في منطقة «الهري» في شمال لبنان، يفتتح اليوم متحفٌ تأريخي رائدٌ جامع تحت مسمّى «نابو» (Nabu)؛ ويأتي المعرض الأوّل في المتحف تحت مسمّى «قرون من الإبداع» يستمر حتى الربيع المقبل. «نابو» بحسب الأساطير هو إله «الحكمة والكتابة وحامي الأدباء والمنسوخات» لشعوب بلاد ما بين النهرين والسومريين (وكذلك الفينيقيين ولو بدرجة أقل).
مبنى المتحف في منطقة الهري في شمال لبنان

من هنا، كان بديهياً أن تكون التسمية جزءاً من الفكرة الأساسية. يمتد المتحف على 1500 متر مربع، مقدّماً في معرضه الحالي «قرون من الإبداع» مقتنيات أثرية تعود إلى أكثر من ستة آلاف عام تتنوع بين اللوحات، والتماثيل، والرقميات المسمارية التي يعود بعضها إلى أوائل العصرين البرونزي والحديدي، وإلى الحقبات الرومانية واليونانية والبيزنطية والإسلامية، فضلاً عن بعض المخطوطات النادرة والكتب التي تمتد من عمق التاريخ وصولاً إلى عصرنا الحديث والمعاصر مع أعمال فنانين لبنانيين وعرب منهم جبران خليل جبران، وصليبا دويهي، وإيفيت أشقر، وأمين الباشا، ورفيق شرف، وفاتح المدرّس، وأحمد المعلا، ودوروثي سلهب، وشاكر حسن آل سعيد، ولؤي كيالي، وسمير صايغ وغيرهم.
مغامرون هم الباحث بدر الحاج والجيوكيميائي الدكتور فداء جديد ومدير مؤسسة «الدولية للمعلومات» جواد عدره؛ لاشك في ذلك. أن تقرر بناء متحفٍ في أوقاتٍ «عصيبة» كالتي تمر بها الحضارة العربية، لهو مغامرةٌ شجاعة من نوعٍ خاص. إنها محاولة حماية «تراث» يسعى الجميع لتحويله إلى «مصدر» إفادة شخصية.


إنها كمحاولة جمع آثارٍ لحضارة انتهت، أو كادت تنتهي: «حضارات الشرق لا تنتهي، بل بالعكس هي تظهر في حضارات الغرب. مثلاً يمكنك أن تراها في اسم المتحف «نابو». الناس لا تعرف من هو نابو. هو إله الحكمة والكتابة عند السومريين والفينيقيين. ولتأكيد الفكرة، يقبع تمثال نابو أمام مكتبة الكونغرس في واشنطن؛ لقد اكتشفوه هناك ونحن لم نكتشفه بعد. اليوم قررنا أن نكتشفه في قرية صغيرة في الشمال (يقصد قرية الهري). هناك رقمية (يقصد حجرية أثرية) تم ذكره فيها مصنوعة من الصلصال، وفيها كتابات عنه وحوله، وهي جزء من المعرض وستكون من الموجودات الدائمة كون ذُكر فيها اسم هيكل كان يعبد فيه هذا الإله» يعلق عدره الذي أنقذ قبل مدةٍ آثاراً فلسطينية من الضياع بعدما كان «اللص» وزير الحرب الصهيوني موشيه دايان (1915 ــ 1981) قد اشتراها، وقدمها عدره في معرض استضافه الأونيسكو (31/10/2015). إذا هذه هي التسمية، لكن ماذا عن اختيار المكان، فالهري قريةٌ غير معروفة لكثيرين؟ يجيب عدره: «لأنه للمصادفة أنّ لدينا أرضاً هناك أنا وشركائي». ويشير بابتسامة إلى بعدٍ شخصي ولو صغير، وبعدٍ عامٍ مهم للغاية: «ليس لأني ولدت في الكورة أو تعلمت السباحة في الهري.
أحببنا أن نقيم شيئاً مميزاً على هذا البحر الذي يمتد من فلسطين إلى سوريا». إذاً، فالموضوع هو امتداد ثقافي لتراثٍ يشمل كل المنطقة. هنا يطرح عدره نقطة أساسية لا للبحث فحسب، بل أيضاً للنقاش، إذ تأتي هذه «المعروضات» بمثابة «وثائق» مؤرّخة لحياة سكان المنطقة ككل، كالرُقَم (رقمية هي قطعة خزفية صغيرة مكتوب عليها) المسمارية السومرية والبابلية والمسلات الفينيقية المصنوعة من حجر رملي. هنا يطرح عدره الإشكالية: «أليس من المهم الحفاظ على هذه الآثار ونقاش تأثيرها الحضاري الدائم وعرضها بمثابة «مؤرخ» وتأريخ لحضارة هذه البلاد وأفكارها وآرائها؟».
مقتنيات تعود إلى أكثر من ستة آلاف عام ولوحات، وتماثيل، وأيقونات يعود بعضها إلى أوائل العصرين البرونزي والحديدي

