عبر السنوات، رسخ أيّار (مايو) 68 في الأذهان كثورة طلابية انطلقت من «الحي اللاتيني» الباريسي وأشعّت على باقي فرنسا وبعض البلدان الأخرى في العالمين «الأول» و«الثالث». كل عشر سنوات، يُحتفى بهذا الحدث التاريخي الذي لا اسم له غير تاريخ ولادته، ويتم التركيز على وجوه معينة: القيادات الطلابية والشبابية مثل دانيال كوهن ــ بنديت، وجاك سوفاجو وألان كريفين والمثقفين والأكاديميين مثل جان بول سارتر، وآلان جريسمير، وجان لوك غودار وغيرهم من المثقفين والمبدعين. أغلب الوثائقيات والتظاهرات تُعلي شأن البعد الطلابي الشبابي التحرري ويتم تصوير «أيار/مايو 68» كرافعة لثورة ثقافية مستمرة تعيشها فرنسا منذ ذلك الوقت إلى اليوم (وهذا في جزء منه صحيح)، في مقابل إهمال، عن عمد أو عن جهل، أبعاد ووجوه أخرى أسهمت بشكل كبير في مسار الأحداث: الشغالين (العمال) والفلاحين. كما أنّ باريس تخطف كل الضوء من بقية الأماكن التي ازهرت هي أيضاً أواخر ربيع 1968…
«أيّار» الأقاليم
«أيار/ مايو 68» لم يكن حدثاً باريسياً حصراً، بل إنّ الزخم خارج العاصمة كان أكبر بكثير. العواصم هي دائماً «خطافة» أمجاد وحاجبة للشمس عن الأقاليم. متاريس الحي اللاتيني الجميلة و«الفوتوجينيك» تصدرت المشهد وأخفت بظلها متاريس عمالية وفلاحية ومواطنية أخرى تكوّنت بعيداً عن المركز سواء في المدن الصغيرة أو حتى في الأرياف. حتى الحراك الطلابي لم يبدأ من وسط باريس (السوربون والحي اللاتيني)، إنّما من الضواحي وتحديداً في «جامعة ننتير» (حركة 22 آذار/مارس) التي بنيت على مشارف حي قصديري يتكدس فيه آلاف المهاجرين المغاربة. طلبة مدينة تولوز سبقوا هم أيضاً طلبة السوربون وأسسوا «حركة 25 نيسان/ أبريل». الشيء نفسه بالنسبة إلى تحركات الشغالين، فاحتلال المصانع من طرف العمال بدأ يوم 14 أيار (مايو) في مدينة بوغيني على بعد 400 كيلومتر من العاصمة.
تجارب الإدارة الذاتية سواء في المصانع أو خارجها حصل أغلبها بعيداً عن العاصمة الفرنسية: نانت، لوهافر، الخ. أشرس الإضرابات والمواجهات مع قوات الأمن حصلت بعيداً عن باريس، وحتى المرات القليلة التي استُعمل فيها الرصاص الحي لقتل العمال، كانت في مناطق أخرى: مونتبيليه وكالفادوس.

«أيّار» العمّال
شهدت فترة أيّار (مايو) ـــ حزيران (يونيو) 68 واحداً من أطول وأكبر الإضرابات العمّالية في التاريخ (من حيث عدد المضربين وتوزعهم الجغرافي). منذ صعود «الجبهة الشعبية» اليسارية إلى الحكم سنة 1936 وإقرارها إجراءات عدة لصالح الطبقات الشعبية، لم يحقق العمّال مكاسب كبيرة أخرى، بل تدهورت أحوالهم بعد الحرب: انخفاض الأجور وارتفاع عدد ساعات العمل، ضعف أنظمة التقاعد والحماية الاجتماعية، بطالة دورية مفروضة من أصحاب العمل، طرد تعسفي للعمال... السنوات التي سبقت «أيّار/ مايو 68» لم تكن هادئة كلياً، بل شهدت إضرابات وتحركات عمالية عدة، خصوصاً في المناطق التي لا تتمتع بقوة نقابية مؤثرة. منذ بداية 1967، أصبحت هذه النضالات أكثر راديكالية مثل ما حصل في مصنع «رودياسيتا» في مدينة بيزانسون الذي احتله العمال طيلة أكثر من شهر (شباط/ فبراير ــ آذار/ مارس 1967) أو إضراب العمال في ورشات صناعة السفن في «سان ـــ نازير» الذي دام 63 يوماً. كان من الطبيعي أن ينبهر الكثير من العمال وصغار الموظفين، خصوصاً الشباب، بحيوية وشراسة الطلبة المنتفضين في الجامعات والشوارع الفرنسية في بداية «أيّار/ مايو 1968» وأن يقارنوها باستكانة النقابات أمام سيطرة اليمين الديغولي والرأسمالية الفرنسية.
طالبان في السوربون عام 1968

