تبدأ حلقة Hated in the nation من سلسلة الخيال العلمي البريطانية Black mirror بقصة صحافية تتعرض لحملة كراهية واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، عقب نشرها مقالاً انتقدت فيه ناشطة مُقعدة انتحرت للتوّ. بسرعة فائقة، انتشرت على الإنترنت دعوات إلى قتل الصحافية، قبل أن تُقتل فعلاً بطريقة غامضة. الأمر نفسه يتكرر مع مغني راب سخر من أحد معجبيه في برنامج تلفزيوني، ومع فتاة نشرت سيلفي «لا أخلاقية» مع نصب عسكري. تتبع الشرطة هذه الجرائم، فيتبيّن أن هناك «درونز» على شكل نحلٍ، تُشغّل ذاتياً بواسطة الذكاء الاصطناعي، صُمّمت لتحوّل دعوات القتل الافتراضية إلى جرائم حقيقية. يكفي أن يصل هاشتاغ #DeathTo (الموت لـِ) قبل اسم الشخص المستهدف إلى عدد معيّن، حتى تنطلق «النحلة» وتصل إلى موقع هذا الشخص، فتدخل إلى جسده عبر أي فتحة (الأذن، الأنف، الفم) وتقتله على الفور. ما يتمّ اكتشافه لاحقاً، هو أن هذه «الدرونز» لا تعمل في اتجاه واحد. فهي بعد أن تقتل هدفها، ستعود في موعدٍ محدد لتقتل كل الذين شاركوا في الدعوات الافتراضية إلى قتل الضحايا السابقين، أي الذين كانوا السبب في مقتل هؤلاء. «كارما» تكنولوجية، تسبّبت بمجزرة على طول البلاد، أراد منها مصمم تلك الآلات أن يلقّن العالم درساً تراجيدياً في عصر الاستسهال الافتراضي. حين شاهدتُ هذه الحلقة قبل نحو شهرين، لم يخطر في بالي لحظةً واحدة، أنني سأكون أنا، عرضةً لمئات الدعوات إلى القتل والسحل والاغتصاب على مواقع التواصل الاجتماعي، عقب كتابتي تعليقاً ساخراً على بوست لصديق شكّك في خبر عن معجزة حصلت في رومانيا بشفاعة القديس شربل مخلوف.

«روح عالمٍ بلا قلب»
في الصف الخامس ابتدائي، اقتربتُ من الأب بول مارديني الذي كان يدرّسنا مادة «التعليم المسيحي» وقلتُ له بفخر من يحمل خبراً سيقلب العالم رأساً على عقب: «أمس، ظهرت مريم العذراء لجدتي في فنجان القهوة. لقد رأيتها». وبالفعل، كنت عند جدتي قبل يوم وحين فَرِغَت من شرب قهوتها وقلبت الفنجان لقراءته، رسم البنّ على طرفه شكلاً قريباً من تمثال «سيدة حريصا». ولكن قبل أن أنهي بشرتي العظيمة، كان الأب مارديني، قد مسح رأسي ثم قال ضاحكاً: «العدرا بدها تظهر بفنجان القهوة؟ الله يباركك». حينها شعرتُ بحرج وخجل شديدين. كنت متأكدة مما رأيته قبل يوم، وقد شاركتني جدتي وزائروها في ذلك، فجميعهم رأوا ما رأيت، لم أكن أهذي حتماً. لماذا استخفّ بي «أبونا» هكذا؟ ولماذا أنكر حصول «عجيبة» من هذا النوع في الوقت الذي كنا نسمع فيه في المدرسة حكايات كثيرة كهذه، عن ظهورات وانخطافات وشفاءات عجائبية؟
إذا ما وضعنا جانباً التراث الشعبي والميثولوجيا الريفية (حتى لو كانت قناة «أم تي في» هي من تروّج لها)، تشكك الكنيسة (المؤسسة الدينية المسيحية) عموماً بحدوث المعجزات، وتمرّ العجائب المزعومة بمراحل عدة قبل الاعتراف بها رسمياً من قِبل الكنيسة. لكن لا عجب في أن يصبح على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تتسم بشكل أساسي بالترويج للخطابات التجهيلية، مجرّد التشكيك بخبر عن معجزة أو السخرية منه (بالمناسبة أنا لم أرَ حتى الآن مصدر هذا الخبر)، سبباً لإدانة المشكّك والساخر ولجرّهما إلى المقصلة.