يقدّم المتحف «مساحةً» واسعة لأنشطة ثقافية متنوعة. بالإضافة إلى معارضه وعروضه التي تتغير دورياً (بحسب المعرض المقام)، هو يشمل مكتبةً تضم عدداً كبيراً من الكتب والمخطوطات النادرة التي يشير عدره إلى أن بعضها يعود إلى بدايات الطباعة في بلادنا (ككتاب «ميزان الزمان» الذي طُبع في ضهور الشوير والنسخة الأولى من كتاب «النبي» لجبران بالعربية وبالإنكليزية). إلى جانب إلى هذا الجهد، يسعى المتحف إلى إيجاد مساحة للمبدعين العرب والأجانب الذي يمكنهم استخدام المكان (وجواره) للإبداع وللتلاقح الفكري.

شريكا الحلم
لا يعمل عدره وحيداً، إذ دائماً يشاركه في العمل كما في الحلم صديقاه الدائمان فداء جديد وبدر الحاج. الحاج وجديد كانا موجودين منذ بداية المشروع، كما غيره من المشاريع الثقافية الكبرى. يحضر الاثنان ليس كمجرد «باحثين» يفهمان في الثقافة وحفظ التراث فحسب، بل أيضاً كحماةٍ للتراث. فـ «للثقافة دور أساسي في استنهاض المجتمع أو تدميره.


الثقافة السائدة تافهة واستهلاكية؛ كما أنّ هناك ثقافات طائفية وفناً طائفياً، فماذا تتأمل منها؟ لذلك، فإن دورنا أن نسبح عكس هذا التيار» يخبرنا الحاج بوضوح حول طبيعة عملهما، متابعاً: «نحن نعمل لأن هذه آثار وأعمال فنية من هذه البلاد نعرضها بشكل حضاري. إن على هذه الأرض ما يستحق الحياة كما قال محمود درويش بالرغم من كل المآسي والمصاعب. سنعرض ما قدمت هذه الأرض من حضارات وثقافات حتى الثقافات المعاصرة منها ما هو جيد. إذا نال هذا العمل اهتمام 5% من الناس، فنحن سنكسب. وهناك برامج متواصلة على مدى السنوات القادمة، إلى جانب محاضرات وأفلام وثائقية». ولأن المعروضات ليست فقط من العصور الغابرة، ولأن هناك العديد من اللوحات لفنانين محليين وعرب، يأتي السؤال: كيف تم اختيار هؤلاء دون غيرهم؟ «لأنهم نماذج من أبرز الفنانين في سوريا والعراق وفلسطين ولبنان ومصر. أنا أعرف أعمال فناني المنطقة، وأميّز بين من هو مبدع ومن هو غير ذلك.
يضم لوحات لرواد المحترف التشكيلي اللبناني والعربي

على هذا الأساس، تم اختيار الفنانين الذين أسسوا وأثروا المحترف التشكيلي العربي في السنوات الخمسين الأخيرة» يشير الحاج، مؤكداً أنهم حاولوا أكثر الاقتراب في المعرض الحالي (قرون من الإبداع) من فكرة «الفن التجريدي». ونظراً إلى حجم واتساع المعروضات التي يحكي لنا عنه الحاج وفداء جديد وتصل إلى الآلاف من المقتنيات والمئات من اللوحات (حتى اللحظة)، فهل يكون المشروع في لحظةٍ ما بديلاً من المتحف الوطني؟ يجيب الحاج بسرعة: «ليس هناك بديل من المتحف الوطني، هي فقط مساهمة لإغناء التراث والثقافة. المتحف الوطني يختص بلبنان فقط، نحن نعمل على إطار وصعيد أوسع لناحية المنطقة ككل».



قرون من الإبداع
يقدم معرض «قرون من الإبداع» روحاً جديدة قديمة للعمل الثقافي العام. إذ إنه يعرض الكثير من الأعمال الفنية المصنوعة من البرونز والزجاج والفخّار، فيحضر مثلاً تمثال روماني للإلهة أفروديت إلهة الجمال، وقارورة زجاجية رومانية نادرة على شكل عنقود من العنب لا يزال يبدو كما لو أنه صنع البارحة. تحضر كذلك الآثار الفينيقية ضمن التماثيل الصغيرة كتمثال الإله بعل أو القطع الفخارية والحجرية الصغيرة التي اكتشفت في تل براك ومناطق من بلاد ما بين النهرين.

