القاهرة | كان حلم ألبير قصيري بسيطاً، أن تتاح له فرصة أن يلف العالم، وهو الأرستقراطي الذي لم يعمل يوماً ما، اعتماداً على أموال أبيه صاحب الأملاك في القاهرة. قرّر قصيري أن يعمل على ظهر سفينة تجارية. انطلقت السفينة من القاهرة، ودارت في العديد من الموانئ. وفي نهاية الرحلة، رست السفينة في أحد الموانئ الفرنسية. كان ذلك عام 1945، وكان قراره بالبقاء في «مدينة العالم» التي يكتب بلغتها، بل نشر كتابين بها في القاهرة.وقتها كان بودلير هو شاعره المفضل، ملهمه. كان يراه الأكثر إنسانية من كثير من الشعراء. كتب ديوانه الأول «لسعات» (1931) ولم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة، مستلهماً أشعار الشاعر الفرنسي الرجيم. لاحقاً، تبرّأ من الديوان باستثناء بيت شعري واحد: «وحيداً وحيداً كجثة جميلة، في يومها الأول بالقبر». لم يكن بودلير وحده ملهمه، بل يدين لرامبو أيضاً بالكثير، ولدوستويفسكي، نيتشه، ستاندال.
وبعد سنوات، ودع الشعر، كان يرى المهمشين قصيدة تمشي على الأرض، فبدأ بكتابة النثر. كانت مجموعته القصصية الأولى «بشر نسيهم الرب» (1941) الي ترجمت وقتها إلى العربية، والإنكليزية أيضاً بتوصية من صديقه هنري ميللر الذي التقاه في أميركا في رحلته الأولى خارج مصر. من خلال هذه المجموعة، كان واضحاً امتلاك أدواته الفنية، بل العثور على صوته الخاص الذي لازمه طويلاً في كل ما كتب. أبطاله مهمشون، محرومون، لصوص كبار وصغار، ومهرجون، وعالمه هو قاع المدينة الذي يعرفه جيداً، المقابر، ولغته حادة ساخرة. السخرية هي التمرد الوحيد أمامهم عندما يكتشفون كمّ «الدجل» الذي يعيشون فيه في هذا العالم: «هل تستطيع الاستماع إلى وزير دون أن ينتابك الضحك؟» كما قال في أحد حواراته.
عندما وصل إلى فرنسا، اختار الإقامة فى فندق في سان جيرمان، وظل كذلك لا يغادره، غرفته هي البيت، لكن عالمه في كل رواياته هي سنوات الطفولة والشباب. غادر مصر ولم يعد إليها إلا في زيارات خاطفة، إلا أنه لم يكتب سوى عن مصر.
كان السؤال عن أسباب إقامته في غرفة وعزلته عن العالم سؤالاً دائماً. كان يجيب بأنه لا يريد أن يصبح عبداً لشيء، هو ضد التملك بأي صورة. قال: «إن العالم عبارة عن واقع مغلوط، بنته الدول الغنية، منذ آلاف القرون. حين تشترون سيارة، فإنكم تصبحون عبيداً وسجناء، وبالنسبة لي، أنا الذي لا أملك شيئاً، فإن الحياة بسيطة. استيقظ من النوم ولا أحس بالقلق على سيارتي. أتأمل إن الذكاء، حينما نفهم، مرة واحدة إلى الأبد، أي دجل نعيش فيه، هو الإدراك أن الحياة جميلة».
لم يكن والده محباً للقراءة، ولم تكن أمه تتحدث سوى العربية، ولا تجيد القراءة والكتابة. أدخلاه مدارس فرنسية، في عمر العاشرة بدأ الكتابة: «روايات من وحي الأفلام التى كان يشاهدها، حيث اعتادت أمه أن تصطحبه». من دراسته، وأشقائه، بدأ إجادة الفرنسية، واختار الكتابة بها. حتى عندما قرر الهجرة، كان يفكر بالعربية، بل يكتب أعماله في ذهنه بها. قال: «أنا أفطر باللغة العربي. لكن في الوقت نفسه، كل أسلوبي يأخذ شكلاً مختلفاً لو كتبت عن باريس أو عن شيء آخر».
ولكن هل كانت الفرنسية حاجزاً بين قصيري وانتشاره في بلده الأساسي الذي يكتب عنه؟ وهل اللغة –وحدها- التي تحدد جنسية الكتابة؟ ربما كانت اللغة التي يكتب بها قصيري، حائلاً دون انتشاره، بل بين اختصار سنوات طويلة من عمر الرواية العربية وحداثتها، وهي المهمة التي قام بها نجيب محفوظ في ما بعد عبر سنوات طويلة؟
كانت أفكار الحركة السريالية المصرية التي انتهى قصيرى إليها، وشارك فى تحرير مجلة «التطور» التي كانت تصدر في ذلك الوقت، تقف جنباً إلى جنب مع نظيرتها في كل العالم: شعراً أو رواية، كانت أكثر حداثة وتقدماً من كل الأفكار الكلاسيكية التي تناقش داخل المجتمع الباحث عن التحرر في ذلك الوقت. هاجر معظم السرياليين إلى الخارج، بينما ظلّ من يكتب بالعربية يبحث عن أسلوب جديد للقول. في الفترة التي كتب فيها قصيري أعماله عن المهمشين، كان أيضاً نجيب محفوظ يكتب عن الحارة المصرية، ولكن احتاج محفوظ إلى سنوات طويلة حتى عثر على صوته الخاص. ربما – افتراضاً- لو بقي قصيري وجماعته السريالية، وتم النظر إلى أعماله باعتبارها «مصرية» مكتوبة بلغة أخرى، لتم اختصار سنوات طويلة من عمر الرواية العربية التي بدأت حداثتها الحقيقية على يد محفوظ.
بالتأكيد التاريخ، الأدبي منه، لا يعرف كلمة لو. ولكن ماذا «لو»؟ لو بقي قصيري منافساً لمحفوظ في مصر، أما كان تغير شكل الرواية العربية؟