ذاع صيت البروفسور إيلان بابيه (مواليد 1954) المؤرخ الإسرائيلي والناشط السياسي المعروف بمعاداته للنظام الإسرائيلي في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي بعد سنوات قليلة من إزالة السريّة عن الوثائق الرسميّة الإسرائيليّة المتعلقة بحرب 1948 ومرحلة الإعلان عن قيام دولة «إسرائيل». بابيه مع مجموعة من الباحثين الإسرائيليين ممن أصبحوا يعرفون بـ«المؤرخين الجدد»، درسوا تلك الوثائق ونجحوا في بناء أجزاء من سرديّة نقيضة للسرديّة الرسميّة الصهيونيّة السائدة عن تلك اللحظة المفصليّة من تاريخ فلسطين والشرق الأوسط. أصدر بابيه كتباً عدة هامة تعدّ في مجموعها مصدراً لا غنى عنه في أي محاولة لفهم طبيعة المشروع الصهيوني في فلسطين، وتفكيك الرّوايات التاريخيّة المؤدلجة عن سير الأحداث منذ إنطلاقها نهايات القرن التاسع عشر. لكن أكثرها إثارة للجدل كان من دون شك كتابه «التطهير العرقي في فلسطين» (2006) الذي يكشف فيه تفصيلياً عن سياسات استراتيجيّة صهيونيّة ممنهجة منذ بدء الإستيطان حتى لحظة إعلان «إستقلال إسرائيل» لتطهير فلسطين عرقيّاً وطرد سكانها الأصليين. أمر يرى بابيه أنّه ما زال ديدن السياسات الإسرائيلية إلى اليوم. لقيت كتابات بابيه قبولاً واسعاً، وأثارت الكثير من الجدل ومشاعر الصدمة في المجتمع الإسرائيلي، لكنّها أيضاً تعرضت لموجة من الإنتقادات والتعنيف التي وصلت إلى حد التهديد بالقتل وحتى الإدانة من الكنيست الإسرائيلي. ففي عام 2008، أجبر على ترك منصبه الأكاديمي في «جامعة حيفا» العبرية، لينتقل من هناك إلى المملكة المتحدة، حيث يدرّس التاريخ في «جامعة إكستر» ويرأس «المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية». في مقر إقامته في العاصمة البريطانية، التقت «الأخبار» بابيه الذي رأى أن التشريع الجديد الذي صادق عليه الكنيست الإسرائيلي بشأن يهوديّة الدّولة، إنما يمؤسس ويقونن واقعاً قائماً بالفعل. وتحدث عما وصفه بفجوة قيمية بين أجيال يهود العالم، جاءت نتيجة لهذا التشريع العنصري الجديد. ورأى أنّ المزيد من اليهود، ولا سيّما الجيل الشاب الواعي منه، سيجدون أنه آن الأوان للشروع في مساءلة الأيديولوجية الصهيونيّة برمّتها.
تبدو مصادقة الكنيست الإسرائيلي أخيراً على قانون يمنح حقوقاً حصريّة لليهود في تقرير مصير الدّولة، كلحظة رمزيّة مهمّة في سياق تطوّر المشروع الصهيوني في فلسطين. كيف يرى إيلان بابيه هذه اللحظة، ولا سيّما أنّ وجهة نظركم منذ وقت طويل هي في إمكان قيام دولة واحدة ثنائيّة القوميّة كحل نهائي للقضيّة الفلسطينية؟
- التشريع الجديد يمؤسس ويقونن واقعاً قائماً بالفعل. «إسرائيل» دولة عنصريّة تُخضع تحت حكمها فئات عدة من الفلسطينيين: سكان قطاع غزّة المحاصر منذ عام 2006، فلسطينيو الضفّة الغربيّة الذين هم إما تحت الحكم العسكري، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، الفلسطينيون في القدس الذين ربما يتمتعون بدرجة معينة من حريّة الحركة، لكنهم دوماً تحت خطر التهديد الدّائم بالترحيل نحو الضفّة الغربيّة، وأيضاً المواطنون الفلسطينيّون في «إسرائيل» الذين يملكون حقوق التصويت والإنتخاب، لكنهم يتعرضون للتمييز العنصري في كل مناحي حياتهم الأخرى، بينما هامش الحركة الذي يمتلكونه في البرلمان محدود للغاية. التشريع الجديد يوحّد كل هؤلاء الفلسطينيين تحت فئة واحدة ويحرمهم من حق الإرتباط بفلسطين، ويرفض هويتهم القوميّة، ويحدد أماكن إقامتهم خارج المناطق المخصصة حصراً لليهود، ويهمّش تراث ثقافتهم العربيّة. هذا يعني في المستقبل أن الفلسطيني إما أن ينتهي للعيش في دولة الفصل العنصري الإسرائيليّة أو في بانتوستان رام الله أو في غيتو غزّة. لقد أصبح جليّاً الآن أن البديل الوحيد لهذا الواقع الذي يقوننه التشريع الجديد، هو دولة ديموقراطيّة واحدة على مجمل فلسطين التاريخيّة. وللحقيقة، فإن الفلسطينيين، على يد «منظمة التحرير الفلسطينية»، قدموا تنازلاً هائلاً بقبولهم المستوطنين اليهود ــــ في جيلهم الثالث الآن ــــ كمواطنين يتساوون في الحقوق معهم في فلسطين التاريخيّة. أمر يمثّل أساساً ممتازاً للشروع في بناء دولة تضم الفلسطينيين واليهود معاً، ينبغي لها أن تقبل مبدأ عودة من يرغب من اللاجئين الفلسطينيين إلى بلادهم.