من هنا، لا أدري حتى الساعة أين وقع «الازدراء» أو «التحقير» في ستاتس شربل خوري. فإذا كان التشكيك بحدوث معجزة في مكانٍ ما، هو إهانة لقدّيس أو للدّين، يصبح الكاهن المذكور سابقاً قد أهان بدوره الدين والسيدة العذراء حين لم يأخذ كلامي على محمل الجد. وتصبح الكنيسة بذاتها قد أهانت جميع القديسين حين أنكرت الكثير من المعجزات المنسوبة لهم.
أما تعليقي أنا، فأعترف أنه كان نكتة «بايخة»، بالأحرى «بضان» (أشكر المصريين كل ساعة على هذا المصطلح التكثيفي العظيم)، وبأنها لا تتناسب مع حسّي الفكاهي الذي أعتزّ به عموماً. لكنني لم أستطع مقاومة كتابته، رغبةً مني في زيادة حدة التشكيك في الجانب الغيبي من الخبر لا أكثر: «يمكن يكون بيشبه مار شربل عهالمعدّل».
أعتقد أن المرة الأخيرة التي جادلتُ فيها أحداً في موضوع دينيّ كانت في المدرسة أو في سنتي الجامعية الأولى. فحين يكبر الإنسان، خصوصاً في بلادنا، يتعلم كيف يختار معاركه ويدّخر طاقته. ثم إنني أعي تماماً، والفضل لماركس ولنصّه الشهير عن الدين (مقدمة نقد فلسفة الحق عند هيغل)، أهمية هذا المكوّن لا سيما الشقّ الماورائي منه، في حياة الشقاء التي يعيشها البشر: هو «زفرة الكائن المضطهد» و«روح عالمٍ بلا قلب». ولكن من كان يعلم أن تعليقاً من ست كلمات على صفحة صديقٍ، سيطلق حملة كراهية واسعة تنتهي باستدعائنا، شربل وأنا إلى التحقيق، بتهمة «تحقير الأديان»، بعد تقديم أكثر من شكوى ضدنا أبرزها تلك المقدّمة من «المركز الكاثوليكي للإعلام».

التحقيق العجائبي
لم يكن ينقص التحقيق معي في مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية إلا كاهناً ومذبحاً. أخذ الضباط في قوى الأمن الداخلي الذين حققوا معي على عاتقهم محاولة إعادتي إلى طريق الخلاص المسيحي. من أول الأسئلة التي طُرحت عليّ في التحقيق الذي استمرّ خمس ساعات، هو إذا كنت «معمدّة» (حاصلة على رتبة العماد)، إذ يبدو برأيهم أن أحداً لا يكتب نكتةً في موضوع ديني، إلا إذا كانت تسكنه «أرواحٌ شريرة».
ضباطٌ في جهازٍ أمني في دولة يُفترض أن دستورها لا ينبثق من عقيدة دينية معيّنة، أخذوا يسألونني، وفي مواضع مختلفة من التحقيق، إذا كان أهلي مؤمنين مسيحياً، إذا كان شقيقي يشارك في القدّاس، إذا كنت أعرف قصة «الابن الضال» أو قصة تحوّل القديس بولس إلى المسيحية، وغيرها من قصص الكتاب المقدّس. جهازٌ أمني كان يبشّر مواطنة من داخل ثكنةٍ عسكرية، بدين الحقّ. لا أعلم إذا كان المحققان يعملان بدوامٍ ثابت في هذا المكتب، أو أنهما أفرزا خصيصاً لي، لكونهما مسيحيّين، وبحال كان «المتهم» مسلماً، سيفرز له محققون مسلمون، في ما يشبه تنفيذاً جانبياً للقانون الأروثوذكسي الشهير.
