باريس | في رسالة اعتراف واعتذار باسم الدولة الفرنسية، سلمها الرئيس إيمانويل ماكرون، أول من أمس، إلى أرملة المناضل الشيوعي الجزائري موريس أودان (1932 ـــ 1957)، تم الإقرار رسمياً، وللمرة الأولى، بمسؤولية الدولة الفرنسية عن «خطف واحتجاز وتعذيب وتصفية» هذا المثقف اليساري، الذي يعد من أشهر «مفقودي حرب الجزائر».
أودان بريشة التشكيلي الجزائري مصطفى بوطاجين

رسالة ماكرون لم تكتف بوضع حد لـ 61 سنة من «أكاذيب الدولة» التي سعت للتستّر على ملابسات «الاختفاء القسري» لموريس أودان، بل تضمنت أيضاً ـ وللمرة الأولى ـ اعترافاً رسمياً بأن فرنسا قامت بـ«تقنين وتعميم استعمال التعذيب خلال حرب الجزائر»، وأن تلك الممارسات المقيتة لم تكن مجرد «تجاوزات» اقترفتها حفنة من غلاة الضباط، كما يروج حتى الآن، بل اندرجت ضمن خطة سياسية صادق عليها البرلمان الفرنسي رسمياً، من خلال ما أسماه بـ«منح الصلاحيات الخاصة» للجيش (الفرنسي) في الجزائر، في آذار (مارس) 1956.
وليس مفاجئاً أن يرتبط سقوط تابو التعذيب من الأدبيات الرسمية الفرنسية في قضية عالم الرياضيات والمناضل الشيوعي الجزائري موريس أودان. طوال ستة عقود، ظلت السلطات الفرنسية متشبثة برواية ملفقة تنكر الحقيقة التاريخية المتمثّلة في تعذيب وتصفية أودان، وإخفاء جثته للتستر على الجريمة.
تلك الرواية/ الأكذوبة الرسمية الفرنسية كانت تزعم أن أودان، الذي خُطف من قبل قوات المظليين الفرنسيين من بيته في حي «تيليملي» في العاصمة الجزائرية، في 11 حزيران (يونيو) 1957، تمكن من الفرار، أثناء نقله من معتقل الى آخر، بعد عشرة أيام فقط من اعتقاله. وكان الهدف من تلفيق هذه الرواية، التي لجأ إليها جلاد «معركة الجزائر» الجنرال ماسو، التنصل من مسؤولية السلطات الفرنسية عن الاختفاء القسري لموريس أودان، الذي لم يعاود الظهور بعد فراره المزعوم. وما زالت ظروف اعتقاله وملابساته اغتياله غامضة، رغم مرور 61 سنة على اختفائه.
منذ أن داهم زوار الفجر بيته، واقتادوه معصوب العينين، أمام مرأى زوجته «جوزيت» وأبنائه «ميشال» (كانت آنذاك في سن الثالثة)، و«لويس» (18 شهراً) و«بيار» (شهر واحد)، لم تُعرف عن مصير هذا المناضل الشيوعي الجزائري، الذي يتحدر من عائلة يهودية تونسية الأصل، أي معلومات موثوقة، باستثناء شهادتي اثنين من رفاق نضاله اللذين التقيا به في مركز التعذيب التابع للمظليين الفرنسيين في «الأبيار»، في أعالي مدينة الجزائر، خلال الليلتين الأولى والثالثة لاعتقاله.