بدأت التحركات العمالية في أيّار (مايو) 68 بالإضراب العام يوم 13 أيّار قبل أن تبدأ حركة احتلال المصانع يوم 14 منه (مصنع «سود ـــ أفياسيون» بالقرب من مدينة نانت) لتنتشر ككرة الثلج في كامل فرنسا وتشمل عشرات المدن ومئات المؤسسات الاقتصادية. لم يقتصر الإضراب على المصانع الكبرى أو القطاع الخاص فقط، إنّما شمل أيضاً المؤسسات الصغرى والمتوسطة ومؤسسات القطاع العام، بما فيها وسائل الإعلام التابعة لديوان الإرسال الإذاعي والتلفزي الفرنسي.
تطور عدد المضربين عن العمل من 200 ألف شخص يوم 17 أيّار ليصل إلى قرابة 10 ملايين عامل يوم 26 منه. لم يكن على المضربين مواجهة قوات البوليس وميليشيات رؤوس الأموال والشيطنة الإعلامية فحسب، إنّما كان عليهم أيضاً أن يصمدوا أمام ضغوط و«خيانات» النقابات والحزب الشيوعي الفرنسي وكل الرفاق الذين لم يستسيغوا هذا الفلتان العمالي الذي يكفر بالأطر التقليدية وتوجيهات الزعماء. حاول الحزب الشيوعي والنقابيون المقربون منه كبح لجام انتفاضة العمّال واسترداد دورهم كرعاة للطبقات الشعبية ومفاوضين باسمها مع السلطة السياسية وأرباب العمل. مثلت «مفاوضات غرونيل (25 ــ 27 أيّار1968) التي جمعت ممثلين عن النقابات وأرباب العمل والدولة أولى الضربات لتحركات العمّال عبر إقرارها رفع الأجر الأدنى المضمون وتدعيم العمل النقابي وعدة «مكتسبات» أخرى. صحيح أنّ أغلب العمّال واصلوا إضراباتهم، لكن الخلافات بدأت تدب في أوساطهم: بعضهم يعتبر الاتفاق مرضياً في حين يراه آخرون دون المأمول وأن ميزان القوى في صالح المضربين ويمكنهم نيل المزيد. طوال فترة الإضراب والصعوبات المادية عدم الحصول على أجر، بالإضافة الى بداية ردة الفعل الديغولية من مظاهرات مساندة للنظام والحصول على دعم الجيش وعوامل أخرى أضعفت تدريجاً حماسة ووحدة المضربين... بدأ العمّال يعودون إلى مراكز عملهم منذ منتصف حزيران (يونيو) 1968 في وضع ما بين الانتصار والانكسار.

«أيّار» الفلاحين
كثيراً ما يتجاهل المؤرخون والمحللون والسياسيون دور الفلاحين في أحداث «أيّار/ مايو 68» لأسباب عدة، منها ما يتعلق بطغيان صورة «مايو 68 الطلابي» ومنها ما يتعلق بموقف تقليدي من هذه الطبقة «المحافظة» و«الرجعية» التي يرى كثيرون أنّها لا تتفاعل إلا قليلاً مع الأحداث الكبرى وتفضل رعاية محاصيلها وقطعانها بدل أن تشارك في صنع التاريخ. صحيح أنّ الفلاحين لم يكونوا في الصفوف الأولى للثائرين ولم ينتفضوا عن بكرة أبيهم، لكنّهم تحركوا بقوة تضامناً مع الطلاب والعمّال المضربين من جهة، ودفاعاً عن مصالحهم ومطالبهم من جهة أخرى. شهدت مدن فرنسية عدة تحركات ومظاهرات فلاحين تُعدُّ بالعشرات، وشارك فيها مئات الآلاف خصوصاً خلال الفترة الممتدة من 22 إلى 26 أيّار أي في أوج الأحداث. تركزت هذه التحركات أساساً في منطقة الغرب (جهات البريتاني والبايي دو لا لوار) والجنوب (جهة لونكدوك روسيون) والوسط الشرقي (جهة الرون ألب) حيث يوجد ثقل كبير للمزارعين ومربي الماشية. لم يكتفِ الفلاحون بتنظيم مظاهرات قطاعية، بل انضموا في بعض الأحيان إلى الاعتصامات الطلابية والعمّالية في الجامعات والمصانع أو في أماكن أخرى مثل ما حدث في مدينة نانت حيث التحق آلاف الفلاحين بالعمّال والطلاب الذين سيطروا على وسط المدينة ومقرّ البلدية، وبدأوا في إدارة ما يشبه «الكومونة». هناك الكثير من الصور والفيديوهات تُظهر جرارات الفلاحين في قلب «الساحة الملكية» التي غيّر المعتصمون اسمها ليصبح «ساحة الشعب».
في الحقيقة، تحركات ونضالات الفلاحين (نتحدث هنا عن عمال الفلاحة وصغار الملاكين)، بدأت قبل أيّار 68 بسنوات. فالفلاحة (الزارعة وتربية المواشي) التي كانت إلى حدود الخمسينيات تُشغّل ثلث الفرنسيين تقريباً، تراجع ثقلها بحكم تطور الصناعة وقطاع الخدمات ونزوح الكثير من أبناء الأرياف إلى المدن الكبرى والمتوسطة. كما أنّ نمط الإنتاج الفلاحي شهد تغيرات جذرية، منها تراجع الفلاحة العائلية لصالح المستغلات الشاسعة التابعة لكبار الملاكين وشركات صناعة المواد الغذائية. هذه التغيرات خلقت طبقة عمّالية ـــ فلاحية تعمل في المزارع والمستغلات الكبيرة وسط ظروف صعبة وبأجور متدنية. كما أنّها صعّبت الأمور على صغار الملاك الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على الإنفاق أكثر والرضى بمداخيل أقلّ لمواجهة المنافسة.
الأحزاب اليسارية الكبرى كانت تعرف أنّ الفلاحين «الرجعيين» أكثر ثورية من أغلب قياداتها


