لا أحد يستطيع أن ينكر اليوم، أن كرة القدم أصبحت ملكة الألعاب الرياضية. يمكننا أن نضيف أيضاً، أنها أكبر استعراض شعبي يتشكل من الفن و«البيزنس» اللذين يتدخلان فيها وفي شؤونها. إنها مرآة العالم المعاصر، والعنصر الموحد للأمم المتنافرة والممزقة داخلياً، كما أنها العنصر المقسم لأمم متحدة أو لأمم تحكمها علاقات الجيرة. بيد أنه برغم كل تناقضاتها، تبقى هذه اللعبة القمة التي يتسلقها لاعبو البلدان المريضة بالأزمات الاقتصادية، والتي يلفها الفقر، من أجل تغيير أوضاعهم المعيشية. ثمة تسميات أخرى تعرفها اللعبة حديثاً: إنّها أفيون الشعوب لأنها الدين الجديد الذي يكتسح العالم بأسره.نعم. كرة القدم هي ذلك كله وأكثر، إنها السحر الذي يشدّ الملايين، السرّ الكبير واللغز بحد ذاته. وإلا كيف نستطيع إذاً أن نفسّر، على سبيل المثال، إقبال هذا العدد الكبير من المتفرجين والمشاهدين الذين يقدر عددهم بالمليارات ممن سيتابعون «مونديال روسيا» (2018).
ما من رياضة أخرى، تستطيع جمع هذا العدد من الشغوفين. حتى الألعاب الأولمبية، بجميع ألعابها، لا تستطيع أن تحشد، سوى نصف هذا العدد، وبأفضل الأحوال. أي إن كرة القدم، هي العيد المطلق، الأوحد الذي لا يضاهيه أي عيد آخر.
إزاء ذلك كله، ماذا نستطيع أن نستنتج؟ ثمة أمر مؤكد وحيد: لقد أصبحت كرة القدم اللغة العالمية الوحيدة المشتركة بين البشر، كأنها، مع بعض الاستعارات، تلك اللغة التي عرفتها البشرية قبل انفراط برج بابل. إنها أكثر الألعاب الرياضية عالمية، وأكثرها ديموقراطية. بل إنها أيضاً من أسهل الرياضات «تطبيقاً» و«ممارسة». فقواعدها بمجملها بسيطة. من أقصى العالم إلى أقصاه الآخر، ومهما كانت الجنسية واللون والعرق واللهجة، يستطيع البشر بأسرهم فهم لغة الكرة. حتى أنهم يستطيعون ممارستها. فهي لا تتطلب سوى القليل من المعدات. فقط طابة مستديرة، أو حتى أي شيء بديل منها. قد نستطيع أن نلعب بلا كرة حقيقية. مَن منا لا يذكر علبة الصفيح أو الكرة المصنوعة من الأقمشة التي كنا نتقاذفها في أحيائنا الشعبية؟ نحن الصبية الذين كنا نسكن أحياء المدينة الخلفية الشعبية، ولا نملك ثمن الكرة، غالباً ما أقمنا «المباريات» و«البطولات» بعلبة الصفيح، أو بذلك الكيس الذي كنا نحشوه ورقاً، ونلفه بذلك الشريط اللاصق، بعد أن نكون قد كوّرناه. لعبة لا يأتي فيها الملعب أو الحكم إلا في الاعتبار الثاني: فهذه أمور تتعلق بالمسابقات الرسمية، وبمبدأ الربح والخسارة، وليس أبداً بمبدأ المتعة، أي بمبدأ اللعب للعب. من هنا، كنا جميعاً «برناسيين»، حتى قبل أن نكتشف هذا التعبير بزمن طويل.
لعبة لا تفرض شروطها علينا. من هنا ديموقراطيتها وشعبيتها. حتى أنها ليست بحاجة لتطلب منا أن نكون من ذوي العضلات أو من العمالقة و«السوبرمانات» كي نلعبها. هذه الأمور من متطلبات ألعاب أخرى وإن كانت تمتّ بصلة الى الكرة: كالركبي وكرة السلة والكرة الطائرة وكرة اليد. هكذا كان أشهر لاعبَيْن في تاريخ هذه اللعبة: البرازيلي بيليه والأرجنتيني مارادونا، لم يكونا من العمالقة. فطولهما لا يتجاوز 170 سم.
«ليس هناك أي موديل للاعب كرة القدم». هذا ما يكتبه فلاديمير ديمتريفتش في كتابه الرائع «الحياة كرة مستديرة». فميشال بلاتيني مثلاً، كان يلقّب وهو طفل باسم «اسفلت الشارع»، لقصره، ومن ثم بالسمين، لما أصبح مراهقاً. أما أجمل مراوغ عرفته اللعبة، المجنون غارينشا (اللاعب البرازيلي) فكان يملك في الواقع «ساقين يسروين» (بسبب تشوّه في ساقه اليمنى، منذ الولادة، كانت ساق غارينشا هذه، معقوفة، كأنها ساق يسرى ركبت بدلاً من اليمنى). في حين أن ساقيّ غيرد موللر، كانتا قصيرتين جداً. بيد أنّ هؤلاء كلهم عرفوا حياة رياضية مثالية رائعة، بل كانوا في حقبهم المختلفة، أسياد اللعبة المتفردين.
