ما الفرق بين طريقة «كاتيناشيو» الإيطالية وأسلوب اللعب الجماعي الألماني، أو بين الإنباط التكتيكي والمهارات الفردية في كرة القدم؟ ما هو مفهوم «الكرة الشاملة» التي اخترعها الهولندي رينوس ميشيلز مدرب «أياكس» في أواسط الستينيات، وكان يوهان كرويف إحدى أيقوناتها، بعدما حملها الاثنان معهما من أياكس إلى برشلونة، ثم اجتاحت أوروبا من شرقها إلى غربها؟ وهل ارتبطت كرة القدم الهولندية بالثقافة السريالية واللاسلطوية التي جعلت أمستردام في ذلك الوقت عاصمة للحرية في العالم، وبطبيعة البلاد المنخفضة التي تجتاحها المياه كل عام؟ أسئلة كثيرة يجيب عنها الصحافي والكاتب البريطاني جونثان ويلسون في مؤلفه المرجعي «الهرم المقلوب: تاريخ تكتيكات كرة القدم» (ترجمة بديعة من المترجم المصري أحمد لطفي علي ـــ هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، «مشروع كلمة» ــ ٢٠١٣). ملحق «كلمات» يقدم مختارات من كتاب ويلسون تضيء على التكتيك الهولندي في مقاربة سوسيولوجية وثقافية وسياسية ورياضية، مع العلم بأن هولندا التي اخترعت واحدة من أفضل الخطط الكروية في التاريخ تغيب عن مونديال روسيا (14 يونيو) الذي ستنقصه «النكهة البرتقالية».
(بوليغان ـ المكسيك)

أحياناً يكون العالم مهّيأً للابتكار، فكما توصل نيوتن ولايبنتس الى نظرية التفاضل والتكامل كل على حدة، في الوقت نفسه تقريباً، توصل رينوس ميشيلز وفاليري لوبانوفسكي على جانبين متقابلين من أوروبا إلى الفكرة ذاتها حول الطريقة التي ينبغي أن تلعب بها كرة القدم. كانت اللعبة من وجهة نظرهم تتلخص في المساحات وكيفية السيطرة عليها وتوسيعها عند استحواذ الفريق على الكرة حتى يمكن الاستحواذ بها فترة أطول. وكيف يضيّق الفريق المساحات حين يفقد الكرة حتى يجعل احتفاظ المنافس بها مهمة صعبة. شجع المدربان اللاعبين على تبادل المراكز، وكلاهما اعتمد على قدرة اللاعبين في تغطية بعضهم. وكلاهما أبدع جوانب جعلت كرة القدم لعبة مبهجة، وكان ذلك هو التطور المنطقي للأسلوب الروسي في الأربعينيات أو المجري في الخمسينيات (...)، إذ كثيراً ما تقارن الكرة الهولندية بالمجرية، لكن الذي أتاح لأياكس ودينامو فعل ذلك هو تطبيق قوي لمصيدة التسلل، وكان الضغط على الخصم عاملاً أساسياً، لكن لم يعتمد عليه سوى في منتصف الستينيات أو آخرها. وبالنسبة إلى لاعبين هواة، كان الضغط مستحيلاً، وتطلّبَ مجهوداً بدنياً كبيراً وحركة مستمرة تقريباً ومستويات شديدة الارتفاع من اللياقة. بحلول الوقت الذي ظهر فيه ميشيلز ولوبانوفسكي، كان العجز الناجم عن سنوات الحرب قد انتهى، والتغذية الرياضية (المشروعة وغير المشروعة) قد تطورت بما يكفي لجعل اللاعبين قادرين على الجري تسعين دقيقة، وكانت هذه مرحلة من تطور كرة القدم نابعة من تحسن القدرات البدنية بالقدر نفسه الذي تأثرت فيه بتطور النظرية.
ويصعب الآن تخيل كيف كانت أمستردام في سنوات ما بعد الحرب، في ضوء سمعتها الحديثة كمدينة ليبرالية وجامحة، ولا يمكن إنكار حدوث تحول في الطبيعة البوهيمية للمدينة إلى الطابع التجاري، لكن المدينة ما زالت قادرة على احتضان الأفكار الثورية، ولم تكن كذلك في الخمسينيات. ففي رواية «السقوط» التي نشرت عام ١٩٥٥، وصف ألبير كامو مدى ملله من أمستردام حين قال: «على مدى قرون كان مدخنو البايب يشاهدون الأمطار فيها تتساقط على نفس القناة». (...) لكن التغيير الجذري كان قد اقترب. وكانت أمستردام في الستينيات كما يقول البريطاني تشارلز رادكليف «عاصمة تمرد الشباب». تأسيس دولة الرفاه بعد الحرب والرخاء المتنامي في أوروبا قد أديا ـــ كما في مناطق أخرى ـــ إلى اختفاء معالم الفئات التقليدية من المجتمع. أصبح الفن والثقافة ذوا طابع طليعي بشكل متزايد. وفي كانون الأول (ديسمبر) ١٩٦٢، شهدت أمستردام أول حدث مهم، هو الحفل الذي ألقى فيه الشاعر سايمون فينكينوج قصيدة «افتح المقبرة»، وأكد أن «الانتصار على الطرق القديمة يبدأ في أمستردام، المركز السحري». في منتصف العقد، كان المناخ العام في أمستردام يشع بالسريالية واللاسلطوية وسط تظاهرات منتظمة من حركة «البروفو» الذين يرتدون الملابس البيضاء ضد الاستهلاكية. كان أبرز الأمور هو رد فعل الحركة عام ١٩٦٦ على زواج الأميرة بياتركس بكلاوس فون أرنسبرج الأرستقراطي الألماني الذي خدم في الجيش الألماني. أعلنت الحركة أنها ستحاول إفساد مراسم الزفاف وروجت شائعات عن عدد من الطرق المبتكرة التي ستتبعها للقيام بذلك. وقيل إنّه سيتم وضع عقاقير الهلوسة في إمدادات المياه، وسيتم نشر فضلات الأسُود في الشوارع لتخويف الجياد التي تجر عربات موكب الزفاف، وسيتم ضخ غاز الضحك في الكنيسة. لم تسفر الاحتجاجات في النهاية عن أكثر من مجرد إطلاق قنابل دخان في شار راديوستراد. لكن ذلك كان كافياً (...) أدى تحقيق في أعمال الشغب، إلى عزل رئيس البلدية وقائد الشرطة. قررت السلطات أن أفضل طريقة للتعامل مع الشبان المتمردين هي التسامح. في غضون عامين، أصبح ميدان «دا» مخيماً للهيبيز الأجانب واشتهرت شرطة أمستردام بأنها الأكثر تساهلاً في أوروبا. ولم يكن صدفة اختيار جون لينون ويوكو أونو فندق «هيلتون أمستردام» عام ١٩٦٦ للاحتفال بزواجهما باعتصام في السرير لمدة أسبوع.
■ ■ ■