من الجليّ أن النظام الإسرائيلي ينزع عن جلده بهذا التشريع الجديد تلك الهالة المزعومة عن «إسرائيل» بوصفها واحة للديموقراطيّة في قلب صحراء ديكتاتوريّات الشرق الأوسط، بل هو يضعها في مكانها كمجرد وجه آخر في زحام المجتمعات الغربيّة المبتلية هذه الأيّام بموجة صعود الفاشيّات الجديدة. هل تبقى هنالك لهذه الدولة أي أسس أخلاقيّة كي تحظى بتأييد يهود العالم؟
- قطعاً لا. أنا أتفق تماماً مع فكرة أن هذا التشريع الجديد ينبغي أن يدفع أي يهودي لديه مثقال ذرة من ضمير أخلاقي، إلى التساؤل عن ماهيّة الملابسات التي يجب أن تدفعه ــــ أو تدفعها ــــ لسحب ذلك التأييد التلقائي للدولة العبريّة. لقد اعتقدت دائماً بأن لحظة قيام دولة «إسرائيل» على أساس التطهير العرقي ضد الفلسطينيين عام 1948، كانت كافية لدفع اليهود حول العالم إلى اتخاذ موقف متحفّظ منها. لكن ذلك ربما كان صعباً في أجواء الهولوكوست الذي لم يكن قد مضى على الكشف عنه أكثر من ثلاث سنوات حينها. لكني الآن على أتمّ الثقة بأنّه في ظلّ هذا التشريع الجديد، سيجد اليهود، ولا سيّما الجيل الشاب الواعي منه، وفي الولايات المتحدة بالذات، أنه بات من الصعب الاستمرار في تأييد سياسات الدولة العبريّة، بل ربما آن الأوان للشروع في مساءلة الأيديولوجية الصهيونيّة برمتها.

هل يمكن القول بأن الخيارات السياسيّة لليهود الأميركيين دفعت النظام الإسرائيلي على نحو متزايد باتجاه الشعبويّة الفاشيّة، أم أن تأثير «إسرائيل» على اليهود الأميركيين هو الذي دفعهم للوقوف وراء سياسات سياسي شعبوي على شاكلة الرئيس دونالد ترامب. مَن يقود مَن هنا؟
- أنا على اقتناع بأن هنالك تحولاً قيمياً بين الأجيال عند اليهود الأميركيين. لقد نجحت «اسرائيل» في تحشيد تأييد يهود أميركا منذ الخمسينيات من خلال تأسيس لوبي ضاغط أثبت فعاليّة شديدة (الآيباك AIPAC)، وحملة دائمة للترهيب الممنهج والمبالغ به ضد كل ما يمكن أن يصنّف تحت مظلّة العداء للساميّة في الولايات المتحدة، إلى جانب الترويج على أوسع نطاق لفكرة أن الدولة العبريّة هي التأمين الوثيق ضد هولوكوست آخر. لكن إسرائيل في القرن الحادي والعشرين، لا تبدو مؤهلة بعد للقيام بدور الضامن ضد الهولوكوست. وبفضل انتشار الإنترنت، فإن الجيل الشاب من اليهود يعلم جيّداً حقيقة ما يدور على الأرض، ويجد بشكل متزايد صعوبة جمّة في قبول التماهي مع «إسرائيل».

