قد يكون كل ما في لبنان شبيهاً به، مجبولاً بقصصه، معجوناً من طينته. إلا أن بعض المعالم تبني هويته. وقد يكون بعض الأفراد عبر حيواتهم يرسمون بدقة قصة وطن فيه من كل شيء. في «غاليري أجيال»، يعيد صلاح صولي (1962) تركيب متاهات حيوات لبنان منذ 50 سنة حتى اليوم. يفعل ذلك عبر قصة أحد أبنائه «م.سعيد» المثيرة، المتناقضة، الجدلية والصاخبة وعبر 14 جزءاً من أفلام حوارية مع الشخصية المحورية، طارحاً أمام الجمهور حقائق ووثائق وشهادة نادرة لأحد كبار تجار الأسلحة إبان الحرب اللبنانية. وللمفارقة هو نفسه الذي كرّمته وزارة السياحة عام 1983 كعمود من أعمدة الثقافة في لبنان، لما كان له من فضل على الإنتاجات الضخمة في السينما اللبنانية في الثمانينات. «الشعب الذي ينسى تاريخه، هو شعبٌ محكومٌ بإعادته» (وينستون تشرشل)
أرشيف دقيق وحقيقي
هذه ليست مقابلات فحسب ولا مجموعة فيديوهات. هي أفلام تعرض في كل اتجاه على معظم جدران «غاليري أجيال». يمر بينها الزائر، يصبح ظله جزءاً منها. تغمره الصوَر، يصبح متفاعلاً حُكماً. هو جزء من هذه القصة. من قصة لبنان. يسمع صوت «م.سعيد» بطل القصة الفعليّ. يرى ملصقات أفلام قديمة من الثمانينات، ونصوصاً من الصحافة من تلك الحقبة أيضاً. ثم في الجانب الأيمن من الغاليري، صور مركبة مطبوعة حريرياً على «بليكسيغلاس» في أطرٍ بيضاء يظهر فيها سلاح، وملصقات، وغيرها قد تحتاج كل منها لقراءات متأنية متتالية لاكتشاف طبقاتها.
هكذا يعيد صلاح صولي تركيب بازل حياة «م. سعيد»، في أجزاء مختلفة غير متتالية من فيلم حواري معه، صورت في أماكن متعددة. كأنها تروي تاريخ لبنان عبره. عملياً، لم يُدخل صولي أي عنصر خيالي، بل اعتمد على الواقع والحقائق والأدلة والبراهين والوثائق والشهادة الحية. هنا أرشيف دقيق وحقيقي أمام عيون الزائرين، لكن ليس على الشكل العُرفي للوثائقيات. فلا تسلسل منطقياً للأجزاء، بل متاهة تزيد الرائي حيرة، وتحثه على اكتشاف الخيط الرابط وبناء القصة من جديد. شخص يروي تاريخاً، فيأخذ صولي هذا التاريخ بأقسامه المختلفة، ينقلها بصرياً للمشاهد، لتبدأ المقارنات والتحليل.

تاجر سلاح ومنتج سينمائي!
«الإنسان هو في الوقت عينه المتاهة، والمتنزه الذي يتوه فيها» (غريغوار لاكروا)
إذا هي ليست قصة فردٍ واحدٍ، تلك التي تُعرضُ كمتاهة في «أجيال»، بل قصة وطن. لبنان متعدد الشخصيات، المتناقض من طرف لآخر، لأقصى ما يحتمل القوس، متخبط منذ أكثر من 50 عاماً في بنيانه الداخلي. لكن من هو «م. سعيد»؟ أهو تاجر أسلحة أو رجل شغوف بكمال الأجسام؟ أو أب مُحبٌّ لعائلة ممتدة؟ أهو طفل عاش طفولة شقية في كنف عمّة تأخذه كلما حصل شي إلى البصّار؟ أهو صاحب مقهى للرجال في بيروت؟ أهو مشارك في الحرب الأهلية؟ أو عامود من أعمدة الثقافة في لبنان؟ هل هو منتج أفلامٍ سينمائية في الثمانينات؟ أم هو كل هذه الأمور معاً؟ كيف يمكن أن تدور الدنيا بإنسان إلى هذا الحد من القطب إلى القطب المقابل؟ يجيب صلاح صولي «الأخبار»: «بداية تعرفت إليه لأنني كنت أبحث في موضوع الحرب الأهلية التي حصلت عام 1958. كان عمره 19 سنة حين شارك في تلك الحرب. هو شخص ذو إمكانيات جمة، وطاقة هائلة.

