بغداد | من عنوان معرضه «حالات»، يدعونا جبر علوان الى تأمل «ثيمات» محددة، اختار لها عناوين فرعية على صلة وثيقة بالحياة اليومية، مثل «حالات المقاهي»، و«حالات الموسيقى»، و«حالات الرقص» و«حالات المرأة»، التي مثّلت مفرداتها الحضور الطاغي في مسيرته الفنية. ما توفره هذه الأعمال ذات النبرة الواقعية التعبيرية الباذخة، يضع تجربة الفنان في ميزان التحولات، التي أصابت لوحته على صعيد ما تقترحه من خيارات بصرية وابتكارات أسلوبية، مكرِّسةً إياه أحد الأسماء المهمة على خارطة التشكيل العربي.
بين بغداد التي تعرّف إليها طالباً في معهد الفنون، ثم انتقاله الى روما ودراسته فن الرسم والنحت في أكاديميتها في بداية السبعينيات، بدأ علوان مشواره. تجربته اللاحقة شهدت تحولات عميقة في صياغة اللوحة، مقتربة أكثر من الوقائع المرئية من جهة، والاستجابة لهواجس الفنان ومخيلته الشخصية من جهة أخرى. الخطوط غير المتصالحة، وعلاقة الضوء بالظل، وتكوين الكتل بالفراغ، بدت أكثر رهافة واقتصاداً في هذه الأعمال، فيما أضفت الألوان، وخصوصاً الحارة منها، قيمة جديدة الى نكهة اللوحة بما تختزنه من قوة تعبيرية. في إشارته الى اللون، يقول الروائي الراحل عبد الرحمن منيف «ينبض على السطح من الشكل، مثل انفجار بركاني، ينبع من فوهة سرية كخلاصة سرية للذاكرة والرغبة التي تحمل غنى جذوره الشرقية»، لكن سحر الاختبار الشكلاني، وصنمية الشكل سرعان ما تركهما الفنان. بقي وفياً لشعور عاطفي قلق، يقترب من الواقع ويعيد صياغته بلغة ملونة أقرب الى النص الصوري المتخيل، بكل ما يحمله من طلق الحركة وحيوية الموضوع.
لذا، لا يمكن إدراج تجربة علوان ضمن قاموس فني واحد، بل إنها تنهل من مراجع تعبيرية عدة في صياغاتها النهائية. ثمة شيء في مكان ما يدعو المتلقي الى تأمل خلاصاته، وربما إشراكه في الانغمار في عالم تفاصيل موضوعه. ما هو مبثوث على سطوح لوحات «حالات المقاهي» من كتل، مثلاً، يشي بالتقاط ما هو حميمي في سكنات رواده. أو ما تقترحه رسوم الموسيقي في «حالات الموسيقى» من شحنات موسيقية يكاد يتحسس المتلقي أصواتها، فيما تدخلك لوحات «حالات الرقص» في عالم طلق الجسد والتواءاته على إيقاع موسيقى خفية تتلبس تكويناتها. يقتنص علوان في «حالات المرأة» ما هو حميمي، نافر، مرغوب، طلق، متخيل وبجرعات رغائبية وحسية في تكوينات نسائه. في أعماله المعروضه، ثمة تكثيف متعمد. تكثيف يستدعي الفكرة ونقيضها. المفردة وما تولده من بهجة بصرية. الاحتفاء بلحظة عابرة مودعة على سطوح هذه الأعمال. تكوينات جبر علوان تضفي على الحزن والانتظار والانكسار، ولربما الشك، مسحة إنسانوية معبرة. لذا يمكن المغامرة بالقول إنّ مراجعه تقترب من حب الحياة بتفاصيلها وعبثيتها، أكثر مما تتبع مرجعاً مدرسياً بعينه. بصيرته اللونية تستحضر الذاكرة بكل إشراقاتها، مثلما تستحضر خيالات الأحلام المشرعة على الواقع المرئي. لوحة علوان مسرح تتراقص على سطوحه الألوان الزاهية وما تبوح به من انفعالات تخضع الموضوع لسطوة الصبغة وغواياتها. ضمن هذا السياق يمكن وسم لوحة علوان باللوحة المتصالحة أو المتوازنة مع نفسها، والمثيرة للدهشة وسؤال اللون في آن واحد.