تصعب الكتابة عن حنا مينه من دون التورط عاطفياً مع الرجل. ربما افتراضه بإقامة حفل تأبين خطابي له، ورفضه لذلك وبالتالي لأي مظاهر للعزاء في وصيته، إلى حد الاستغاثة بألا يجلدوا عظامه، هو افتراض يدعو إلى الوقوف برفق إلى جانبه. افتراضه التعرض إلى حفل جلد من الادعاء أو التخليد ـــ وهو أمر اعتادت عليه الأطر السورية المناقبيّة ــ أمر يحتم على قارئه أن يهبّ لإلقاء السلام على الراحل ومن ثمّ المغادرة. لكن لماذا نكتب عن كاتب راح يرجونا ألا نكتب عنهُ بعد وفاتهِ؟ أول ما يخطر في بالنا، أنّ حنا مينه لم يملك صفحة على الفيسبوك، ولم يشارك في مظاهرات الثورة السورية ليقدم لجوءاً بعد شهر واحد ويصير نجماً عبر المنافي فيما الحرب تستمر لسبع سنوات بعد تلك اللحظة. إنّ حنا مينه لم يتسيّد مشهد النخب المنتصرة في بلد صار ركاماً، الرجل لم يحضر معارض كتاب ــ بالقليل من المبالغة ــ نستطيع القول؛ الممنوع فيها أكثر من المسموح. ولذلك، فإنّ في الكتابة عن الرجل نوعاً من إنصاف لصورتهِ ولانتزاعه من المحافل التي غادرها بملء إرادته منذ أن نشر وصيته الشهيرة. لكن لا مناص من أنّ الكتابة عنه بذاتها هي نوعٌ من الاحتفاء. اعذرنا يا حنا على هذا الاحتفاء، في النهاية، هذا حدث وجداني لدى قرائك ومحبيك.
لكن هل الكتابة عن حنا مينه هي محض كتابة عاطفية؟ لقد أتقن الروائي السوري كتابة الرواية الكلاسيكية، بل إنّ روايته بذاتها هي الرواية الكلاسيكية، لم يقترب من التجريب، وبقي حتى النهاية يكتب بصورة واحدة، وبمواضيع متشابهة، في الوقت نفسه. لقد كتب أدباً للناس، يخرج منهم، لا يحاول أدلجتهم أو وضعهم في قوالب سردية تحمل غاية سياسية لحظية، وهذا ما افتقدته الرواية السورية جراء الواقع السياسي والاجتماعي المعقد والمركب، لا سيما في العقود الأخيرة. أي، في عهد الحزب القائد للدولة والمجتمع، وما فرضته هذه المقولة، من تدخلات سياسية في البنى الاجتماعية وعلاقات الناس فيما بينهم. في جلّ أعمالهِ عن النصف الأول من القرن الماضي، تبرير معقول للفرار بأدبهِ من نزعة تسيس كلّ شيء، وهي آفة الرواية السورية في العقود الفائتة. إذ تظهر السياسة في أدب حنا مينه عبر سلوك أبطالهِ، الذين ينزعون إلى التحرر وتحقيق العدالة الاجتماعية. إنّ مقارباته هي مقاربة مواضيع ترتبط بالنزوع الإنساني إلى المساواة، وتحقيق الظفر في وجه الطبيعة والأعراف. يحضر الشيوعي حضور البغية ويحضر المثقف حضور البحار، الكل متكافئ في رواية حنا، باستثناء واحد، إذ يتميز معمار حنا مينه الروائي باعتماده على بطل خارج عن طبيعة الآخرين، يقتدون بهِ أو يهابونه، يتسم بالنبالة والفروسية، ضمن جوقة من الشخصيات التي تلتمس الالتفات إليها. يعتمد في بناء أحداث رواياته على التشويق وإذكاء حسّ المغامرة، ضمن قالب بطولي يدفع فيها الأبطال في وجه الصعاب ثم يخرجهم منها أو يصنع من لحظات انكسارهم لحظات درامية صاخبة. عرف أدب حنا مينه النقد، وأنصفه وكرّسه رائداً للواقعية في الأدب، لذلك يصعب في حالته التسليم بمقولة مستهلكة؛ بأنّ الكاتب يُعرَف قدره في بلادنا بعد موتهِ. لقد تصدر أدب حنا مينه المشهد الأدبي لسنوات طويلة، وعرفت رواياته شاشات السينما والتلفزيون والترجمة، كُرِّم في حياتهِ، وخصصت وزارة الثقافة جائزة سنوية للرواية باسمهِ.
تظهر السياسة في أدبه عبر سلوك أبطالهِ، الذين ينزعون إلى التحرر وتحقيق العدالة


يجرب من يسكن في اللاذقية شعوراً خاصاً وهو يقرأ حنا مينه، فتلك الحارات والشوارع التي يقرأها في صفحات رواياته، تلك الصفحات التي جهد لجعلها مليئة بأشخاص حقيقيين، انتزعهم من الواقع أو بناهم وفق سياقات واقعية بتدخلات إبداعية، تلك الصفحات وأولئك الشخوص، سيجرب من يسكن اللاذقية شعوراً خاصاً وهو يلتقيهم، ينظر نحوهم ويصافحهم. إنّهم من لحم ودم في الشوارع ومن كلمات وعواطف وغرائز في الروايات. المدينة تغيرت كثيراً عن الأجواء التي كتبها حنا مينه، إذا ما قرأ أحدهم رواياته وهو يترصد شوارعه وأحياءه، فيجد نفسه وهو يسير في اللاذقية متقفياً لآثار انمحت، جراء عوامل عدة، أولها عدم الاكتراث بطبيعة هذه المدينة البحرية، والتي للمفارقة، ما عادت تطلّ على البحر سوى من خلال جزء بسيط على امتداد ساحلها. يجد القارئ المتجول في أرجاء الرواية/ المدينة أنّه أمام جغرافيا جعلها أدب حنا إرثاً استحال أنقاضاً وخرائب ضمن سياسات التخريب العمراني والجمالي.
يصعب تقدير الظرف الذي كتب فيه الراحل وصيتهُ، يجوز أنّه يشكو من موقع الأدب في حياتنا أكثر مما يشكو من موقعه نفسه في الأدب. إلا أنّه لا يمكن قراءة الوصية من واقع عيشه في الظل. لقد عرف حنا الأضواء، عاش فيها والتفت عنها. ولذلك، نعتذر يا حنا لأنّنا لم نستطع ألا نكتب عنك، نعتذر لأنّنا لم نستطع تجاهل رحيلك، نعتذر لأنّك ستلقى من يحملك على الأكتاف من محبيك لا من مكتب دفن الموتى، نحبك يا ريّس على الرغم منك، وستودعك اللاذقية.