آني هرانت كوركدجيان (1972) في معرض فردي في «آرت لاب» (الجميزة)، يصب في الإيروتيكية - الاستعراضية، تحت عنوان À corps perdu. مصطلح فرنسي يعني «بكل الطاقة الممكنة، ومن دون توقف»، فيما يترجمه بعضهم حرفيّاً «في جسد ضائع/ تائه/ مفقود». معانٍ وأبعاد متعددة قد يستنبطها الرائي تلقائياً حين يقف وحيداً في معرض كوركدجيان، فيصبح هو نفسه هذه المرأة التي تعرض ذاتها وحيدةً لمراقبيها الذكور «بكل الطاقة الممكنة». لكن آني توجّه المعرض لـ «مشاهد واحد فقط» بحسب بيانها الفني الذي يكاد يكون مانيفيستو حُب! فما هو هذا المعرض الاستثنائي؟ وماذا تقول اللوحات؟ الألوان؟ التأليفات شبه الأيقونية؟ ماذا يقول جسد المرأة؟ وماذا تقول نظرات المراقبين في اللوحات؟
من دون عنوان (مواد مختلفة على ورق ـــ 100 × 80 سنتم ـــ 2017)

«فكرة الجنس المقموع ليست قضية نظرية فحسب. وعليه، فإن التأكيد على أن الجنس لم يُكبح بصرامة أشدّ إلا في عصر النفاق البورجوازي المنصرف إلى العمل وجني الربح، يلتقي مع خطاب مطنب يهدف إلى قول الحقيقة عن الجنس، إلى تبديل اقتصاده في الواقع، إلى إسقاط القانون الذي يتحكَّم به، وتغيير مستقبله. فالتعبير عن وجود القمع وصيغة التبشير يرتبطان ببعضهما، ويدعم أحدهما الآخر بالتبادل. فالقول إن الجنس ليس مقموعاً، أو بالأحرى القول، إن المسافة بين الجنس والسلطة ليست صلة قمعية، يوشك أن يكون مفارقة عقيمة ليس إلا. إذا قلنا ذلك، لا نكون فقط قد أنكرنا حقيقة مقبولة، بل نكون قد مضينا عكس الاقتصاد، وكل المصالح الخطابية التي يتضمنها» هكذا يبدأ ميشال فوكو مقدمة كتابه «تاريخ الجنسانية».
وبين القمعية والاستعراضية البديلة للمواجهة العنفية، تطرح لوحات آني كوركدجيان موقفها للرائي في معرض يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء. تستقبلك اللوحات من المدخل حتى منتصف صالة العرض، ثم في الجزء الثاني أعمال على ورق أو كرتون كبيرة نسبياً، ثم الجزء الثالث خلف الستارة في الغرفة الإضافية «أ+» التي تخبئ لوحاتٍ أصغر حجماً وأكثر حميمة. في معرض ذي موضوع واضح لا لبس فيه، تتجه الرمزيات كلها إلى العالم الجنساني ومأزق جسد المرأة. هنا طبعاً تطغى الفكرة والمضمون على التقنية، أو ربما وظفت كوركدجيان التقنية بهدوء وسلاسة كي لا تأكل الألوان شفافية الطرح الفكري؟ أو ربما تريد سرد ما هو شخصي من دون مراكمة ألوان وطبقاتٍ وضربات ريشة فوق كثافة التعبير الضمني. حتى إنّ الفنانة لم تعنون أيّاً من أعمالها، فالصورة تكفي لإيصال المضمون. النص البصري يصفع المتلقي بمعلوماته، فلا حاجة للمزيد. نساءٌ يعرضن أجسادهن للرائي. لكنَّ آني تُمسرح المشهد، ليبدو أكثر استعراضية، كأنّ أبطال لوحاتها يعرفون أنهم يتصورون، مما يحيلنا من الجو الإيروتيكي الطبيعي إلى الاستعراضية الجنسانية ولو على حساب الجسد الأنثوي. فهنا أيضاً بعدٌ سريالي في النزعة، قد نربطه بحديث سابقٍ لكوركدجيان بعنوان «الإيروتيكية لفهم الذات». وفي ذا بعد سيكولوجي بحت، ناصع الوضوح، كثير الشفافية و المصداقية، ما يميز غالبية أعمال الفنانة اللبنانية - الأرمنية (وهي حاملة لإجازة في علم النفس من الجامعة اللبنانية إلى جانب دبلوم دراسات عليا في الفنون التشكيلية وماجيستير في إدارة الأعمال). نتذكر ملاحظة هامة أوردها أحد زوار المعرض لنا، وهي إمضاء آني باسمها الثلاثي على أعمالها هذه التي تعود بغالبيتها للعام 2017.
إذ أصبحت «آني هرانت كوركدجيان» تضيف اسم والدها المغدور في الإمضاء. وفي ذا إشارات ذاتية أيضاً. وهنا الذاتي دائماً يطغى على العام، حتى إن التقنية تحجب ذاتها لصالح الموضوع. والرماديات تبقى هي الأساسية في عمق معظم الأعمال، يتخللها أحمر يعدّل البنيان البصري لمنظومة اللوحة أو أزرق مائل إلى الكحليّ. ويبقى لون البشرة موحداً. أما الأعمال الورقية، فتتيح تمييز مهارات كوركدجيان في الرسم بشكل أدق. يحضر الأبيض بقوة ليشكل جزءاً هاماً من التأليف البصري كحال غالبية أعمال الـ illustration البارعة حيث يوظّف الفنان كامل المساحة لخدمة الفكرة. كما تجدر الإشارة إلى أن معظم تأليفات كوركدجيان في هذا المعرض هي وسطية كأيقونات، حيث يحتل أبطال اللوحة نصفها بالضبط، فيما تشغل المساحة الباقية تقنيات لونية تعدّل الإنشاء من دون أن ننسى الحيّز الآخر الذي قاربته كوركدجيان من العالم الجنساني، وهو المثلية. إذ خصّصت عدداً من الأعمال لمقاربة هذا الموضوع في شكل مباشر، لا يقبل التأويل، وهي مساحة جريئة من الفنانة ومن «آرت لاب» التي لم تتوان اليوم ولا في الماضي عن خوض ذلك، إذ احتضنت قبلاً معرضاً للفنان محمد عبدالله الذي قارب بجرأة فريدة مواضيع تكاد تصبح محرّمة في بلادنا.
انتقال من الجو الإيروتيكي الطبيعي إلى الاستعراضية الجنسانية ولو على حساب الجسد الأنثوي