لوحة للعرافي اسماعيل فتاح الترك

ذلك كله لا يكفي بالنسبة إلى أصحاب المعرض والمتحف، إذ يريدون أن يشيروا بشكلٍ حرفي إلى امتداد الثقافة منذ تلك العصور وصولاً إلى عصرنا الحالي. هكذا، جُمعت لوحات ومنحوتات لفنانين عرب معاصرين كالأعمال الجميلة لدوروثي سلهب التي عملت على أوان خزفية تحت حرارة عالية، والمبدع العراقي ضياء العزاوي إضافة الى الراحلين إسماعيل فتاح الترك، وشاكر حسن آل سعيد وضياء العزاوي، فيما تظهر اللبنانية كاتيا طرابلسي من خلال منحوتاتها «الهويات الدائمة». الأخيرة مأخوذة عن فكرة الصواريخ، فـ «الفن يمكن أن يولد بداخلنا حياة خاصة ورؤية أكثر خصوصية من خلال التماثيل التي تنحتها على الصواريخ/ القذائف هذه». لا يمكن كذلك تجاهل أعمال صليبا دويهي الخاصة، حيث يضم المتحف أعمالاً من مراحل متعددة من حياة الفنان الراحل، سواء تلك التي استخدم فيها الفحم أو الرصاص أو الانطباعية، أو حتى التجريدية المطلقة. الأمر نفسه ينسحب على أعمال هيلين الخال، وايفيت أشقر، والمعلم المصري آدم حنين الذي يختص بالرسم على ورق البردى، معيداً إيانا إلى التقاليد المصرية القديمة وتراثها الخاص، وصولاً إلى إبداعات أمين الباشا المرسومة بالألوان المائية.

* افتتاح «متحف نابو»: 18:00 مساء اليوم ـــ الهري (شمال لبنان) ـــ للاستعلام: 01/983008 nabumuseum.com -


محمود العبيدي صانع الدهشة
محمود العبيدي المهندس والمبدع العراقي يظهر في المعرض لا بصفته نحاتاً/ مصمماً فحسب بل أيضاً كمهندس إبداعي للمشروع. إذ يعرض في المتحف (فوق المتحف وعلى سقفه تحديداً) أحد تماثيله الخاصة (تسمّى «فورد 71») الذي يمثّل الثور الآشوري المجنّح المعروف والموضوع على «عربة» عسكرية أميركية/ غربية.

تمثال من جنوب الجزيرة العربية

إنها رسالة خاصةٌ للفنان العراقي حول الآثار العراقية المنهوبة والمسروقة التي «بيعت» لأكثر من مرة بكل وقاحة في الغرب. العبيدي القادم من مدينة كركوك والمقيم حالياً في مدينة تورنتو الكندية، يشير إلى أنهم صمموا «نابو» المتحف على شكلٍ «مفتوح»، ومع إضافة السطح والملجأ (حيث ستوجد المكتبة).


نابو
تأتي تسمية المتحف لتحمل أبعاداً تاريخية وثقافية وحضارية كبيرة. يعتبر نابو Nabu إله الحكمة والكتابة، هو ابن الإله مردوخ كبير آلهة بلاد/ شعوب ما بين النهرين؛ وتحديداً البابليين فيما يشير البعض إلى أنه كان وزيره الأول. كان أصلاً إلهاً لأبناء سام الغربيين، ثم عرفه الأموريون في بلاد ما بين النهرين.

«أفروديت وايروس» من الحقبة الرومانية _ القرنان الاول والثاني بعد الميلاد

أول معبدٍ عرف له كان في بورسيبا (بلاد ما بين النهرين)، ثم انتقل إلى بابل ليكون إلى جوار والده/ سيده «مردوخ». عرف أوّل الأمر باسم «نابيوم»، وكانت تكتب بشكل «مقطّع» أي «ناي بوم» (في العصر الأكادي)، وقد مر ذكره في التوراة (العهد القديم) باسم «نيبو» (Nebo)، وفي الآرامية (Nbw). أصل التسمية تأتي من كلمة «منادي» باللغة الآرامية وكذلك اللغة الآشورية. ويشير بعض الباحثين إلى أنّ كلمة «نبو» (نابو) تعني المذيع/ المبلّغ والمعلن بمعنى «الذي يدعو الناس» ومن هنا لاحقاً أخذت كلمة «نبي».
على جانب آخر، فإن شركة «دي سي» للكوميكس خلدت الاسم من خلال شخصية تدعى «الدكتور قدر» (Dr. Fate)، حيث يعيش نابو (إله الحكمة) داخل «خوذة» تجعل من يرتديها يمتلك «قدراتٍ خارقة» و«حكمة لا متناهية». ولا تزال الشخصية تستمر في قصص الكوميكس الرئيسية في الشركة حتى اللحظة.


