لا شك في أنّه أحد أكثر التشكيليين اللبنانيين غزارة. في موازاة معارضه وافتتاح «متحف جميل ملاعب» في مسقط رأسه في بيصور قبل ثلاث سنوات، ربى أجيالاً من طلاب الفنون التشكيلية في الجامعة اللبنانية. وفي معرضه الجديد الذي تحتضنه «غاليري جانين ربيز»، سيأخذنا في رحلة بصرية إلى مهد الحضارات والأديان. سيخضعها لنظرته الجمالية، وأسلوبه الهندسي، ليقدم 32 لوحة تروي الحكايا اليومية والتفاصيل الحياتية للمدينة المقدسة.صعبٌ هو النقاش مع جميل ملاعب (1948). إذ لا يتحدّث عن اللوحات والألوان والرسم فحسب، هو يأخذك في رحلةٍ عبر أفكاره الخاصة، وصولاً إلى تفاصيل ما يريد أن يراه في لوحاته قبل أن يرسمها حتّى. الفنان الذي يقيم معرضه الجديد «القدس» في صالة «جانين ربيز»، يحب أن يرسم المدن. لذلك لم يكن غريباً البتة اختياره للمدينة الفلسطينية الأشهر لأن تكون عنواناً وفكرةً لمعرضه. إنه إذاً رسامٌ للمدن كما يقدّم نفسه: «أنا رسام مدن من الجزائر والمغرب ومصر والعراق إلى نيويورك والمكسيك والهند وموسكو والصين. عندي شغف في رسم المدن، فالمدينة هي عالم لأناس يعيشون مع بعضهم ويشكلون مدينة جميلة ومتفاهمة. قبل حوالى 100 سنة، كان للناس منازل جميلة. لم تكن تجد منزلاً عربياً غير جميل، حتى الخيمة جميلة والبيت الطيني جميل».
«القدس الأم» (زيت على كانفاس ــــ 200 × 155 سنتم)

يتشعّب النقاش أكثر حول اللوحات التي يبلغ عددها 32 تتناول موضوعاً واحداً هو المدينة المقدّسة. يرسم ملاعب المدينة كما يراها، هو لم يزرها سابقاً مع أنه كان يتمنّى ذلك. كيف استطاع إذاً أن يكون «دقيقاً» و«صادقاً» في رسم المدينة؟ أم أنه فضّل أن يرسمها كما يتخيّلها؟ يجيبنا: «كلا لا يمكنني ذلك (يقصد زيارة القدس). ليست كل الصور من بنات الخيال، لكني حاولت أن أرسم من خيالي ورؤيتي والواني. رسمت العائلة المقدسة والهالة حول المرأة التي تشبه المرأة. هذه هي القدس كما أراها». يأتي هنا السؤال بديهياً: لماذا القدس؟ لماذا في هذا التوقيت بالذات؟ «في القدس كل شيء. القدس هي كنيسة المهد والمسجد الاقصى؛ لا يوجد في فلسطين شيء كالقدس. فالقدس بالنسبة إلى فلسطين كالأهرام بالنسبة إلى مصر، وبعلبك بالنسبة إلى لبنان. أما المدن الباقية فتصبح تفاصيل». أما بالنسبة إلى التوقيت؛ فيجيب بسرعةٍ وبدقة: «هل هناك موضوعٌ أهم منها؟».
ولأن للقدس تلك المكانة التي يتحدّث عنها المعلم اللبناني، يبدو أنه يخوض صراعاً خاصاً، كيف يرسم المدينة المقدسة ويعطيها حقّها. كيف يرسمها وتكون تلك اللوحات على «مستوى» المدينة؟ يجيب بشغف: «إن أول تحدٍّ لي هو كيف أرسم لوحة على مستوى القدس. هذه مسؤولية. سينتقدني الناس إذا لم تكن جيدة ويقولون إن هناك كثيرين رسموا القدس في الماضي، وهناك لوحات أفضل منها. هذا تحد. أنا لست ضامناً للنجاح. أنا مغامر. أمشي في بحر اسمه الحضارة العربية، وهنا تحديداً ضمن عنوان اسمه القدس. أنا أرسم توقيعاً صغيراً على مدينة عمرها آلاف السنين».

