أثار «الكتاب» لأمارانث بورسوك (The book ـــ ميت بريس ــــ 2018)، انتباهي لأسباب عديدة، في مقدمتها أنه يرتبط بعملي الأساس الذي من أجله غادرت ألمانيا حيث قضيت نحو ربع قرن، وقدمتُ إلى سوريا تحديداً، لتأسيس «دار نشر قَدمْس». انطلاقاً من معارفي المكتسبة بأحوال الكتاب في عالمنا العربي وتراجع دوره في الحياة الثقافية، بسبب انحطاط الذوق العام في المجالات كافة، وتدهور نوعية المؤلفات المعروضة على «بقايا القراء» في مختلف بلادنا ـــ وهي ظاهرة عالمية كما نقرأ ـــ فإنني لا أخفي دهشتي من نشر هذا المؤلف الثمين. لكن القارئ سيتفق معي بعد قراءته بأن الدهشة غير مسوغة. كما سمحتُ لنفسي بذكر بعض تجاربي بين أسطر هذا العرض.

لقد صبت بحارٌ كثيرة من الحبر عند الحديث عن نهاية الكتاب. قيل إنه انتهى عندما ظهرت الصحف ثم الإذاعة. وقيل الأمر نفسه عندما انتشر التلفزيون، والأمر ذاته يتكرر الآن بعد انتشار الإنترنت. لكن الحقيقة أن الكتاب أفاد من الأخيرة لينتشر على شكل رقمي، يقدم للقارئ طريقة جديدة وإمكانات كثيرة تتفوق على الكتاب الورقي. كمل قيل إن الكتاب الرقمي سيقضي على نظيره الورقي، وهو ما حصل أخيراً في بلاد الغرب عندما تجاوزت مبيعات النسخ الرقمية تلك الورقية. لكن الأمر كان عابراً وعادت الأخيرة لتصدر المبيعات في الغرب. تجربتي مع الكتاب الرقمي، استمرت سنين عديدة بالتعاون مع شركة لبنانية، لكنها لم تستمر بسبب إعراض القارئ العربي عن الإصدارات الرقمية لأسباب ليس هنا مجال ذكرها.
كما كانت لنا في «قَدْمُس» تجربة فريدة مع شركة «صخر» الكويتية عندما اقترح عليّ صاحبها الأخ العزيز محمد الشارخ وضع إصداراتنا على موقع مرتبط بشركته، للقراءة مجاناً. خضنا التجربة معه سنين عديدة وتبين لنا أن مبيعاتنا ازدادت بعد ذلك، إذ تسنى للقارئ العربي الاطلاع على محتوى المؤلفات التي تهمه ومستواها وما إلى ذلك.
ربما يتساءل سائل: ما الكتاب في عصرنا الرقمي؟! هل هو غرض معبأ بين غلافين، أم جهاز محمول يمنحنا مقدرة الدخول إلى مكتبات؟
على أي حال، الكاتبة أمارانث بورسوك وهي شاعرة وفنانة وكاتبة وأستاذة مساعدة في كلية الفنون والعلوم في جامعة واشنطن ومدرِّسة الكتابة الإبداعية والشعر في كلية الفنون الجميلة، تتناول الكتاب من زوايا عديدة، ربما لم تخطر لأحد من قبل. تقول: «وجب النظر إلى الكتاب على أنه موضوع أو غرض object، ومحتوى content وسطح بيني interface وفكرة Idea».

