لا تكفي سنة لإحداث فارق ملحوظ في وضع النشر العربي. كل شيء على حاله منذ أعوام. يأتي «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» بعد مشاركة الدور في معظم المعارض العربيّة، فيكون الحديث معها تقييماً لموسم كامل من المعارض والنشر، واختيار العناوين وتلقيها ورفضها وعن تمدّد غول الرقابة، والقرصنة الورقية والإلكترونية وركود حركة القراءة، وتلقي المخطوطات من كل مكان. مع افتتاح الدورة الثانية والستين من المعرض البيروتي اليوم، لا آمال كبيرة يعلّقها الناشرون عليه. صاروا يتوقّعون كلّ شيء، أو يتوقّعون ألا يحصل شيء. منذ سنوات، يلبث «النادي الثقافي العربي» في موقع إدارة المعرض. خانة «الإنجازات» على موقعه الإلكتروني، لم تعد تستطيع، وحدها، التصدّي لتذمّر الناشرين والزوّار، في ما يخصّ تنظيم المعرض الذي لا يغيّر مرور الوقت من الانطباع بأنه خارج من زمن آخر. اللافت أننا نتنبّه إلى أن مصطلح المعجزة، بات أكثر تداولاً في توصيف حال النشر وتبرير استمراريته. بهذه العبارة التي تختصر معاناة النشر في العالم العربي عموماً، يجيب المسؤولون عن «دار الريس» لدى سؤالهم عن موسم النشر لهذه السنة. في السابق، كانت الدار تطبع 50 كتاباً سنوياً، لكن هذا العام اقتصرت المنشورات على 24 تراوح بين الأدب والفكر والسياسة والاجتماع مثل «المدينة العربية والحداثة» لخالد زيادة، ومؤلفات لبعض أسمائها المكرّسة مثل فوّاز طرابلسي، ووضاح شرارة وفواز حدّاد («صورة الروائي» و«الولد الجاهل»). ليس بالعدد وحده تقاس فاعليّة الدار، لكن «الريس» تمضي، كغيرها من الدور التي تسير بلا أفق. يتذكّر المسؤولون أيام كانت القراءة أولويّة، لا حنيناً إلى الماضي، بل مقارنةً بأوضاع اليوم. يستعيدون أيام كان يأتي فيها الناشرون إلى بيروت كي يلحقوا بأجدد الإصدارات ضمن مناخات ثقافية وفكريّة جامعة. إلّا أنها ليست في قارّة أخرى في النهاية. الظروف الاقتصاديّة المتردية في البلدان العربية تطال الجميع، ما يبقي الكتاب في آخر أولويات الفرد. تحت الظروف نفسها، اضطرّت «دار الساقي» لخفض أسعار الكتب في معارض القاهرة والمغرب من أجل التخفيف من تأثير فارق انخفاض العملة، ولمحاولة منافسة أسعار الكتب الورقية المقرصنة، من دون أن تنجح في ذلك دائماً. «لو كانت كل النسخ التي تباع من الكتاب أصلية، لكانت دور النشر إمبراطوريات اليوم»، تخبرنا مديرة تحرير الدار رانيا المعلّم، في توصيف لتأثير القرصنة الورقية التي تفوق القرصنة الإلكترونية حجماً وصعوبة في الملاحقة. السبل تضيق بالناشر العربي كل يوم.
كاب ـ اسبانيا

بعدما كانت الخليج هي السوق الحقيقية التي تعوّل عليها الدور، تشير المعلّم إلى أن نفوذ الرقابة يشتدّ في العالم العربي في معارض مثل الرياض والدوحة والكويت التي وصلت إلى كتب دوستويفسكي. حتى أن القاهرة تلتحق بهذه الموجة مع ممارستها الرقابة على لوائح الموزعين. هنا يصبح ركود بيروت نعمة، أمام المعارض الأخرى. «تبقى بيروت مكان اللقاء مع القراء» وفق المعلّم. مع انحسار كمية التواقيع لدى «الساقي»، تطلق بعض أبرز عناوينها في بيروت من بينها مجموعة نجيب محفوظ التي لم تُنشر من قبل «همس النجوم». على صعيد النشر واختيار الكتب، تشهد الكتب الفكرية انخفاضاً في النوعية كما تقول المعلّم. ارتكزت الإصدارات إلى الروايات مثل «شهران لرلى» لعباس بيضون، و«هندباء برية» لياسوناري كواباتا، بالإضافة إلى الكتب التاريخية والسياسية مثل «صناعة الأسطورة: حكاية «التمرّد الطويل» في جبل لبنان» للأكاديمي عبدالرحيم أبو حسين. وسط انهماك الناشرين بالعمليات الحسابية، والتي تؤثّر على تفرّغهم لاختيار العناوين، يجد الكتّاب أحياناً سهولة في الكتابة، وجرأة متسرّعة في إرسال مخطوطات. قد تتنازل بعض الدور