«شو هالهمروجة (البلبلة) اللي عامليتها؟»، سألني الملازم أول بدايةً. «أنا لم أفعل شيئاً، ولكن الناس جميعهم أصبحوا متخصصين في الهرمينوتيك (فلسفة التأويل)، وجاهزين ليفسّروا جملة من ست كلمات ثم يشنّون حملة وفقاً لهذا التفسير». سألتُ المحققين إذا كان ما يتعلمه المسيحيون منذ نشأتهم عن أن الله «يخلق البشر على صورته ومثاله»، كان برأيهم ينطوي على معنى جنسي، فبالتالي تصبح جملتي عن أن الطفل قد يكون شبيهاً للقديس شربل (الذي كان السبب في ولادته بحسب خبر المعجزة)، محصورةً بالمعنى الجنسي فقط. ثم تابعت: «ولنفترض أنني أقصد في تعليقي إيحاءً جنسياً، هل ممكن أن تقولوا لي أين الإهانة في ذلك؟ صحيح أن الرهبان لا يمارسون الجنس بحسب العقيدة المسيحية، ولكنها قاعدة كنسية، والقول بعكسها هو خرق لهذه القاعدة، ولكن ما هو وجه الإهانة في ذلك؟». عند هذه النقطة، استعنت بقرار صدر قبل نحو أسبوعين عن الفاتيكان، يعتبر أن «نذر العفّة» للمسيح، من قبل الراهبات («عرائس المسيح») لم يعد شرطاً حرفياً لحياة التكريس، بل يمكن أن يكون مجازياً، ومرتبطاً فقط بنقاء النفس. هذا يعني أن مبدأ العذرية لم يعد بالنسبة لرأس الكنيسة الكاثوليكية مرتبطاً بممارسة الجنس، بل بقيمٍ ومُثُل روحيّة.

«البامية والمثقفين»
«هل تؤمنين بالعجائب؟» سألني أحد المحققين الذي كان غاضباً معظم الوقت. «أؤمن فقط بالقانون الطبيعي»، أجبت. ردّ المحقق بحماسة: «ولكن هناك أشياء تتوقف عندها الطبيعة». «مثل ماذا؟»، سألته. «مثلاً، إذا أتيتِ بثعبان ووضعته داخل دائرة مياه، بإمكانه أن يجتازها، ولكن إن أتيت بثعبان ووضعته داخل دائرة من المياه المصلّى عليها، لن يستطيع أن يعبرها». بعد قليل، دعمه الملازم أول بحجة أخرى، قائلاً: «كان والدي يتعلّم في دير المخلص، وكان الأب بشارة أبو مراد أثناء قراءته الانجيل، يمشي على الهواء فوق الوادي الذي يطلّ عليه الدير، وكان والدي يشاهده».
إذا ما وضعنا جانباً التراث الشعبي والميثولوجيا الريفية، تشكك الكنيسة عموماً بحدوث المعجزات


تحمّل المحققان سخريتي مما يقولان معظم الوقت، وأعتقد أن هذا مردّه في الأساس إلى كوني صحافية وبالتالي أتمتع بحصانة ما قد لا تتوفر إلى كل من يحظى بشرف المثول أمام هذا المكتب.
ولا أخفي أنني لمحت أكثر من مرة في عيون المحققين نظرة المساعد محسن (الهملالي) لـ«سلنغو» في المسلسل السوري «ضيعة ضايعة». فهمت حينها، للمرة الأولى بشكلٍ مباشر، لماذا كان الشرطي يكرر أنه لا يكره سوى أمرين: البامية والمثقفين. ولماذا كان المساعد في مخفر الضيعة متشوقاً دائماً إلى هذا الحدّ لضرب «سلنغو» (مثقف القرية ــ حائز شهادة البكالوريا) على وجه التحديد. (لا أدّعي أنني «مثقفة» طبعاً، ولكن أعتقد أن النقاش الذي خيض أثناء التحقيق ليس النقاش المفضّل بالنسبة إلى ضبّاط قوى الأمن الداخلي عادةً).