الكتاب الأميبي

بدايات الكتاب كانت حوالى عام 150 ت س، عندما ظهر على النحو القياسي الذي نعرفه، أي صفحات مجلدة. لكن قبل ذلك، ظهرت مكتبات كاملة ومنها العائدة إلى البابليين والآشوريين، وكذلك إلى إيبلا وأوغاريت وغيرها من الحضارات. مكتبات تلك المدن/ الدول، والدول ظهرت لنا على هيئة لوحات طينية كُتبت عليها نصوص. يضاف إلى ذلك اللفائف scrolls، فهل يمكن عد تلك الآثار كتباً، بالمعنى القياسي الذي نعرفه؟! والمصريون أنتجوا أوراق البردى فكتبوا عليها، لكن من دون أن تكون مجلدة.
لذلك، فإن الكاتبة تستعرض الكتاب من زوايا عديدة، وكذلك ارتباط بعضها ببعض، في الشكل والمحتوى ضمن إطار تطوره. وهي بالتالي تربط بين تاريخ الكتاب وفنون الكتاب والكتاب الرقمي.
توضح أن المصطلح «كتاب» يشير عادة إلى الوسيط (medium) والمحتوى، وهو مصطلح لين ومطواع، آخذة في الاعتبار تطوره تاريخياً. وترى الكاتبة أنّ هذا التطور، منذ البدايات حتى الكتاب الرقمي، يوضح على نحو جلي أن شكله المادي تغيّر عبر التاريخ، وهذا يعني ضرورة النظر إلى الأشكال الحالية على أنها استكمال للأشكال السابقة ولا تعني انقطاعاً بينها. فمؤهلات الكاتبة الأكاديمية والفنية الإبداعية منحتها المقدرة على التعامل مع مادة المؤلف من منظورات عديدة. الكتاب ـ وفق المؤلفة ــ وجب وضعه ضمن إطار التقانة دائمة التغير، ما دفع فناني القرنين العشرين والحادي والعشرين إلى النظر إليه من زوايا مختلفة، وبالتالي أجبرونا على إعادة النظر في تعريفنا للكتاب ووضع بديل جديد على نحو دائم.
ما قبل الكتاب القياسي

