنة 1968 الجامعيّة، على سبيل المثال، كان 6.5 في المئة فقط من الشباب المنتمين إلى نفس الشريحة العمريّة طلبة جامعات، ومثّلت الإناث 19 في المئة فقط من تلك الفئة. إضافة إلى ذلك، تحدّر أغلب الطلبة من عائلات الطبقة الوسطى المنتمية إلى البيروقراطيّة المدنيّة أو العسكريّة. باختصار، كان الطالب الجامعيّ التركي النموذجيّ في تلك الفترة ذكراً متحدراً من عائلة بيروقراطيّة مدنيّة أو عسكريّة، ما يعني أنّ أغلب الجهد البحثيّ حول جيل 1968 يُركّز على نشاط الذكور. ولكن، من المهمّ التأكيد أنّه تتوافر أبحاث حديثة متزايدة حول الحركة في تركيا تركّز اهتمامها على «نساء 1968»، وأنّ نساء ذلك الجيل بدأن مشاركة شهاداتهنّ حول تلك الفترة، وهنّ يبتدعن بذلك ذاكرتهنّ الاجتماعيّة الخاصّة.
جاء ردّ فعل المؤسسة الحاكمة على جيل 1968 في شكل تدخّل عسكري، أدى إلى انقلاب 12 آذار (مارس) 1971. وبين يدي النظام العسكريّ، قتل جميع قادة الحركة الثوريّة تقريباً، سواء خلال عمليّات عسكريّة أو عبر إعدامهم أو تعذيبهم، وقاد ذلك إلى ولادة خطاب شهداء الثورة، ما خلق بدوره هالة قدسيّة حول شخصيّات سياسيّة مثل دنيز جزميش، حسين إينان، يوسف أصلان، ماهر جايان، وإبراهيم كايباكايا. جدير بالذكر أنّ دنيز جزميش وحسين إنان تدربا بين عامي 1969 ـــ 1970 في مواقع «الجبهة الشعبيّة الديمقراطيّة لتحرير فلسطين» في الأردن، قبل عودتهما إلى تركيا وإطلاق العمل المسلّح هناك.
تحدّر أغلب الطلبة من عائلات الطبقة الوسطى المنتمية إلى البيروقراطيّة المدنيّة أو العسكرية


وبانتهاء نظام 12 آذار (مارس) العسكريّ وإعلان العفو في 1974، أطلق سراح جميع أبناء جيل 1968 الأحياء. وفي ضوء موت القادة على يد النظام، جاء وقت تلامذتهم، ما أدى إلى تشظّي أعضاء الحركة الذين واصلوا النضال بشكل أقوى من ذي قبل، وانضم إليهم لاحقاً أبناء جيل 1978. في أطروحته «الحركة الطلابيّة في تركيا من منظور عالميّ: 1960 – 1971»، يقول أمين ألبير: «استمرت الحركات الاجتماعيّة في التصاعد، في موازاة خصومها الرجعيّين. وحددت الصدامات بين الحركات الثوريّة اليساريّة وخصومها الرجعيّين الفاشيّين مصير البلاد السياسيّ». كانت نتيجة ذلك انقلاب 12 أيلول (سبتمبر) 1980، الذي قاد تركيا إلى نظام عسكريّ تسلطيّ.
رغم وجود سير ومذكرات وحوارات مهمّة كُتبت بشكل لاحقٍ حول أبناء جيل 1968، تبقى الوثائق الأصليّة التي تعود إلى تلك الفترة غير مدروسة كما ينبغي. وفي ظلّ غياب بحث معمّق، يوجد الآن تحليلان متباعدان؛ يعمل الأوّل على تقديس جيل 1968 (أمر سيشتدّ بالتأكيد مع حلول الذكرى الخمسين)، بينما يُوجّه الثاني نقداً قاسيّاً لنفس الجيل ويلوم أبناءه على الفوضى والعنف السياسي في تلك الحقبة. وقد لوحظت الظاهرة نفسها خلال مظاهرات جيزي في تركيا عام 2013، حيث جرى استحضار جيل 1968 عبر صورة ضخمة لدنيز جزميش (أعدم في 6 أيار 1972 في سنّ الخامسة والعشرين)، عُلّقت على جدران مركز أتاتورك الثقافيّ في ساحة تقسيم في إسطنبول. بالنسبة للمتظاهرين، تشير مثل تلك الوجوه إلى أنّ احتجاجات منتزه جيزي تمثّل استمراراً لتاريخ المقاومة في البلاد. لكن بالنسبة لممثّلي الوضع القائم (على غرار رئيس الوزراء في تلك الفترة، رجب طيّب أردوغان)، يمثّل حضور تلك الوجوه في الاحتجاجات علامة على خطرها، وبالتالي قيادتها البلاد إلى الفوضى.

* أستاذة علم الاجتماع في «جامعة يدي تبه» التركية ــ مترجم عن موقع «فيرسو»