وهنا عودة إلى مقدمة كتاب «تاريخ الجنسانية»: إن «قضية الجنس ـــ قضية حريته، لكن أيضاً قضية المعرفة التي يمكن أن تكون لنا عنه، وقضية الحق الذي لنا في الكلام عنه ــ تجد نفسها، بهذا الشكل، مرتبطة بكل مشروعية بشرف قضية سياسية: فالجنس ينخرط، هو أيضاً، في المستقبل». فما يُرى اليوم على أنه جُرأة واقتحام لعالم الممنوعات، كان أمس طبيعياً، إلى أن حرّمته السلطة الكنسية، والنظم البطريركية المتحكّمة بجسد المرأة والقوة الاقتصادية الحاكمة باسم مالها. «حتى بداية القرن السابع عشر، شيء من الصراحة كان لا يزال رائجاً، على ما يقال. فالممارسات لم تكن تبحث عن السريّة، والكلمات كانت تقال من دون تكتُم مفرط، ويُفصح عن الأشياء من دون إفراط في الإخفاء. ويتعامل الناس مع المنكر في إلفة وتسامح. كانت قواعد البذاءة والمجون والفحش ليّنة إذا ما قارنّاها بقواعد القرن التاسع عشر. إشارات مباشرة، كلمات لا خجل معصيات في وضح النهار، أجسام عارية للجنسين تتشابك، أطفال وقحون يطوفون في حرية، ولا خوف من إثارة الشكوك وسط قهقهات الكبار، تستدير الأجسام على نفسها في رقصة جنونية» دائماً بحسب مقدمة «تاريخ الجنسانية».

* À corps perdu: حتى 27 تشرين الأول (أكتوبر) ـــ «آرت لاب» (الجميزة) ــ للاستعلام: 03/244577