كون الكاتبة مبدعة فنية، فإن المؤلف يتعامل أيضاً مع أسئلة عديدة ذات صلة منها: ما فن الكتاب؟ وما كتاب الفنان؟ وتتذكر العديد من الكُتَّاب الذين تعاملوا مع هذا الموضوع في القرن الماضي.
كمن سبقها من الفنانين الذين تناولوا الموضوع بالبحث والتعليق، تدرك المؤلفة أزمة الكتاب، وبالتالي أزمة فناني الكتب وكتب الفنانين، ما يدفع لخلق إبداع مثل «الكتاب الأميبي» أو «البكتيري» (bio-art miniature) إلى «الكتاب ذي الحجم الضخم» (ألسن نولز - الكتاب الكبير)، إلى تدمير الكتب (biblioclastic) وما إلى ذلك.
في ما يخص الكتاب الرقمي، تقول الكاتبة إننا بدأنا بالقراءة أفقياً بعدما كنا نقرأ عمودياً. تتطرق في مؤلفها إلى طبيعيته (physicality)، أي إلى:
- شكله: لفيفة، أكورديون، مخطوط.
- مادة الكتاب: بردى، رق، ورق، فحم أو لون مائي طبيعي، وحبر.
- التصنيع: النسخ، الطباعة على خشب، التصميم والطباعة، والطي إلى صفحات وكيفية التجليد.
- مكوناته ومنها الغلاف وصفحة المحتوى وترقيم الصفحات والمسرد.
لا تحدد المؤلفة في المقدمة، موقع الكتاب على خط زمني أنثروبولوجي-تاريخي فحسب، بل تحدد موقعه أيضاً على مسار تجريبي يتصدّر الدور الأساس للكتب في تطور الكائنات البشرية في وقتنا الحالي. يقدم الكتاب بوصفه أحد «الألعاب الأولى التي نجدها في مواجهتنا» (من حيث أن اللعبة توفر لنا مصدراً غير وافٍ يعتمد على أكثر من حاسة من أجل «مغايرة الألوان والأشكال الواضحة… بغية تحريض الرؤية، ومغايرة أنواع الأنسجة بغية تفعيل حاسة اللمس). إضافة إلى أن «الكتاب» يرى أن القراء والكتّاب قد لا يحيدون تماماً عن تلك الأشكال الأولى القوية من التناغم مع تجربة الكتاب؛ كونها لا تتمايز كثيراً من عوالم الانغمار/ الاندماج التطابقي (identifactory immersion/ incorporation) الذي عادة ما يرتبط أكثر مع، ولنقل، الدين والسحر والأم وجسدها.
في ما يخص عقد مقارنة الرقمي بالورقي، عمدت الكاتبة إلى دراسة أصول كلمتَيْ «صفحة» و«شاشة» وتبين لها أنهما ترتبطان في الواقع بالعديد من الصلات الكامنة بعمق في اسميهما، رغم التعارض الظاهري بينهما. لكن الاكتشاف الأكبر هو معرفة مدى الطابع الأدائي الذي يتسم به فعل القراءة. إذ أدركت أن القارئ هو من يصوغ الكتاب، لكن مدى ظهور معنى المصطلح لحظة لقائنا به مادياً؛ لم يتضح لها تماماً إلى أن رأت جسدها على الشاشة تحمل كتاباً مفتوحاً وتقرأ نصاً يظل ثابتاً فقط طالما ظلت تحمل صفحاته بين يديها. لقد غيَّرت رؤيتها لتفاعل القراء الآخرين مع كتابها Between Page and Screen أسلوبَ مقاربتها للكتابة تغييراً جذرياً، وصارت تكتب آخذة في الاعتبار جذب القارئ والرغبة في وضع في الواجهة الخاصيات المادية للسطح البيني الذي تمثله القراءة، التي غالباً ما تعتبر أمراً بديهياً.
برأي الكاتبة، ينبغي للـ «المعرفة الأساس» لكتابٍ ما، أن تفسر تفاعل الشكل والمضمون الذي يحصل في كل مرة نقرأ فيها؛ سواء كنا ننظر إلى كتاب للصلوات الخاصة بكل ساعة، يعود إلى القرن الخامس عشر، أو إلى كتاب ذي غلاف ورقي مصنوع من عجينة الورق. لذلك، فكي نفهم كتاباً ما، علينا أن نضع في الحسبان أنه كان قد اتخذ أشكالاً عديدة قبل ظهور المخطوطة التي تُعد مألوفة لنا، وأن علاقتنا به قد جرى تكييفها وتسليعها، لدرجة أننا لم نعد نرى فيه أي سمة مادية على الإطلاق.