إلى جانب كونك أهم «المؤرخين الإسرائيليين الجدد»، فإنك تبدو كأنك آخر من بقي صامداً منهم بعد انتهاء تلك الفترة الوجيزة من أجواء التسامح النسبي في التسعينيات قبل تولي اليمين الإسرائيلي السلطة بعدها، حتى لحظتنا الرّاهنة. هل لا تزال هناك فسحة لكتابة أو قراءة «تأريخات جديدة» في المجتمع الإسرائيلي الذي تتآكله مناخات العنصريّة الفاشيّة المتصاعدة؟
- لقد كانت الإمكانيّة الوحيدة للتغيير من الداخل ولا تزال تكمن في أن تسهم جهود التأريخ الجديد بأن يرى أولئك اليهود في فلسطين الذين يصنفون أنفسهم كيسار صهيوني (وهذه تسمية متناقضة تشبه قولنا بوجود دولة فصل عنصري ديموقراطيّة) أن عليهم أن يناضلوا مع الفلسطينيين لتغيير النظام الإسرائيلي، وبالتالي معاداة المشروع الصهيوني. تماماً كما فعل بعض ذوي البشرة البيضاء الذين التحقوا بحزب المؤتمر الأفريقي إبّان مرحلة النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. إن ذلك ليس بالأمر السهل بالطبع، وسيستغرق وقتاً لكنه لا يزال في حيّز الممكن، على أنّ جهوداً على الجانب الآخر مهمة، كذلك كأنشطة المقاطعة الثقافيّة والأكاديميّة وربما تصور فلسطينيّ واضح بشأن شكل المستقبل.

لا يزال البعض في اليمين الإسرائيلي يبرر شوفينيّة النظام وثقافة كراهيّة الآخر بما يسمونها «حالة العداء التي تعيشها إسرائيل بين جيرانها في الشرق الأوسط». عن أي أعداء يتحدث هؤلاء: الأردن؟ مصر؟ السعوديّة؟ ما تفسيرك لهذا الجنون غير المبرر وغير الواقعي؟
- من أجل الاستمرار في الحصول على تأييد الناخب الإسرائيلي للسياسات التي تنزع الصفة الإنسانيّة عن الفلسطينيين وتدفع باتجاه ديمومة الصراع الدّموي معهم، فإن النظام الإسرائيلي يلجأ بشكل دائم إلى تخليق الأعداء وإشاعة مناخات العيش في ظلّ الحصار. إدارة الخوف هذه تمكّن النظام من خنق أيّ انتقادات بوصفها شكلاً من أشكال الخيانة، بينما صيغة الصراع المستمر تبرر سيطرة العسكريتاريا على الدّولة وتحكمها الكلّي بهويتها وسياساتها معاً.

أنت تفضح تهافت أسطورة أنّ إسرائيل في حرب الـ 1948 حققت انتصاراً نوعيّاً على نسق انتصار ديفيد اليهودي على غولياث عربي من خلال تأكيدك الحاسم على أن تلك الحرب نظمت بالتواطؤ بين الوكالة اليهوديّة (الجهاز التنفيذي للحركة الصهيونيّة) والمملكة الهاشميّة، لكنّك تصمت عن دور للهاشميين في تحقيق انتصار سهل للإسرائيلي في حرب الـ 1967. هل هذه مرحلة لا نزال بحاجة إلى الانتظار حتى يتم كشف السريّة عن المزيد من الوثائق الإسرائيلية حولها؟
- بالفعل، نحن لا نزال في زاوية مظلمة في ما يتعلّق بالدّور الذي قام به الهاشميّون في 1967، على أنني ذكرت في «أكبر سجن في العالم ــــ تاريخ الاستعمار الاستيطاني منذ عام 1967» أن الأردنيين وفروا من خلال مشاركتهم الشديدة الرمزيّة في جهود الحرب، الذريعة لإسرائيل لإجتياح الضفّة الغربيّة واحتلالها.