فتعدد الشخصيات الموجودة لديه، مهم للغاية. لكن المجتمع والبيئة الحاضنة لم يقدما له شيئاً. تطورت الأحداث إلى أن صار مشاركاً في الحرب الأهلية، كتاجر سلاح كبير. عنده صعود وهبوط متكرر بشكل دائم. أكثر ما يشبه مجتمعنا أنه شخص متناقض بشكل كبير، هو مثلاً رجل أميّ، لكنه هو نفسه أنتج أفلاماً سينمائية في الثمانينات، وكُرم على أساس أنه واحد من أعمدة الثقافة في الوطن». خلف صولي على الحائط، يظهر نص من مقابلة «م.سعيد» مع الصحافة في الثمانينات حيث يقول: «أعطيت السينما في لبنان كل جهدي، لكي أرفع من شأن غيري. عندما أنتجت «المغامرون»، قالوا عني إنني مجنون لكني صممت على رفع مستوى السينما اللبنانية ولولاي لما تشجع الآخرون على إنتاج 7 أو 8 أفلام في غضون سنتين.(..) في سنة 1980 مرت البلاد بفترة شهدت بعض الهدوء على الصعيد الأمني . فأتاني صديقاي، الأخوان فؤاد ويوسف شرف الدين بـ «مشروع سينما» في البداية قلت لهما، لا، لا أستطيع. كلفة الفيلم تبلغ 300 – 400 ألف ليرة، وأنا تاجر (..) لكن حدث أن اقترح علي الشقيقان الدخول في عملية شراكة مع مصباح سلام تخفيفاً لأعباء النفقات الكبيرة، فوافقت وتعرفت على سلام فأنتجنا معاً «الممر الأخير». عرضنا الفيلم في صالة سارولا ولاقى أكبر نجاح. بعد ذلك بأشهر، حضر الى مكتبي في بيروت المخرج سمير الغصيني مصحوباً بمحمد المولى. الأوضاع الأمنية وقتئذ لم تكن مشجعة، وقال لي المولى: «أريدك أن تشاركني في إنتاج فيلم جديد، أكون فيه ممثلاً. تصرف على هواك، نفذ أي قرار تريد ولا تعتبرني غير ممثل الفيلم. أنا في حاجة إلى المال وأطلب إسداء عونك لي». أنتج محمد المولى فيلم «المغامرون» وقمت أنا بشرائه منه أثناء عرضه. وهكذا بدأت انصرف للعمل السينمائي. بعد «المغامرون»، قلت لسمير الغصيني: ما رأيك بفيلم نصوره في الخارج لنعطي الناس هنا شيئاً أحسن وجديداً؟ لمَ لا نقنع الممثل أنطوان كرباج في تجربة السينما؟ وافق الغصيني على مشروعي واتفقنا على طلب ليز سركسيان من القاهرة لإسناد دور البطولة النسائية إليها، فحققنا الفيلم المعروف باسم «نساء في خطر» وجرى التصوير في لبنان واليونان بمساعدة عناصر تمثيلية معروفة مثل إبراهيم المرعشلي، فؤاد شرف الدين، محمود مبسوط، وفيلمون وهبي. انتهينا من «نساء في خطر» ورجعنا ثانية للاتفاق على فيلم يخرجه سمير الغصيني من بطولة أنطوان كرباج، بالاشتراك مع ابني وسام».