تنظيم الفلاحين في نقابات ومنظمات، بدأ منذ الأربعينيات بتأثيرات، هي أساساً يمينية ومسيحية كاثوليكية، وبدرجة أقل يسارية اشتراكية. لكنهم بقوا منغلقين عن بقية الشرائح من عمال وطلبة وصغار التجار، وظلّت أساليب تحركهم ونضالاتهم تقليدية من دون نظرة نقدية لواقع الفلاحة والاقتصاد عموماً.
أيّار 68 فتح أعين الفلاحين وفكّ عزلتهم عن بقية الطبقات والشرائح وجعل كثيرين يعون البعد السياسي لعملية الإنتاج، وتكوّنت لديهم نظرة نقدية لسياسات الدولة واقتصاد السوق. انتشار الأفكار الماوية في الأوساط اليسارية الفرنسية جعل مناضلين يهتمون أكثر بعالم المزارعين ومسائلهم ويسعون لتثوير هذه الطبقة. هذا التماس مع العمال والطلبة والمثقفين والأفكار الثورية، لن يقلب واقع الفلاحة والفلاحين، لكن سيُسهم في ظهور قيادات فلاحية ثورية وتنظيمات راديكالية ستنجح تدريجاً خلال السنوات والعقود التي تلت أيّار 68 في فرض أفكار وتقنيات مثل الفلاحة البيولوجية والزراعة المستدامة والاقتصاد التضامني، الخ.

سنوات «أيّار/ مايو 68»
أيّار/مايو ــ حزيران/يونيو 68 كان إذاً تعبيراً جماعياً عن «قلق في الحضارة» وغليان كانت فرنسا تعيشهما منذ بداية الستينيات: رأسمالية شرهة ومتنفذة متحالفة مع نظام سياسي أبوي ومحافظ. من الغباء الاعتقاد بأنّ تحركات طلابية في جامعة ننتير (آذار/ مارس 1968) من أجل تحسين ظروف الدراسة والسماح للطلبة الذكور بدخول غرف الطالبات، كانت هي «المحرّك التاريخي» لانتفاضة استمرت أسابيع وشارك فيها ملايين الفرنسيين ممن لم يطأوا يوماً حرماً جامعياً. من قصر النظر أيضاً تصور أنّ تلك الأسابيع المجنونة كانت مجرد «فسحة» لا جذور ولا فروع ولا ثمار لها. ليس هناك «أيّار/ مايو 68»، وإنّما «سنوات مايو 68» كما يسميها بعض المؤرخين وهي تمتد منذ تركز هيمنة اليمين الديغولي في بداية الستينيات إلى بداية الثمانينيات مع وصول «الاشتراكي» فرانسوا ميتيران إلى الحكم. عمل كل من اليمين الفرنسي والحزب الشيوعي وحتى الكثير من المثقفين الباريسيين على التقليل من شأن «أيّار/ مايو 68» وتصويره كمجرد هبّة شبابية ــ طلابية تحررية وصراع أجيال، ولكل أسبابه. اليمين أرعبته تحركات العمّال الشرسة والمبدعة ويود أن يمسحها تماماً من الذاكرة الشعبية. أما الأحزاب اليسارية الكبرى، فهي تعرف جيداً أنها خذلت «أيّار/ مايو 68» وأن العمّال البسطاء والفلاحين «الرجعيين» كانوا أكثر ثورية من أغلب قياداتها الذين ارتعشت أياديهم أمام انتفاضة لم ترد أوصافها في «الكتب المقدسة».
ربما لم تكن ثورة مظفرة، لكن فرنسا ما قبل «أيّار/ مايو 68» ليست كما بعده. روح «شهر مايو الجميل» ظلت حية لعقود وما زالت إلى اليوم زهرة في خيال الفرنسيين الحالمين بفرنسا أكثر عدالة وشبحاً مخيفاً للرأسمالية الفرنسية.