تذكر مصادر تاريخيّة متقاطعة أن عبد الله الأوّل ــــ أول ملك أردني ــــ ألحّ على أصدقائه في الوكالة اليهوديّة وفي مناسبات عدة بأن يتولى الهاشميون عرش مملكة واسعة تضم الأردن وفلسطين معاً بحيث يتعايش فيها اليهود والعرب في دولة ثنائيّة القوميّة (على غرار النموذج البلجيكي). لكن قيادات الجيل الإسرائيلي الأول استبعدت وقتها الفكرة بالكامل. هل كان ذلك خطأ استراتيجيّاً ارتكبته القيادة وتسبب على نحو ما في وصول المشروع الصهيوني إلى هذه الحالة المعقّدة من انعدام الأفق سياسيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً؟
- ليس على الأقل من وجهة النظر الإسرائيليّة. المشروع الصهيوني في خلاصته، هو حركة استيطانية كولونياليّة أشبه ما تكون بحالة الأوروبيين الذين استوطنوا أميركا الشماليّة. الصهاينة اعتبروا الأرض التي شرعوا في استيطانها منذ نهايات القرن التاسع عشر، بمثابة حق حصري لهم، وبأن الفلسطينيين، أصحاب البلاد الأصليين، هم حفنة من الغرباء. «إسرائيل» اليوم كدولة استيطانيّة، لا تزال تقوم على المنطق ذاته الذي حكم كل حركة استيطانيّة أوروبيّة: حيازة الأرض خالية من سكانها الأصليين، وهي مستمرة في العمل على تحقيق تلك الرؤية بعد سيطرتها شبه الكليّة على الأراضي الفلسطينية إثر حرب الـ 1967 وإن كانت تواجه تحديّات جمة الآن بسبب صعوبة التعامل مع الواقع الديموغرافي في فلسطين التاريخيّة.

لقد دفعتَ بحقيقة أن المشروع الصهيوني في فلسطين، كحركة استيطان كولونيالي غربي إلى واجهة النقاش العام. ماذا تعني تلك الحقيقة على المدى الطويل للفلسطينيين الذين يعيشون راهناً تحت أشكال متفاوتة من الهيمنة الإسرائيليّة، ولا سيما بعد التشريع الأخير؟ هم بالتأكيد لن يتبخروا، وليس بإمكان الإسرائيليين الاستمرار بتجاهلهم وتغييبهم طويلاً، فأين سيذهبون؟
- ينبغي على الفلسطينيين أن ينظروا في تاريخ نضالاتهم ونجاحهم في البقاء على أرضهم في مواجهة حركة استيطانيّة كولونيالية دعمها الغرب كلّه، ويشعروا بقيمة ما حققوه من إنجاز هائل بكل المقاييس. الخطوة التالية الآن هي في تغيير النظام الإسرائيلي، لكنّ الفلسطينيين يفتقرون بشدة إلى الوحدة ولا يمتلكون تصوراً محدداً عن شكل المستقبل. حين يتحقق هذان الأمران، تصبح مسألة تكثيف الرأي العام العالمي ــــ وحتى استدعاء دعم أكثر صراحة من داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته ــــ أمراً تلقائيّاً. وللحقيقة، فإن هنالك تصاعداً كمياً ملموساً في حجم التضامن مع الفلسطينيين وقضيتهم عبر العالم، وإن كان لا يزال إلى الآن في إطار المجتمع المدنيّ من دون الحكومات.