حماة التراث
هي ليست المرة الأولى التي يقرر فيها بدر الحاج وفداء جديد وجواد عدره حماية تراث المنطقة ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة. فهم كانوا قد «أنقذوا» آثاراً فلسطينية من الضياع في المجهول، وقتما أحضروها من بريطانيا وأميركا من مزادات حيث كان «اللص» وزير الحربية الصهيوني موشيه دايان قد أهداها لأصدقائه (كما لو أنّه يملكها). يومها، أصروا على إحضار تلك الآثار، وأقاموا معرضاً كبيراً لها في الأونسكو وأعلنوا أنهم سيعيدونها إلى فلسطين حال حريتها، وأنها للشعب الفلسطيني وليست لأي شخص آخر، مؤكدين أن الحفاظ على التراث هو مهمة جامعة.

نسر من الحقبة البيزنطية

اليوم جواد عدره مشغولٌ بالمتحف وكل تفاصيله، المتحف الذي خاض لأجله صراعاً طويلاً، إذ رفعت أكثر من عشرين قضية أمام المحاكم على عدره والمشروع ككل بهدف إيقافه. لاحقاً، هو ينظر بإمعان إلى «المقطورة القاطرة» التي تقف أمام المتحف والتي هي جزءٌ من قطار كان يمر في منطقة الشمال ولكنه توقف إبان الحرب الأهلية. أعاد «ترميم» القاطرة ونقلها ليضعها أمام المتحف مصراً حتى على ترميم السكة التي تمر أمام المتحف. يقول عنها عدره بتحدٍّ: «هو تحدٍّ آخر لي، أن أجعل هذا القطار يعود للعمل، ربما سيكلّفني الأمر الكثير، لكنه أمرٌ جديرٌ بالصراع لأجله». ويشير إلى أنه ليس «حامياً للتراث» ولكنه يحاول: «يجب أن يحافظ أحدهم عليها كي يرى الصغار ماذا مر بهذا العالم، وأن يتعودوا على رؤية الأشياء الجيدة والجميلة».


ضياء العزاوي صديق الحلم
يأتي المعلم العراقي المعروف ضياء العزاوي إلى المشروع لا بصفته «مثقفاً» وخبيراً مبدعاً فحسب، بل «كمتطوع» كما يخبرنا جواد عدره، إذ لم يتقاض العزاوي والعبيدي أي مبلغٍ من المال. يشرح العزاوي كيف وصل إلى المتحف: «طرح الفكرة الأخ جواد لاستغلال الأرض التي يمتلكونها لتحويلها الى متحف.

الامفورة من الحقبة الإسلامية

هو كان قد كلف أحد المهندسين المدنيين بإنجاز بناء عادي؛ أي مجرد مكعب. ثم طلب مني أن أتدخل في تصميم المبنى الذي لم يكن له أي هوية. خرجت بفكرة ثم تعاونت مع الصديق المبدع الفنان محمود العبيدي الذي خاض تجربة جميلة في المنطق المعماري. كان هدفنا منذ البداية تحويل هذا المبنى إلى شيء متميز لا يوجد شيء مقارب له في الشرق الاوسط ككل». ماذا عن تغليف المكان بالحديد، فلدى زيارة المكان يمكن ملاحظة أن المبنى بأكمله مغطى بطبقة خاصة من الحديد لا يمكن أن يأكلها الصدأ (الفولاذ المقاوم للصدأ)؟ يجيب العزاوي: «الفكرة كانت في البداية العمل بالحجر ثم بالاسمنت لأن البناء الأولي هو عبارة عن اسمنت. طرح محمود فكرة تغليفه بالحديد كشيء يعطيه صفة أكثر تميزاً مما هو حوله وسيتعتق مع الوقت لقربه من البحر. من هنا كان خيار تلك المادة المعدنية ذات اللون المعتّق». يعرض العزاوي العديد من إبداعاته داخل المعرض، أبرزها واجهة متحف «نابو» العبارة عن «لوحة» بالألوان للعزاوي.

عمل لجبران خليل جبران

لكن لأن المتحف بأكمله مصمم بلونٍ واحد، تم تعديلها لتصبح «نافرة». يحضر العزاوي كذلك عبر تمثال الحصان المصاب بالعديد من السهام والذي يشير إلى قصته: «هذا العمل قمت به بعد الأحداث التي حصلت في العراق عام 2003 واغتيال 450 متخصصاً ومثقفاً من قبل رصاص مجهول. الاغتيال تم لتصفية أناس متخصصين لا علاقة لهم بالطائفة والسياسة. قالوا إنه رصاص مجهول لكن المعروف عندنا هو الإشارة إلى الموساد. هذا نفس ما حصل في أميركا اللاتينية أي تصفية الأشخاص المثقفين. أنا قمت بهذا العمل كردة فعل على ما حصل. الحصان إذا رأيته مصاباً بالأسهم الكثيرة هو مثل حصان الحسين. لكن الحصان يأتي على دبابة أميركية».