لقد استندتُ منذ البداية إلى كوني طالبة ماجستير في الفلسفة، وإلى كون «المسّ بالأديان» عموماً يقع في صلب ما أدرس وما أعمل. «كيف يعني؟»، سألني المحقق الذي كان يعدّ إفادتي (تضمّ الإفادة في آخرها تعهداً بـ«عدم المس بالأديان مجدداً»). «افترض أنني كتبت مقالاً عن ماركس أو نيتشه أو سارتر مثلاً، وتحدثت عن إنكارهم لوجود الله بمعرض الحديث عن نظرياتهم، هل ستتهمونني مجدداً بالمسّ بالأديان، طالما أن التهمة فضفاضة هكذا؟». سكت المحقق قليلاً كأنه يفكر ثم قال: «شو هالمهابيل (الحمقى) أصلاً، قالوا العالم رح يخلص سنة 2000 وما خلص». أجبت مصدومةً: «ولكن هذا نوستراداموس!»، فأردف بسرعة: «كلهم متل بعض. كل واحد بيقول كلمتين بيفكر حاله صار يفهم... ما في حقيقة إلا يسوع المسيح». حسناً، سؤال أخير، قبل أن أوقع على التعهد: «هناك على سبيل المثال فيلم لسكورسيزي اسمه The last temptation of Christ (التجربة الأخيرة للمسيح)، يحكي عمّا تراءى للمسيح قبل أن يسلم الروح، حين نزل عن الصليب وقاده الشيطان إلى مريم المجدلية ليتزوجها. في هذا الفيلم مشهد جنسي بين المسيح ومريم المجدلية. إذا قمت يوماً ما بنشر تريلر هذا الفيلم على فايسبوك هل ستستدعوني مجدداً؟». «هذا موضوع آخر»، قال المحقق. لم أفهم بالضبط كيف يكون «موضوعاً آخر»، مع أنه قائم على «تهمتي» نفسها: ربط الدين بالجنس... ما علينا.

خاتمة
تحكي رواية The handmaid's tale (حكاية خادمة) التي تحوّلت العام الماضي إلى مسلسل بالاسم نفسه «ديستوبيا» (عكس «يوتوبيا»، مكانٌ متخيّل يسوده القبح والظلم، غالباً بالمعنى السياسي أو الاجتماعي) تحدث في المستقبل القريب، بعد أن ينجح انقلاب جماعة متشددة دينياً تدعى «أبناء يعقوب» بتسلّم الحكم في الولايات المتحدة، حيث تقيم دولتها باسم «جلعاد» وتفرض حكماً ثيوقراطياً مرعباً يستمدّ شرعيته من روايات العهد القديم. من يخرج عن طاعة النظام البطريركي المتطرف في القصة، يُعدم أو يرجم أو تقلع عينه أو تختن أعضاؤه الجنسية، إلخ.
لا أريد أن أبالغ، فأنا أعرف أن هذا هو لبنان وهذا ما تفعله الطوائف فيه منذ قيامه. لكن المعرفة النظرية شيء، والاختبار شيء آخر. لقد رأيتُ خلال هذه التجربة طيف تلك الديستوبيا، لا سيما خلال التحقيق الذي كان يبدو منطقياً أكثر لو انتهى بقيام المحقق بإعطائي «الحَلّة» (يمنحها الكاهن للخاطئين بعد الاعتراف) وطلب مني تلاوة فعل الندامة، عوضاً عن التوقيع على التعهد غير القانوني أصلاً.
مرعبٌ أن تخاطبنا الدولة بلغة دينية. مرعبةٌ الدولة التي تنصاع لرغبات «المركز الكاثوليكي للإعلام»، ناهيك عن وجود هذا المركز من الأصل في يومنا هذا. مرعبٌ أن يكون القضاء ضد مواطن، لأن مدعي عام جبل لبنان، القاضية غادة عون، «مؤمنة كثيراً» كما سمعتُ عشرات المرات خلال الأسبوع الماضي. مرعبٌ أن أسمع أكثر من ثلاث مرات في التحقيق «تخيّلي ماذا كان سيحصل لو سخرتِ من رمز خاص بالمسلمين». وأكثر ما هو مرعب في كل هذا، أنه «طبيعي»، وأن أحداً لن يستغرب ما حصل، بل سيستمر لومي أنا لأنني لم أراعِ هذه «الطبيعة» ولأنني «أخطأت» في ظلّ واقع كهذا. أليست هذه الدولة هي المعجزة الفعلية؟ فليتمجّد اسمُ الربّ دائماً وأبداً.