«القدس 43» (زيت على كانفاس ــــ 60 × 50 سنتم ــ 2018)

تتنوّع موضوعات اللوحات، فنجد الفتاة المقدسية التي تجسّد رؤيةً خاصة للفنان اللبناني، ربما يقصد من خلالها أن تكون الفتاة أكثر من مجرد فتاةٍ مقدسية، أن تصبح «المدينة» وأن تتقمصها. وهذا يبدو واضحاً من خلال تكليل المرأة في اللوحة بما يشبه القبّة. أضف إلى ذلك اللون الأبيض الذي يطغى على اللوحة، مما يعطيها نوعاً من النقاء المقصود وهو يشير إليه قائلاً: «اللون الأبيض أخذته من المغرب وهو يختصر كل الألوان. هناك ألوانٌ أخرى موجودة في اللوحة، لكن الأبيض هو الطاغي». أما القبة، فيشير إلى أنّها تجسد حكمةً ما: «حكمة هذه القبة الموجودة في اللوحة أنها تعبّر عن تلاقي الأرض بالسماء». لكن ذلك قد لا يكون أجمل ما في المعرض، بل هناك تلك اللوحات الكبيرة (بعضها يتعدى المتر ارتفاعاً) التي تشعر أنك أمام فسيفساء حجرية لا مجرّد لوحة بالألوان حين تراها. في هذه اللوحات الكبيرة (كلوحة «الانتفاضة» مثلاً. يشير ملاعب هنا إلى أنّه عندما تنجح في اللوحات الكبيرة، تصبح البقية سهلةً للغاية) نجد مدينة القدس تتوسط اللوحة كما لو أنها قلبٌ ينبض، قلبٌ حجريٌ ينبض. وعن هذا يقول ملاعب: «القبة (يقصد مسجد قبة الصخرة الرمز المقدسي) في المنتصف لأنها الأساس، فأنت عندما تتصور في جواز السفر تكون صورتك في المنتصف لأنها اسمك وتعريفك». يضاف إلى كل هذا استخدام الألوان بشكلٍ حميم يعطي شعوراً بروح المدينة بأكملها. يشير ملاعب إلى أنَّ اللوحات «فيها كل الألوان، لكن الترابي في إحداها هو اللون الطاغي. فيها جزء من الهندسة التشكيلية الزخرفية. يجب أن تضع في اللوحة عناصر تجعل الناظر إليها يشعر بالفرح من دون تفكير. قد لا يفهمها لكنها تفرحه، فاللوحة تحسّ. هي فن تحسه لا تفهمه كالوردة تحس معناها».
يجب أن تضع في اللوحة عناصر تجعل الناظر إليها يشعر بالفرح من دون تفكير (ج. م)


في المعرض كذلك لوحاتٌ طولية (أي تمتد طولياً) فيها رسومات متشابكة تشبه تلك التي رسمها الإنسان منذ بدء الخليقة على الجدران في الكهوف، تروي قصصاً من الحكايا اليومية والتفاصيل الحياتية، فلماذا اختار أن يشرك ملاعب تلك «المعلقات» (كما يسميها) في معرض «القدس»؟ يجيب: «هي تجربة بدأتها سنة 1975. عندي معرض هو عبارة عن معلقات لكن هذه التي أعرضها هنا هي أكبرها. رسمتها عن حياة الناس في الجبل والفلاحين والمرأة والأكل والشرب والمزارعين ونساء الأعراس والمآتم لأن هذا الفكر الذي أتى معنا من الحضارات القديمة التي سكنت بلادنا كالحضارة السومرية والفرعونية. وهذه التي تراها هنا مرسومة خصيصاً للقدس؛ وهي تصوّر حياة الناس في المدينة».

* «القدس» لجميل ملاعب: حتى 2 تشرين الثاني (نوفمبر) ــــ غاليري «جانين ربيز» (الروشة) ـــ للاستعلام: 01/868290



منارة قمرية
قبة من علاقة الإنسان بالسماء. دائرة أو نصف دائرة لانعكاس شمس الحضارة. معادلة هندسية لعقيدة، لسؤال، لبداية، لعلامة استفهام كونية، لجمالية شكلية، لخطوط مستقيمة أو منحنية أو متقاطعة تقاطع الأرض وتألق الشجر والثمر والتراب وفصول الطبيعة وتجانسها مع نسج خيال الإنسان الذي يكاد أن يطير فرحاً وأملاً وإيماناً.
أنت قبلة الذين يذهبون إلى خلف الكلام وخلف المعنى.
أنت اللون الذي لا يصمت، والصوت الذي لا ينقطع عن همس اللحن في أقواس قناطرك ومآذنك وكنائسك، وفي ترابط حجر بنيانك مع التاريخ، مع الصراع، مع حروب البقاء، مع البحث لامتلاك الحقيقة الحرة.
أنت القدس، قبلة الجمال، مدينة الصلاة والخلاص، شعلة الحق الذي لا يموت.
أنت الأرض، الصخرة التي لا يمكن أن تزول مهما طالت الحروب.
أنت القدس، مدينة الحضارات وشعلة ومنارة الحرية.
أنت حافظة القيم، وملهمة الشعر واللون، وحافظة لضمير الكلام، وأنت الصلاة التي ما بعدها صلاة.
أنت قدس الأقداس، وصليب التضحية، وكنيسة القيامة التي لا تزال قائمة، وجلجلة الصلب المستمر والمتواصل لإنسان يبحث عن السلام على مذبح العدالة المنسية.
أنت قدسنا جميعاً، وإليك تذهب صلواتنا بخشوع في كل يوم.
جميل ملاعب