هناك من مرسمه المعتّق بكل شيء، يبعث عباس يوسف تحاياه الفنية إلى كل الأصدقاء القابضين على لونهم الإنساني. أضحى هذا اللون باهتاً، لا نضارة فيه، لفرط ما استهلك. كل شيء يحيط بنا صار يأخذ من لوننا الإنساني، الأنظمة السياسية أخذت منا كرامتنا، والثورات العربية أخذت منا تسامحنا، صرنا كائنات طائفية بامتياز. يعيدنا عباس يوسف إلى اللون الإنساني، لون التحية، فالتحية تتحول إلى حرب كما جرت العادة بين الفنانين والمبدعين المجايلين لبعضهم، لكن التشكيلي والخطاط عباس يوسف، يجعلها علامة سلام وتقدير ووفاء ولون عاطفي.
تحيته في معرضه «البحر حين يسهو» (2002) إلى المبدع أمين صالح، وتحيته إلى الفنان البحريني الراحل ناصر اليوسف في «كليم اللون» (2009) وتحيته إلى رفيق لونه جبار الغضبان عام 2011.
يفتتح سبت كل أسبوع ببطاقة جميلة، هي لوحة تشكيلية، يوقعها باسم تحية إلى أحدهم. صارت وسيلتي الخاصة التي أتعرف من خلالها إلى الفنانين والكتاب والنشطاء في كل الحقول. أعرف أنه لا يرسل تحيته في الغالب إلا لمن يستحقها، لأنه ضنين بتحيته على أولئك الذين فقدوا ألوان إنسانيتهم من المثقفين والفنانين. تجد في تحاياه شخصيات مختلفة في مواقفها السياسية، لكنها مؤتلفة إلى حد كبير في ألوانها الإنسانية.
في معرضه الذي افتتح أمس في «صالة الفنون التشكيلية» في البحرين، وجّه تحيته إلى الخطاط عبدالإله العرب. الخطاط البحريني البعيد عن الأضواء، هو واحد ممن خطوا دستور البحرين 1973. كتبه بدمه قبل حبره، فهذا الدستور يحمل نضالات شعب البحرين المبكرة في المطالبة بحياة سياسية حرة وكريمة. هي تحية إلى هذا الدستور أيضاً، فاليد التي كتبته تستحق أن يُحتفى بها.
دستور 73 عزيز على قلوب البحرينيين بمختلف ألوانهم. هو أول وثيقة أجمعوا عليها، وكم دفعوا من ثمن بعد تعليقها وحل البرلمان في 1975، حتى ظنوا أنهم استرجعوها في لحظة غادرة في 2001، قبل أن يفاجئهم الأمير بدستور جديد في 14 فبراير2002، يعلن فيه أنه ملك، ملك لكل شيء، لا سلطة خارج قبضته، كتموا غيضهم وراحوا يغلون حتى انفجروا في 14 فبراير 2011.
هي تحية أيضاً إلى إلى هؤلاء الذين يناضلون من أجل إسقاط هذا الدستور المنحة للعودة إلى لحظة ما قبل دستور 1973 حيث المجلس التأسيسي المنتخب لكتابة دستور البحرين.
«جحيم يسمونه بلاداً» اللوحة التي وجدها عباس يوسف أكثرا تعبيراً عن حال بلاده، مررها بطاقة دعوة لأصدقائه عبر الفضاء الإلكتروني. هي جزء من ديوان الشاعر قاسم حداد «قبر قاسم» الصادر في التسعينيات، حيث كان عقد البحرين المرّ، أو ما عرف بانتفاضة التسعينيات التي كان مطلبها العودة إلى دستور 1973. ما يؤلمني اليوم يا صديقي عباس، ليس ألا أصل إلى معرضك، بل ألا أصل إلى اللحظات الأجمل، لحظات ما قبل المعرض، لحظات تشكيلك للوحة، هناك حيث مرسم «رباب»، حيث الطاولة البيضاء وطننا المشترك، نشرب عليها قهوة رباب الفائقة الأناقة، تدفق أنت عليها ألوانك وأبسط عليها كتبي، ونمرر جمل ابن عربي، فتصير لوحات وخطوطاً وألوان وعدسات المحروس تلتقط كل ذلك. كيف غدا بيني وبينها جحيماً لا يُمكّنني من الوصول إليها؟
الجحيم يا صديقي صار لون بلادنا الذي افترس كل شيء، أقرأ في بطاقة معرضك المطبوعة لوحة جلال الدين الرومي «اللون افترس انعدام اللون»، أتذكر كيف طِْرتَ أنت فرحاً بها حين مررتها إليك ذات «واتس آب»، لكني أتذكر أكثر كيف كنتُ أنا أتألم لأني لم أكن على الطاولة البيضاء نفسها لنضرب عليها معاً فرحاً باكتشاف ضوء جديد من أضواء الرومي.
وهناك حيث مرسم «عشتار»، حيث صديقنا الفنان الرائع جبار الغضبان والأصدقاء الذين يعبرون بتحياتهم، فيما أنت وجبار تعبران بألوانكما ومكبس الغرافيك الساحر، تحكيان قصص نضال البحرينيين في السبعينيات في المنافي التي لم نفكر لحظة أنها ستعود. تحية إليك صديقي، وتحية إلى جدران مرسمي «رباب» و«عشتار» التي كتبنا عليها «أخاف إنساناً لا يقرأ الشعر».
* كاتب بحريني.