نسأل صولي لم اختار هذا الاسم الوهمي المُبهم لشخصيةٍ حقيقية ما زالت بيننا؟ فيجيب بالمخزون الثقافي لفنانٍ ذوّاق: «في رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، البطل اسمه م. سعيد. من هنا أتى الاختيار. وجدت أنها تشبه شخصيات كثيرة، ويمكنها أن تعطي تأويلات كثيرة، جديدة، ومنظوراً جديداً! أفلامه فيها مواد تاريخية مهمة. فيها مواد مصورة في الحمرا، والروشة وفي مناطق اليوم. ترينها وتندهشين. عُرضت معظمها في «السارولا»، في «الستراند» وغيرهما. حتى إنّ أول فيلم لعب ستة أسابيع، ثم ذهب إلى طرابلس بعدها إلى زحلة، فصيدا. الواضح أن أول فيلمين درّا عليه أموالاً كثيرة. ثم تراجعت الأمور. وبدأ يخسر أمواله مع بداية الاجتياح. ثم إن صالات السينما في بيروت أغلقت أبوابها، واستحالت اليوم محلات ألبسة. السارولا، البافيللون، إلدورادو، الإيتوال، الستراند والكوليزيه». يشير صولي بيده للصور التي التقطها بنفسه لهذه المعالم من المدينة، كأنه عبر تصويرها يرمّم بقايا ذاكرة، بقايا تاريخ لبنان المعاصر والحديث.

الفيديو كوسيط بصري جمالي
«أريد أن يدخل الزائر فيضيع. بداية لن تفهمي القصة لأن كل شخص وكل تركيبته غير مفهومة، وفي النهاية البلد كله غير مفهوم، كيف نعيش؟ وكيف. كل شيء! أريد للعرض أن يكون متاهة بصرية، وحتى الصوت يجب التركيز كثيراً لالتقاطه من بين الأصوات المتداخلة للفيديوهات الأخرى. تسمعينها كشذرات» يقول صولي لـ «الأخبار»، فنسأل: تريدنا أن نتفاعل؟ أن نلعب معك؟ يجيبنا: «نعم، تماماً، أريد أن تلعبي معي اللعبة. أريد أن أدخلك إلى لعبتي، إلى الملعب الذي بنيته. ولذلك لا مشكلة لدي إن مرّ أحد أمام الشاشة، لأنني أريد لظلال الأشخاص أن تدخل في المعادلة البصرية. في قلب الكادر.
في النهاية أنا لستُ سينمائياً، ولا أعمل في حقل السينما بمعناها الفعلي، لكنني أشتغل مواد مختلفة بحسب الموضوع. وتحديداً مع هذا الشخص، كنت مضطراً لاستعمال هذا الوسيط - أي الفيلم- لأنه يوصل أكبر قدر من الرسائل التي أريدها. لذا حاولت قدر المستطاع أن ألعب في ميدان البصريات الذي هو قوتي في الفيديو». نسأل صالح بركات عن هذه المغامرة الجديدة في صالة «أجيال»، فيجيبنا: «صلاح فنان متعدد المواهب والتقنيات، هو رسام ملوِنٌ ومصور. عندما يقرر الفنان أن يستعمل الفيديو، أو التجهيز أو وسائط أخرى، فذلك بأهمية أي ممارسة فنية معاصرة أخرى، بل هي تسمح بالذهاب في أبعاد إضافية قد لا يُتيحها التلوين أو الرسم، أحدها عامل الوقت، من هنا الحاجة إلى الفيديو. لهذا مرة أو مرتين في السنة، أسمح لنفسي بعرض تجهيز فيديو، مع أنه لا يُباع أو صعب الاقتناء، كي نحاول أن نحقق للفنانين رسائلهم أيضاً. لأنهم يعبرون عن تعبير معين تجاه مجتمعاتهم وتطلعاتهم تجاه هذه المجتمعات. وهذه نقطة في غاية الأهمية!».

* «حيوات م. سعيد السبع»: حتى 24 آب (أغسطس) ـــ «غاليري أجيال» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/345213