من بين الأسباب التي تثير الدهشة في عالم كرة القدم، أنها أشبه بمجتمع صغير، ذي انعكاسات «مشوهة» قليلاً. فهذه اللعبة تملك أقزامها وعمالقتها، تملك عمالها «المياومين» وأسيادها. إنها كالسينما. فإذا ما كانت الحشود تنهمك في الذهاب الى الملاعب التي أصبحت «كنائس الأزمنة الحديثة»، فلكي ترفه عن نفسها، كي تلقي بمتاعبها، كي تزيل الهمّ والضغط اليوميين.. تذهب الحشود كي تصلي وتتضرع لآلهتها الجديدة. نذهب الى الملاعب كي نصرخ في آذان آلهتنا الجدد، لكي نحيّي معبودينا، ولنشهد حفل «الإعدام» الرائع هذا. فنحن نرغب في أن يقضي فريقنا المفضل على الفريق الخصم، بأكبر عدد من الأهداف. نرغب في أن يحطمه، يذله، يميته حتى لا يبقي فيه أي حياة.
كرة القدم، هي ذلك القداس الكبير على خلفية «الكوريدا». مزيج من الديني والوثني. ثمة قربان نكسره على مذبح الملعب، على المدرجات والعشب الأخضر. فالرابط بين اللاعبين – على قول ديمتريفتش – ليس العقل وإنما القلب. فطوال العصر الوسيط، كان القلب أهمّ من الرأس. فجاءت المجتمعات الحديثة لتبعده الى الدرجة الثانية. وبما أن الإنسان لا يستطيع اليوم العيش في مجتمع بطولي، يذهب الى المباراة كي يجد مجدداً «البعد الملحمي».
من هنا، تبدو الفرق الكبيرة، أشبه بالنصوص الكبيرة. ثمة غموض يأسرنا أو بحسب ما يطرحه ديمتريفتش: «لماذا نحن مأخوذون، متأثرون بما نشاهده؟ بمعنى آخر، من أين يأتينا هذا المزيج من المشاعر المتناقضة، هذا الفرح، هذا الهيجان، هذا الغضب، هذه الدموع؟».
تشبه المباراة الجيدة، إلى حدّ كبير، المأساة الإغريقية، حيث نجد وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الحدث. كذلك، نجد تلك القواعد الإجبارية: فجميع الألعاب الجماعية تستعمل اليد، ما عدا كرة القدم التي تعتمد، بالدرجة الأولى على أقدام اللاعبين، وعلى الساق «التي ليست بالعضو الموجه والدقيق». ثمة 22 ممثلاً (لاعباً) يرتدون ملابسهم الخاصة، وأحذيتهم الخاصة يركضون ويقفزون، يهبون أنفسهم، يعرقل بعضهم بعضاً، يتنفسون بصعوبة، يفرزون عرقاً غزيراً، يتألمون، ينزفون أحياناً كي يكونوا الأفضل، كي يكسبوا بعض النقاط في الترتيب العام، أو كي يفوزوا بالكأس أو البطولة. بيد أنّ في ذلك كله، بعض السخرية، وقد تكون أمراً أساسياً. فالحركة الجميلة والموهبة التقنية واللمسة العبقرية، ليس لها أي معنى عند الخسارة. فقط الانتصار هو الجميل، هو ما يتبقى من ذلك كله.
في هذا الصدد، تبقى لغة كرة القدم، لغة فصيحة. فإزاء الصرخات الحمقاء للحشود المهتاجة، الهاذية، الواقفة بين البغض والشراسة، مثل «اقتله.. فركشه» تأتي تعابير المعلق الرياضي التلفزيوني لتتجاوب معها. فحين يسدّد لاعب الهجوم الكرة، تصبح تسديدته «صاروخاً أو قذيفة مدفع»، هذا حين لا تكون ركلته قذيفة صاروخ سكود، أو عابراً للقارات. أما الحارس السيّئ الحظ، فيصبح عندها، شخصاً تعرض للقصف؟ شخصاً أُطلق عليه النار، وربما كان شخصاً مصلوباً داخل قفصه. قد نجد هنا أسوأ جوانب هذه اللعبة، جانبها الأزعر. فالسؤال الذي يطرح نفسه «لماذا لا يكون هناك أيضاً في كرة القدم، الغشاشون والمتصنعون ومحطمو أخلاقيتها؟ بيد أن عالم الكرة، ليس غامضاً. فاللعب النظيف موجود. كذلك الاحترام المتبادل. ثمة مصافحات واعتذارات. ثمة إعجاب متبادل «مستمر منذ أيام آخيل وأجاكس وهكتور» كما يقول ديمتريفتش.
