«وَأَلَنّا لَهُ الحَديد» (سورة: سَبَأ - الآية: 10)
من اجدبرا في البترون، إلى تاريخ الفن اللبناني وعالم التشكيل المصنوع من الحديد، دخل المبدع الراحل بولس ريشا (1928 ـــ 2018) بموهبة فذة، وروح مثابرة ومصمّمة على النجاح. صقل لنفسه اسماً باقياً إلى الأبد. اليوم، تحتفي «غاليري أليس مغبغب» (الأشرفيّة ــ بيروت) بالفنان الذي رحل قبل أقل من خمسة أشهرٍ، بمعرض مصغّر في ناحية الغاليري اليُسرى، حيث تسقط الإضاءة على الأعمال كوحيٍ للرائين. وهنا بالذات، سيتذوق الزوار بعضاً من أعمال الراحل، طالبين المزيد. في هذه الزاوية التي تشبه المقامات الصغيرة أو المزارات، يجول الزائر متأمّلاً معجزات بولس ريشا في لَيّ الحديد، وفي تكوين الأشكال، وفي صياغة الأفكار البصرية وإنتاج المواقف السياسية ـــ البصرية. هذه الأعمال لطالما أعلن بولس ريشا أنها كأولاده، بل أكثر: «الحديد بالنسبة لي كما الماء للزهر!» قالها في مقابلة قبل الرحيل، بصدق الطفل وشغفه للّعب.
«سلم الجهل»

لكن، مهلاً كيف دخل ريشا عالم الفنون البصرية؟ كيف خاض غمار التشكيل بالحديد؟ كيف أثبت نفسه بجدارةٍ قل نظيرها في المنطقة، كاسمٍ لامعٍ في عالم النحت والتشكيل بالمعادن؟
القصة تبدأ من واقع أن بولس ريشا اضطر إلى ترك الدراسة باكراً وتعلّم مهنة للمساهمة في دخل العائلة، فكانت الحدادة هي الطريق. ذهب إلى جبيل حيث تعلّم التقنيات الأساسيّة لصنع أدوات الزراعة وغيرها. لكنه ما لبث أن عاد إلى بلدته بعد أشهر، وافتتح محترفه الخاص للحديد المصقول. لجوء الأخوين بصبوص إليه في بعض الأحيان لتنفيذ مختاراتٍ من أعمالهما، أو حتى الفنان عارف الريِّس، فتح افقاً مختلفاً أمام شغفه في السنوات اللاحقة. كان أهالي البلدة يسمّونه «مجنون الحديد»، هذه المادة التي عشقها فكانت «ليلاه»، ورسمت ككل العاشقات مصير معشوقهن، حتى الرحيل. بين محترفه في اجدبرا، و«متحف الفن الحديث والمعاصر» في عاليتا (MACAM)، بقيت أكثر من 400 منحوتة شاهدةً على كل هذا الشغف اللامتناهي من بينها عشرات الأعمال في «غاليري أليس مغبغب»، التي واظبت على العرض للراحل منذ عقود. لكن أول معارضه كان في البترون في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي. ولّدت باكورة أعماله الفنية بشكلِها المُطاول وعودِها الحديدي، عموداً فقرياً لمعظم منحوتاته اللاحقة. يبدأ البناء التشكيلي منها وحولها وغالباً ما ينتهي بها. بعض هذه الأعمال تمتد أفقياً أيضاً، يحيلنا تنسيقها إلى أعمال النحات العالمي خوليو غونزاليس (1976 - 1942). وبعضها الآخر في تركيبه، يحيلنا إلى النحات العالمي دايفيد سميث ( 1906 - 1965). لكن المفارقة أن معرض بولس ريشا الفردي الأول في بيروت كان عام 1972 في مكتبة «لا جافيت» في «الجامعة الأميركيّة في بيروت»، بعدما اكتشف عميد الجامعة حينها سمير تابت أحد أعماله بالصدفة، فنسّق له المعرض.
«لما صار عندي «أوكسيجين» (للتلحيم) وصار عندي هوا، صرت احلم... انو انا بدي ضل إشتغل حداد؟ لا! أنا موهوب، الله عاطيني موهبة انو اشتغل بالفن! عملت واجهة المحل الكبيرة، وحطيت فيها احجار طبيعية واحجار قديمة، واحجار جديدة، وعملت تصوينة طويلة عريضة، وكتبت عليها: غاليري بيكاسو!». تلك النواة أثمرت براعمها سريعاً في عالم الفن التشكيلي اللبناني، قِطعاً فنية حديدية منها الثابت والمتحرك، منها الممشوق والرشيق، ومنها الميكانيكي. والأهم أن «لكل قطعة قصّة»، على حد تعبير ريشا في إحدى مقابلاته التي يستكمل فيها قائلاً: «بالانتخابات، يبقى يجي نايب عالضيعة، يحملوه على اكتافهم. وهَون (قاعدة العمل) داعس ع مخ الزلمي (ثم مشيراً إلى أعلى العمل) ورافع ايديه بالطالع. هيدا: سلم الجهل!» يقولها باقتناع وإصرار وتصميم، ببساطة الشارح لعمله الذي تتشابك فيه الحدائد مشكِّلة سلّماً تصاعدياً غير تقليدي، يضعف عند الخصر ويلتوي باتجاهات مختلفة منطلقاً بشكل شبه عموديّ نحو السماء.
طوّعت يداه أسلحة حربيّة ومحركات سيارات وتوربينات قديمة


يذكر هنا أن ريشا كان عملياً أوّل من حوّر في هوية الأسلحة الحربية وحوّلها إلى فنٍ في لبنان. فمن طوّعت يده كل أشكال وأنواع الحدائد، من محركات سيارات، إلى فرامل، أو دواليب دراجاتٍ وتوربينات قديمة وغيرها، لم تعصَ عليه بعض أنواع حدائد الأسلحة. إنه من بين الأوائل الذين عملوا على إعادة تدوير المواد الحديدية واستعمالها وتطويعها لصنع تحفهم في لبنان، علماً بأن فنون إعادة التدوير شهدت صعودها الحاد في الستينيات، ولو أن جذورها الخفيَّة عملياً تعود إلى القرون الوسطى.
وفي هذا المعرض التحية، تتكشف الأعمال الملحّمة بحرفية فنية عالية، منها «الفارس وحيداً» ثلاثية الأضلع في قاعدة. الرأس كأنه إيحاء لقبعة هي أسطوانة مخرّمة من الحديد السميك، ربما كانت جزءاً من محرك سيارة يوماً. قربها منحوتة «في توازن» حيث دخل الحجر في خدمة التوازن مع الحديد، كنموذج ـــ للمتعة المضاعفة ـــ متحركٍ في جزءٍ منه! لم يكن الراحل شغوفاً بالفن فقط. كان طفلاً كبيراً يهوى اللعب بالأشكال والأحجام والأفكار... مرحاً دون ابتذال، بهجاً دون خفّة، فريداً، وحيداً... كالحب «يأتي دائماً بصيغة المُفرد» (سوزان عليوان).

* «تحيّة إلى بولس ريشا»: حتى 31 تموز (يوليو) ـــ «غاليري أليس مغبغب» (الأشرفيّة ـــ بيروت). للاستعلام: 01/204984