رغم تحييد الخطر الذي كانت تمثله سوريا والعراق، وإندفاع المملكة السعوديّة ودول الخليج العربي لبناء علاقات علنيّة مع «إسرائيل»، وامتلاكها حصراً ترسانة نووية ضمن الإقليم، فإن النخبة السياسيّة للإمبراطوريّة الصغيرة ــــ كما سميتها ــــ تبدو مشغولة بصراعاتها المحليّة الضيقة ومصالحها الذاتية القصيرة المدى. من يفكر لإسرائيل استراتيجيّاً؟
- هناك ثمة نواة صلبة مكونة من قادة عسكريين حاليين ومتقاعدين تتولى مهمة إدارة الإستراتيجيا الإسرائيليّة. لكن الإستراتيجيا دائماً نتاج الأيديولوجيا وهي في الحالة الإسرائيليّة الفكرة الصهيونيّة التي لم تتغيّر منذ أكثر من مئة عام: أكبر جزء ممكن من أرض فلسطين التاريخيّة بأقل عدد ممكن من سكانها الأصليين. ربما تغيّرت الأدوات والسياسات بتقلب الأحوال، لكن تلك الرؤية بقيت تماماً كما هي عصيّة على التغيير. التّحدي الذي طالما واجهته هذه الإستراتيجيا، يتمثل في كيفيّة الجمع بين تطبيق السياسات ذات النَفَس العنصريّ مع الإحتفاظ بعضوية نادي الدّول التي تزعم التحضّر. وهي لتحقيق ذلك تستمر في ممارسة ضغوط هائلة على السياسة الأميركيّة من خلال اللّوبي الصهيوني، وتمثّل ورقة العداء للساميّة في أوروبا، بينما تغوي الأنظمة العربيّة بقدرتها على التوسط لها مع الولايات المتحدة الأميركيّة.

تستمر في توصيف «حماس» كحركة مقاومة في مواجهة المشروع الصهيوني، رغم تعدد الإشارات والمصادر عن علاقات عميقة للإسرائيلي مع الإسلام السياسي منذ بدايات المشروع الأميركي في أفغانستان، وعن سياسات رسميّة علنيّة وسريّة تتغاضى عن صعود الإسلام السياسي على الساحة الفلسطينيّة على حساب الحركات اليساريّة أو القوميّة. ما هي وجهة نظرك؟
- هي دون شك حقيقة تاريخيّة أن صعود ما يسمى الإسلام السياسي حظي بدعم وتأييد من الغرب عموماً، ومن قبل إسرائيل في إطار الواقع الفلسطيني. لقد بنى الطرفان ــــ الغرب وإسرائيل كلاهما ــــ نوعاً من تحالف وثيق مع الإسلاميين في مواجهة الحركات الوطنيّة واليساريّة التي تتسبب لهما بالصّداع وتثير المخاوف. هذا التحالف بالتأكيد جزء أساس من الصورة. لكن على المنحى الآخر، فإن حركة «حماس» تحديداً إلى جانب كونها جزءاً من تيار الإسلام السياسي، هي مع ذلك حركة اجتماعيّة استقطبت كثيراً من التأييد بين الفلسطينيين، ولا سيّما بعد فشل الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة ــــ العلمانيّة ــــ في تحقيق إنجازات على الأرض وتورطها في اتفاقيّة أوسلو العفنة. وهي تقود بعض الفلسطينيين على الأقل في مواجهتهم لسياسات القهر الإسرائيلي. أنا كنت أومن بشدة، ومعجباً بالحركات اليساريّة العربيّة في السبعينيّات وتراثها النضالي الذي يمكننا بالتأكيد تجديده في وقت ما، ربّما مع تفهّم أكثر هذه المرّة لثقافة المجتمع وتقاليده وتدينه العميق من أجل استيعاب الجميع.

تتحدّث عن تحولات في موازين القوى بين السرديّات حول تاريخ فلسطين المعاصر: سرديّة صهيونيّة رسميّة في مواجهة سرديّة فلسطينيّة نقيضة. لكن، هل يمكننا بالفعل التحدث عن سرديّة فلسطينيّة في الوقت الذي تحتكر فيه النخب الإجتماعيّة المهيمنة على الجانبين روايات تكرّس بشكل أو آخر أوضاعاً قائمة؟
- السّرديات التاريخيّة في جوهرها ليست إلا حكايا بسيطة، فيها بداية ونهاية وأبطال يواجهون أشراراً. وهي لذلك يمكن أن تكون مشتركة بين أطفال الرّوضة وبروفيسورات الجامعات (في هيكليتها الأساسيّة وإن اختلفت بالطبع في عمق التفاصيل). من هذا المنطلق، فإن هنالك سرديّة فلسطينيّة شديدة الوضوح عمن هم الفلسطينيون، وماهيّة الصهيونيّة، وما الذي حصل في 1948، وما طبيعة النضال الفلسطيني منذ ذلك الحين. هذا لا يعني بالضرورة عدم تقبل تعدد وجهات النظر في قراءة هذه السرديّة من مستويات رؤى طبقيّة أو دينيّة أو حتى جغرافيّة. فكل حركات التحرر الوطني، امتلكت دائماً سرديّة فوقيّة عامة في موازاة قراءات على مستويات مختلفة لذات السرديّة. وكثيراً ما كان تباين مستويات القراءة هذا ذخيرة للمنازعات الداخليّة بين الأفرقاء داخل الحركة الواحدة.
المشروع الصهيوني حركة استيطانية كولونياليّة تشبه حالة الأوروبيين الذين استوطنوا أميركا الشماليّة