إن ما يصنع الفرق الكبيرة الأسطورية، هو الحس الجماعي والتضامن، هو ذلك التمازج الكامل بين اللاعبين. هذا ما كانت عليه المجر أيام بوشكاش وكوكشيش. هكذا كانت البرازيل أيام بيليه وغارنيشا. هكذا كانت هولندا زمن كرويف وريب وفرنسا زمن بلاتيني وتيغانا. فالمنتخب الوطني ليس سوى بارومتر. يكون جيداً حين يسير البلد بشكل جيد، وسيئاً حين يسير كل شيء بشكل سيئ. في 1938، وقبل أسابيع من مؤتمر ميونيخ، هُزم المنتخب الفرنسي أمام الفريق الايطالي «الفاشي». وفي 1954 خسرت المجر المباراة النهائية أمام ألمانيا، ولم تمض سنتان حتى اجتاحت الدبابات السوفياتية شوارع بودابست. أما من الجهة المقابلة، فنجد ألمانيا التي كانت تشهد عملية تجديد وإصلاح شاملين، كأنها تنتقم لما فعله بها الحلفاء خلال الحرب. لقد فازت ألمانيا ببطولة العالم.
لم تستطع كرة القدم أن تسلم من يد الدكتاتوريين. موسوليني، مسلِّم الكأس بيده، شخصياً الى المنتخب الايطالي الذي فاز ببطولة 1934. والأمر نفسه حدث عام 1978 حين سلّم الجنرال العسكري الأرجنتيني، ورئيس الطغمة الحاكمة، الكأس الى قائد الفريق الأرجنتيني. ومع ذلك، فكرة القدم، لا تتوقف عن الدفاع عن القضايا العادلة. كأن تكون عزاءً مثلاً في مواجهة الكوارث الطبيعية. كذلك لا تتوقف هذه اللعبة عن إيجاد تلك الحمى الكثيفة والمناخ الملتهب أكان ذلك في مانشستر أو ليفربول أو حتى في مدينة لنس. اسألوا المشجعين، لربما قالوا «ليس لدينا أي شيء آخر في الحياة». إذ إننا، ندعم عادة، فريقاً ومدينة ومنطقة ضد فريق ومدينة ومنطقة أخرى، أي ضد العدو المتوارث. إنه أيضاً «الشمال ضد الجنوب»، باريس ضد مارسيليا، ميلانو ضد نابولي. فالتاريخ يلقي بثقله على اللعبة ولا يستطيع أن يكون حيادياً. فلقاءات ريال مدريد وبرشلونة ليست سوى مبارزة حقيقية بين الفرانكويين والكاتالانيين. أضف الى ذلك أن الكرة تشعرنا بالفخر والانتماء الى «وطن» ما. إحدى مفاخر فريق اتلتيكو بلباو الاسباني، انه طيلة فترة وجوده في الملاعب، لم يستقدم أي لاعب لا ينتمي إلى منطقة الباسك.
لم يعد لكرة القدم اليوم أي حدود. فبطولة كأس العالم الحالية، تستقبل منتخبات تنتمي الى جميع القارات. 32 فريقاً يتمنى كل لاعب فيها أن يبرز، «ليصدر» نفسه الى دولة أخرى، حيث الشهرة والمال. فما بين العولمة والقوميات المرعبة، لا تتوقف كرة القدم عن البحث عن توازنها وليس التوازن الاقتصادي فقط. فالفيفا (الاتحاد الدولي) الذي يدير الميزانية الضخمة، يبحث باستمرار عن توفير أسواق مساعدة أمام اللعبة. من هنا جاء اختيار الاتحاد الدولي للولايات المتحدة في عام 1994 لتنظيم البطولة، بينما اختار آسيا في عام 2002 (اليابان وكوريا) وقطر عام 2022. من غير المهم أبداً بالمعنى الرياضي البحث عن أن تكون تلك الدول في مصاف الأمم الشهيرة والعريقة كروياً. علينا أن نحيا في زمننا. فأوروبا لم تتوقف عن أن تكون رب العمل، كما أن الأسواق لا تزال في مكانها. المال يسيل بغزارة من حنفيات متعددة الجنسيات ومن الشركات المرئية والمسموعة، بينما اللاعبون أصبحوا أكثر خوفاً من هذه المراهنات وأكثر خوفاً من الخسارة.
إزاء ذلك، من المستحيل معرفة ما سيكون عليه مستقبل هذه اللعبة؟ لغاية اليوم لا تزال تجعل الجميع يحلمون: فمن يتقلد السلطة حالياً كل من ميسي وكريستيانو رونالدو، وربما يصبح المصري محمد صلاح حاكماً جديداً في القريب العاجل. كذلك هناك الماضي، المكلل بهامات الأساطير: أياكس أيام العز مع كرويف، ملحمة سانت اتيان (الفريق الفرنسي) التي تكسرت أحلامها في النهاية، على أقدام أعضاء فريق بايرن ميونيخ الألماني عام 1976. هناك أيضاً، نابولي يوم مجيء مارادونا إليها. لكل أمة ذلك «البانتيون» الخاص بها. لكل أمة ذكرياتها وحكاياتها المفضلة. لكل أمة فانتسماتها واستيهاماتها. «أليس كذلك ولدت أساطير وأحلام فيرجيل»؟