لم يظهر مصطلح «الكرة الشاملة» إلا كاستجابة لأداء المنتخب الهولندي في كأس العالم ١٩٧٤، لكن كلمة «الشاملة» استعملت في كثير من المجالات الأخرى. وتحدث مهندس معماري هو جيه بي باكيما الذي كان يكتب لمجلة «فور» الشهيرة عن «التمدن الشامل»، و«البيئة الشاملة» و«الطاقة الشاملة». وقال باكيما في محاضرة ألقاها سنة ١٩٧٤: «لفهم الأشياء، عليك فهم العلاقة بينها. في وقت ما، كانت أعلى صورة للعلاقات البينية في المجتمع تعبر عنها كلمة «الرب»، وأتيح للإنسان استخدام الأرض والمساحة العالمية بشرط أن يعتني بما يستخدمه. وعلينا أن نجعل هذا النوع من الرعاية والاهتمام حقيقة، بعدما اقترب الإنسان بوعيه من ظاهرة العلاقات المتداخلة التي تسمى علاقات الذرات وأصبح الإنسان واعياً بأنه جزء من نظام طاقة شامل». وكما في الهندسة المعمارية ـــ وفي مجموعة كبيرة من المجالات الأخرى حينئذ مثل النظرية الأدبية والسيميوطيقية لرولان بارت والنظرية الأنثروبولوجية لكلود ليفي شتراوس ونظرية التحليل النفسي لجاك لاكان ـــ كان الوضع في كرة القدم. في داخل نموذج أياكس، كان اللاعب يكتسب معنى ومغزى من علاقاته بسائر اللاعبين. من الصعب ألا ترى رابطاً بين كرة القدم الهولندية والروح الفكرية في هذه الفترة، وربما كانت صدفة محيرة أن يصعد نجم أعظم مثالين للنظام كقوة هجومية، وهما أياكس ودينامو كييف في هولندا والاتحاد السوفياتي، اللذين يمكن القول إنهما أكثر مجتمعين علمانية في العالم في ذلك الوقت.

فتى هولندا الأغر
في أثناء ذلك، يأتي كرويف، الذي اتضح أنه قائد الفريق (أياكس أمستردام)، أصبح كرويف الشاب المتمرد رمزاً لحركة الشباب الهولندي المزدهرة في ذلك الوقت. وكما وصفه كارل جابلر المدرب السابق لفريق الناشئين في نادي «أياكس»: كان كرويف في هولندا يوازي جون لينون في بريطانيا. وفي ١٩٩٧، كتب الصحافي هوبرت سميتس في مجلة «هارد جرا» في مناسبة عيد ميلاد كرويف الخمسين: «كان كرويف أول لاعب يفهم أنه فنان وأول من استطاع تنظيم فنون الرياضة كفن جماعي». ولم يكن كرويف عضواً في جماعة البروفو. كان تحفظه بشأن أمور مثل القيم الأسرية يتعارض تماماً مع معتقدات البروفو، إلا أنه قاسمهم موقفاً غريباً ولا سلطوياً في استفزاز المؤسسة الرسمية. ومن أشهر قصصه أنه رفض ارتداء قميص أديداس ذا الأشرطة الثلاثة على أكمامه أثناء كأس العالم ١٩٧٤ احتراماً لعقده مع بوما، ويمضي سميتس قائلاً: «الهولنديون يكونون في أفضل أحوالهم عندما يمكنهم الجمع بين النظام والإبداع الفردي، ويوهان كرويف أبرز رموز هذه الفكرة. لقد صنع دولته بعد الحرب، أعتقد أنه كان الشخص الوحيد الذي فهم فترة الستينيات».