في الفصل المخصص للحديث عن الاقتصاد السياسي لإسرائيل في كتابكم الأخير «إسرائيل» (2018 ــــ Routledge) تصفون كيف أن المشروع الصهيوني الذي بدأ بملامح اشتراكيّة انتهى اليوم إلى نموذج متطرّف لهيمنة القلّة في الرأسماليّة المتأخرة. لماذا لا يتسبب ذلك في صعود يسار إسرائيلي يمكن أن يوحد بين الطبقات المهيمن عليها في مواجهة الاحتكار الاقتصادي على الأقل؟
- بوصفي كنت شخصياً ضمن حركة «حداش» (الجبهة التقدميّة للسلام والمساواة)، أجد نفسي في مكان مناسب جداً للإجابة عن هذا السؤال. لقد حددنا كحركة يسار ماركسي اشتراكي طبقتنا العاملة ــــ إذا شئت ــــ في إطار المجتمع الإسرائيلي بالمجموعة اليهوديّة المنحدرة من جذور عربيّة هاجرت إلى «إسرائيل» من العالم العربي في مراحل مختلفة، لكننا فشلنا فشلاً ذريعاً في استقطابهم أو تمثيلهم. لقد استثمرت الدولة الاشكنازيّة بلا هوادة في جهود تفكيك عروبة هؤلاء المهاجرين اليهود وإقناعهم بأن التحوّل إلى يهود جدد (على النسق الصهيوني) يستدعي منهم اتخاذ مواقف معادية واضحة ضد كل ما هو عربي. لكن الوقت ليس متأخراً بعد لاستعادة هؤلاء، وهي مسألة يجب أن تكون على رأس مهمات اليسار الإسرائيلي. كما قلت في كتابي، فإن الاقتصاد الكلّي لإسرائيل مزدهر بالمقاييس كافة، لكن الفجوة بين الفقراء (وغالبيتهم من اليهود العرب) والأغنياء تتسع بشكل دراماتيكي يوماً بعد يوم.

من الملاحظ أنك من أشد المؤمنين بقدرة حركات مقاطعة إسرائيل، ولا سيّما BDS على تعرية الأسس اللاأخلاقيّة للنظام الإسرائيلي. كيف تقوّم فاعليّة هذه الجهود إلى الآن؟
- أعتقد أن حركة BDS كانت ناجحة ومؤثرة بشكل كبير حتى الآن. لقد تمكنت من دفع قطاعات مهمة من المجتمع المدني العالمي إلى بعث رسائل قاسية للإسرائيليين المرتبطين بالنظام بأنهم غير مرحب بهم ما لم يعارضوا أيديولوجيّة النظام وسياساته. في هذه القطاعات جامعات واتحادات عماليّة وكنائس مؤثرة، إضافة بالطبع إلى تمتع الحركة بتأييد متزايد داخل المجتمعات اليهوديّة عبر العالم. لقد جعلت BDS من موضوع إظهار التضامن مع الفلسطينيين أمراً عملياً، ولا شك في أن قيمتها ستتضاعف في تحقيق التغيير على أرض الواقع، فيما لو تمكنت حركة التحرر الفلسطيني من صياغة مشروع للتحرير ينتمي إلى واقع القرن الحادي والعشرين، يستشرف صورة واضحة عن غاية النضال النهائيّة.