قضى المناضل ذبحاً للإيهام بأنّ جبهة التحرير الجزائرية هي التي اقترفت ذلك


الأولى هي شهادة الدكتور جورج حجاج، وهو مناضل شيوعي جزائري اعتُقل ضمن الشبكة السرية نفسها التي كان أودان ينتمي إليها. شهادة أدلى بها حجاج في كتاب «قضية أودان»، الذي أصدره المؤرخ التقدمي الفرنسي بيار فيدال ناكيه، سنة 1959، قائلاً إنّه اجتمع بموريس أودان في غرفة تعذيب واحدة، خلال الليلة الأولى التي تلت اعتقاله: «كانت الساعة حوالى الواحدة فجراً في ليلة الـ 11 الى الـ 12 من يونيو 1957، حين وجدت نفسي في غرفة تعذيب واحدة مع أودان. كان عارياً سوى من ملابسه الداخلية، موثقاً على لوح خشبي في وضع أفقي. وكانت هناك كماشتان موصولتان بأسلاك الكترونية إلى موّلد كهربائي، إحداهما ثُبتت على أذنه اليمنى والأخرى على أصابع رجله اليسرى. لاحقاً نُقلتُ إلى قاعة التمريض لمعالجتي من آثار التعذيب، وظللتُ أسمع من هناك، خلال ساعات طويلة، صيحات أودان تحت التعذيب. صيحات كان جلادوه يحاولون إخمادها بكمامة». أما الشهادة الثانية، فقد أدلى بها الإعلامي والمناضل الشيوعي الكبير هنري علاق، الذي كان رئيس تحرير جريدة «الجزائر- الجمهورية» التي حظرتها السلطات العسكرية الفرنسية، عام 1956، بسبب تأييدها لنضال التحرير الجزائري. بعد ثلاثة أيّام من اعتقال أودان، الذي تكتمت عليه السلطات الاستعمارية، نجا هنري علاق من كمين نصبته له فرقة من المظليين في إحدى الشقق السرية التي كان يتخفى فيها منذ دخوله النضال السري. وكانت ردة فعله الطبيعية الذهاب الى بيت أودان، الذي كان عضواً في لجنة «أصدقاء الجزائر- الجمهورية»، لإخطاره بأن أوامر عسكرية قد صدرت باعتقال أعضاء اللجنة. بذلك وقع علاق في المصيدة التي كان يريد تحذير بقية رفاقه منها.
في شقة أودان، وجد هنري علاق كميناً آخر بانتظاره. اختُطف بدوره من قبل المظليين، وتعرض لتجربة قاسية عانى خلالها من أبشع أنواع التعذيب. تجربة خلّدها في كتابه المدوّي «السؤال» الذي كتبه سراً وهرّبه من المعتقل، ليصدر عن «منشورات منتصف الليل» في باريس، في أيلول (سبتمبر) 1957، مرفقاً بمقدمة بقلم جان بول سارتر جاءت في شكل مرافعة ضد استعمال التعذيب من قبل الجيش الفرنسي في الجزائر.
في «السؤال»، روى هنري علاق كيف أن جلاديه، حين أرادوا كسر شوكته وتخويفه، خلال الليلة الأولى له في المعتقل، لجأوا الى إحضار رفيقه أودان، الذي كانت قد أمضى ثلاثة أيام في المعتقل، كي يرى على ملامحه ما ينتظره من صنوف التعذيب: «كنت جاثياً على ركبتي، بعدما وقعتُ أرضاً من وقع التعذيب، وقال أحد الجلادين: أحضروا عالم الرياضيات الشاب (كان موريس أودان في الخامسة والعشرين) ليصف لصديقه ما ينتظره. رفعتُ بصري بصعوبة، ورأيت وجه موريس شاحباً ومنهكاً، خالياً من أي تعبير. نظر إليّ، وأنا أترنّح على ركبتيّ، ولم يقل سوى عبارة واحدة: c’est dur Henry (إنه أمر شاق يا هنري)، ثم سحبه الجلادون».
في كتابه الذي صدر عام 1959، جمع فيدال ناكيه قرائن وأدلة متعددة ترجح أن أودان قُتل أثناء إحدى جلسات التعذيب والاستنطاق. لكن ذلك لم يمنع القضاء الفرنسي من تبرئة جلاديه، في محاكمة أولى جرت في نيسان (أبريل) 1962، ثم تم حفظ القضية نهائياً من قبل محكمة الاستئناف، في أيلول (سبتمبر) 1966.