آلة قراءة الكتب

وكي نعرف ماهية الكتب وندرك إلى أين يتجه مسارها، علينا ــ دوماً وفق الكاتبة ــ العودة لرؤية جسد الكتاب ثانية، ونفكر في الأساليب التي تظل بها حتى السطوح البينية الخاصة بالقراءة الرقمية، ماديةً ومجسّدةً وتقدم أداء؛ أي إنها تصوغنا بقدر ما نصوغها.
ما مقدار الدقة التي يمكن أن نتوصل إليها لدى وضع تعريف واف عملياً للكتاب؟ هل يمكن ذلك مثلاً من خلال التمييز المؤقت بين الكتاب، بما هو فكرة مجردة، ونسخ من كتاب محدد بما هي موضوعات متفردة في العالم، و/أو من خلال فهرسة بعض خصائص الكتاب أو وظائفه النموذجية (ولنقل، تخزيناً جيداً للمعلومات واسترجاعاً سهلاً للمعلومات)، و/أو عن طريق تقديم عرض موجز للكيفية التي تساعد بها منظومةُ الكتاب الظاهراتية/ العلائقية/ المعرفية/ الفلسفية/ وتلك الخاصة بعلم الاجتماع، في صياغة «طبيعة الفكر نفسه» (بما أن الكتاب يحرّض ويركب ويقدم طرقاً محددة للتعبير/ التفكير البشري، وبما أن بعض الأشكال الملحة للتعبير/ التفكير البشري تعيد تركيب إمكانيات الكتاب)؟ هل يمكن إعطاء القول الفصل حول الكيفية التي يصوِّر بها «الكتاب» الكتاب؟
تقول الكاتبة: أولاً وقبل أي شيء، تسلِّم هذه الدراسة بالطبيعة الزئبقية لكلمة كتاب، التي يستخدمها معظمنا لوصف الموضوع والمضمون. عندما يسأل أحدهم إن كان قد قرأ كتاباً ما، فإننا لا نعني نسخة بعينها، بل النص نفسه. عملية تقرير ماهية الكتاب، استغرقت من الكاتبة أربعة فصول. تتبّعتْ هذه العملية سردية فضفاضة تتضمن: أولاً، الغوص في تاريخ تغيُّر أشكال الكتاب السابقة لظهور المخطوطة. ثانياً، دراسة الأساليب التي فصلت بها عمليةُ مكننة الكتاب بين الشكل والمضمون. ثالثاً، سرد الأساليب التي أشعلَ بها هذا التحولُ ثورة في صفوف الشعراء والفنانين في القرن العشرين، الذين بدأوا ينفذون أعمالاً فنية تأخذ شكل كتاب. أعمال جذبت الانتباه إلى الخصائص المادية للكتاب، التي تشير إلى وظيفته، واستغلت تلك الخصائص. رابعاً، الالتفات إلى الكيفية التي جعلت بها عمليةُ الترقيم الجماهيرية، جسدَ الكتاب يختفي ويعاود الظهور في ذات الوقت، عن طريق إسباغ معنى حرفياً على مفهوم السطح البيني للقراءة (كانت الكتب دائماً سطوحاً بينية، لكننا تكيفنا معها وتكيّفت هي معنا بسرعة، مع أننا ننسى هذه الحقيقة). الموضوع والمضمون والفكرة والسطح البيني: هذه هي البنية ذات الفصول الأربعة التي قدم بها «الكتاب».
تجاهل الإمكانات المتميزة لوسائل الإعلام الرقمية في عملية قراءة الكتاب


تذكّر الكاتبة بقول ديك هغنز، الناشر والعضو في «حركة تجمّع الفنانين» Fluxus: «يمكن للأعمال الفنية التي تأخذ شكل كتاب أن تكون موسيقى أو تصويراً ضوئياً أو فناً تصويرياً أو أدباً يعتمد على وسائل إعلام. تجربة قراءة العمل، رؤيته، تأطيره؛ هذا ما يؤكده الفنان عندما يبدعه. تعجبني الطريقة التي يذكرنا بها هذا التعريف بأن الكتاب هو مناسبة، هو تجربة، هو أداء، وليس شيئاً جامداً. إنه ليس مجرد نص يمنحه المؤلف للقارئ (وربما كان كذلك في كثير من الأحيان)».
ننهي عرضنا هذا المؤلف الإبداعي الفذ بذكر رأي المؤلفة في الكتب الرقمية. إذ تقول: «معظم ناشري الكتب الإلكترونية حالياً يرون الكتاب بهذه الصورة؛ بوصفه «مضموناً» ينبغي تقديمه من خلال أجهزة، لا تجربة ينبغي للقارئ خوضها. وهم بذلك يتخلون عن التصميم لصالح النص الذي يمكن أن ينساب على نحو سهل المنال إلى أي سطح بيني، ويتجاهلون الإمكانات المتميزة لوسائل الإعلام الرقمية (كالصوت والرسوم المتحركة واللمسة وتحديد الموقع الجغرافي، التي يمكن استخدامها جميعاً لخلق تجارب قراءة ديناميكية). وإذا كان «الكتاب» يقدم نوعاً ما من «الدفع»، فهو يدفع إلى اهتمام مركّز بما يمكن لهذه الوسيلة القيام بها، وكيف يمكن لها صياغة رواية القصص. في الفصل الأخير، أقدم بعض مصممي برامج الهاتف النقال الذين تبنوا ميزات الأجهزة اللوحية لخلق تجارب قراءة جميلة وجديدة بحق- النوع الذي أتطلع لرؤية المزيد منه».