سيد البحراوي... روح تنويرية لا تساوم

  • 0
  • ض
  • ض
سيد البحراوي... روح تنويرية لا تساوم

كان سيد البحراوي واحداً من أبرز النقّاد العرب الذين رسخوا حضوراً استثنائياً في المدوّنة النقدية العربية، سواء في عمله الأكاديمي كمدرّس للنقد الحديث في جامعة القاهرة، أم لجهة مساهمته النقدية في الفضاء الثقافي العام محليّاً وعربياً، تاركاً عشرات العناوين المهمة في الشعر والسرد، مثل «علم اجتماع الأدب»، و«البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث»، و«في البحث عن لؤلؤة المستحيل»، و«محتوى الشكل في الرواية»، و«الإيقاع في شعر السيّاب». يتمثل ثراؤه النقدي في ذلك المزيج الخلّاق في بعديه النظري والتطبيقي، على خلفية سوسيولوجية تضيء تضاريس النصّ موشورياً، كما في كتابه «في البحث عن لؤلؤة المستحيل» (1988) الذي رصد فيه تجربة الشاعر الراحل أمل دنقل في قراءات معمّقة تربط بمهارة بين النبرة الشعرية العالية لصاحب «لا تصالح»، وصعود الحركة الوطنية المصرية ما بعد هزيمة يونيو، لجهة رفضها وفضح رموزها، مؤكداً على مشروع نقدي واضح ينطوي على روح تنويرية لا تساوم، سواء في متن نصوصه، أو في مواقفه الوطنية التي وسمت أصوات معظم مثقفي السبعينيات. فقد أسهم بجديّة في تجارب طليعية ومواقف شجاعة داخل وخارج أسوار الجامعة. لم تتوقّف مساهمة سيد البحراوي في نقد الشعر، بل التفت إلى نقد الرواية بوصفها وعاءً آخر لتحولات مجتمع مضطرب ومختل القيم، قبل أن يقتحم حقل السرد بنفسه، متجاوزاً متطلبات السرد أو حدوده، في مجموعة من النصوص السردية المفتوحة والعابرة للأجناس، مثل «ليل مدريد»، و«طرق متقاطعة»، و«شجرة أمي»، و«بيت الحب»، و«هضاب ووديان». في هذه الأعمال، نتعرّف إلى الجوانب الخفيّة من شخصية الناقد الصارم لمصلحة الكائن البشري في هشاشته وعواطفه ووحدته، وأسئلته الوجودية. مرايا متجاورة تنطوي على روح باسلة ومكاشفات واعترافات صريحة بلا قيود، تتناوبها أسئلة الموت والعيش، واللذة والألم. ارتحالاته بين بلدان مختلفة أضفت على تجاربه بعداً حياتياً ملهماً، سنجد تجلياته في علاقته بطلابه وزملائه وأبناء جيله، فكان رحيله صدمة ثقافية مؤثرة، إذ نعاه عشرات المثقفين بوصفه شخصية نقيّة، لم يصبها التلوّث أو الانهزامية. وكان الناقد الراحل قد واجه السرطان مرتين، قبل أن ينتصر المرض عليه في «الجمعة الحزينة»، لكنه سيترك لنا كتاباً مؤثراً عن هذه المحنة بعنوان «في مديح الألم»: مواجهة مكشوفة مع المرض من دون أقنعة «انشغلت بموضوع الألم، وشغفت به نحو عام قبل أن أبدأ علاج السرطان، ثم توقفت إجبارياً.. بعد انتهاء العلاج المؤلم أعود إليه. أريد أن أمجّده، باعتباره قرين الحياة، لا حياة بلا ألم». كان كمن يراقب كائناً آخر لا يخصّه، في جرعات عالية من الوصف الدقيق لطبقات الألم والعناد في مواجهته، على هيئة يوميات يوثّق خلالها علاقته بالموجودات بما يشبه وداعاً أخيراً، معتبراً أن الألم عكس الراحة: «كنت أحاول أن أعيش بأقل قدر من الألم والتعاسة، وأقل قدر من إزعاج الآخرين، كما كنت إلى حدّ ما سعيداً، وحين فكّرت في احتمال الموت، لم أكن منزعجاً، فليأت إذا أراد، لكني على كل حال، أستطيع أن أعيش ما بقي من العمر». تجربة الألم أتت على مراحل. آلام في الظهر، التهاب في العضلات، انزلاق غضروفي، كل هذه الإشارات لم تقرب اسم مرض السرطان الذي كان يكمن في الرئتين. وعندما اكتشف حقيقة مرضه، كان عليه أن يؤرشف الوقائع المستجدة، بدءاً من علاقته بأوراقه وأقلامه. يقول: «بالنسبة لي، لست منزعجاً، أعرف أنني سأواصل الحياة- إن لم يحدث خطأ فادح في العلاج- لدي أشياء مهمة أظن أنها قد تفيد الآخرين في فهم ما حدث في الخمسين سنة الماضية». ويضيف في رسالة إلى الأصدقاء نشرها على الفايسبوك: «لدي سيرة ذاتية شبه مكتملة، ورواية بعنوان «الساحرات»، وجزء ثانٍ من رواية «ليل مدريد»، ومراجعة كتاب «الرحلات». هل هناك ما يطمئنكم أكثر من ذلك؟». على أن المرض سيباغته ثانيةً، وهذه المرّة باسمه الصريح، فكان عليه أن يكتب «في مديح الألم».

0 تعليق

التعليقات