بعدها بعام واحد، حصل روبير بادنتير، محامي «لجنة موريس أودان» التي شكلها ائتلاف ضم مئة من المثقفين التقدميين الفرنسيين، على وثيقة عسكرية بالغة الأهمية تمثلت في تقرير سري كتبه عام 1959 الأمين العام لقوات الشرطة في الجزائر، بول تاتغين، وقال فيه إن موريس أودان قُتل خنقاً، خلال إحدى جلسات التعذيب، على يد ملازم في قوات المظليين اسمه أندريه شاربونييه. لكن الكشف عن تلك القضية لم يقنع المحكمة بإعادة فتح التحقيق في قضية أودان.
والأدهى من ذلك أن أندريه شاربونييه مُنح «وسام الشرف» الفرنسي، وواصل مشواره في صفوف الجيش، من دون أي مساءلة. ورفض التعليق على تلك التهم لغاية وفاته عام 1995. وبعدها بخمسة أعوام، نشر ابنه ميشال شاربونييه مقالة في صحيفة «ماريان» زعم فيها أن والده أسرّ له على فراش موته بأنه لم يقتل موريس أودان: «كنتُ مكلفاً بحراسته فعلاً، ثم جاء ضباط أعلى رتبة، واستلموه مني لأنه سجين ذو وضع حساس. ولاحقاً، بعد تصفيته، طُلب مني تلفيق رواية فراره».
سنة 2012، نشرت صحيفة «نوفيل أوبسرتفاتور» اليسارية وثيقة تاريخية تعود الى عام 1957، مكتوبة بخط الكولونيل إيف غودار، الذي كان القائد العسكري لـ«منطقة الجزائر والساحل» في تلك الفترة التي خُطف خلالها أودان. وفقاً لتلك الوثيقة، فإن موريس أودان قُتل خطأ، إذ صدرت أوامر عسكرية بتصفية هنري علاق، لكن الأمر التبس على منفذي الجريمة، فقتلوا موريس أودان بدلاً منه! أما عن ملابسات الجريمة بحد ذاتها، فقد جاءت تلك الوثيقة برواية مغايرة لتلك التي كشفتها وثيقة أمين عام الشرطة الفرنسية في الجزائر عام 1959. إذ زعمت وثيقة الكولونيل غودار أن موريس أودان قُتل بواسطة سكين على يد ملازم في قوات المظليين اسمه جيرار غارسيه، وتم التخلص من جثته في حفرة مهجورة، داخل مزرعة تبعد نحو عشرين كيلومتراً عن مدينة الجزائر.
هذه الرواية أكدها سفاح حرب الجزائر، الجنرال بول أوساريس، في تسجيل صوتي أدلى به، وهو على على فراش الموت، في كانون الأول (ديسمبر) 2013، للصحافي جان – شارل دونيو، معترفاً بأنه هو الذي أمر بتصفية موريس أودان، قائلاً: «قتلناه باستعمال سكين، لإيهام الناس بأن العرب هم من فعلوا ذلك»، في إشارة مبطنة إلى «عقوبة الذبح» التي كانت جبهة التحرير الجزائرية تسلطها على «الخونة»!
لكن أقوال أوساريس تبدو هنا متناقضة، كعادته في مختلف جرائم الحرب التي اقترفها، ومنها قضية تصفية الزعيم الجزائري العربي بن مهيدي. فإذا كان القصد من «ذبح» أودان تلبيس الجريمة، كما زعم، لجبهة التحرير الجزائرية، فلماذا أخفيت جثته، بدلاً من إبرازها واستعمالها للتشهير بالثوار الجزائريين؟
حيال تناقض الروايات حول ظروف تصفية موريس أودان ومصير جثته، قالته أرملته جوزيت أول من أمس، إن الاعتراف الرسمي بمسؤولية الدولة الفرنسية عن الجريمة، على أهميته، لا يعني نهاية القضية بالنسبة لها، إذ قالت إنها ستواصل مساعيها ونضالاتها لغاية كشف الحقيقة كاملة حول ملابسات اغتيال زوجها.

- لينك التسجيل الصوتي للجنرال أوساريس على فراش موته:
https://mobile.francetvinfo.fr/france/video-les-aveux-posthumes-du-general-aussaresses-on-a-tue-audin_500432.html#xtref=acc_dir