أحياناً من أجل كتب «تبيع» مثل كتب التطوير الذاتي، وكتب الخطوات السريعة لحلّ مشكلة تحتاج إلى حياة بأكملها كحدّ أدنى. صحيح أن هذه الكتب التي بدأت في العالم منذ القرن العشرين، باتت تشهد رواجاً أخيراً بقدر رواج محاضرات الـ «تيد إكس» في العالم، إلا أن الكثير من الدراسات أثبتت عدم فعاليتها على حلّ الأزمات. «هذه الكتب تلقى رواجاً لدى الناس» تبرّر المعلم ميل الدار المستجدّ إلى نشر كتب التطوير الذاتي المترجمة مثل «كيف أكون سعيداً» و«كيف أتخلّص من التوتر» لهارييت جريفي، بعدما نشرت في السابق كتباً فكرية لمحمد أركون وأدونيس ومحمد شحرور. يعتقد مدير «منشورات الجمل» خالد المعالي أن الناشر «يحتاج أحياناً إلى نشر العناوين السهلة لتمرير العناوين الصعبة والثقيلة». مع أن «الجمل» تتفادى التوجّه إلى هذا النوع من الكتب حتى الآن، إلا أن «هذا النمط الكتابي يشهد رواجاً في كل العالم»، وفق المعالي. تغلب على منشورات الدار في الفترة الأخيرة الكتب الفكرية والروايات المترجمة، باستثناء كتب التراث العربي مثل أبو نوّاس وديوان ابن الحجاج، ومجموعات شعرية حديثة لسركون بولص، وديوان جديد «كما في السماء» لسنان أنطون. يلحظ الناشر العراقي أن معظم ما «يصلنا بالعربيّة لا يستحقّ النشر». هكذا تواصل الدار نبشها في الأدب والفكر العالميين، آخرها الأدب البولندي مع رواية «العقل المعتقل» للشاعر تشيسواف مييووش، والجزء الأوّل من يوميّات الكاتب فيتولد غومبروفيتش. بعد روايات ماريو بارغاس يوسا، وجوزيه ساراماغو، صدرت عن «الجمل» روايات للإسباني كارلوس ثافون، وكتب الفيلسوف الروماني سيوران الذي نشر له هذه السنة «اعترافات ولعنات» والشاعر يانيس ريتسوس، كذلك تتابع نشر روايات مترجمة لمتوّجي جائزة «مان بوكر» بالإنكليزية مثل بول بيتي وريتشارد فلاناغان. يعتبر المعالي نفسه قارئاً قبل أن يكون ناشراً، لكن «فضول القارئ العربي غائب تماماً» وهذا ما يبرّر، برأيه، غياب التجارب العربية الأدبية المميزة على قاعدة أن لا كتابة جيّدة بلا قراءة. من ناحية ثانية، يتوقّف المعالي عند تأثيرات انخفاض قيمة العملة في تونس والمغرب ومصر. تراكم هذه الصعوبات أدى إلى انخفاض إصدارات الدار 40% مقارنة مع العام الماضي. تبقى بيروت مكاناً للقاء القراء الشباب، بالإضافة إلى الرحلات التي تنظّمها مجموعات عراقية من الخارج لحضور «معرض بيروت»، لكن «يصعب التنبؤ بمزاج القارئ العربي كما في تونس والمغرب اللذين كانا سوقين للفلسفة في السابق، بينما يتوجه الناس هذه السنة إلى الرواية».
تحضر الرقابة، والوضع الاقتصادي، والقرصنة والمبيعات في أحاديث كل الناشرين من بينهم مديرة «الآداب» رنا إدريس، التي تحاول مع آخرين في «ناشرون من أجل المهنة» ملاحقة القرصنة الورقية والإلكترونية. لكن انشغالاتها، لم تمنعها من التفكير في مشاريع جديدة ستطلقها العام المقبل، بالعودة إلى «نشر الكتب الفكرية والسياسية التي اعتادت الدار أن تنشرها». ستخوض الدار مشاريع جديدة رغم أنها لن تتمكّن من المخاطرة كثيراً، إذ «أننا نفكّر في العودة إلى نشر كتب النقد الأدبي، لكننا نعلم أن لا قرّاء لهذا النمط». انخفضت إصدارات الدار هذه السنة، والنسبة الأكبر منها تتوزّع على الرواية العربية والمترجمة، لكتّاب شباب ومكرسين، مثل واسيني الأعرج والياس خوري وإيزابيل الليندي وإيلينا فيرانتي... لا تفقد هذه الأسماء ألفتها بالنسبة إلى الجمهور، ومن خلال هذه العناوين التي تظلّ تلقى رواجاً لدى الجمهور، تتمكّن، الدار من التوفيق بين الجانب التسويقي، من دون أن تتنازل عن نوعيّة الكتب المنشورة. عبر هذه التوازنات، تعيد نشر كتب وترجمات قديمة مثل إدغار ألن بو، فيما تستكشف تجارب جديدة مثل الباكورة الروائية «غاسل صحون يقرأ شوبنهاور» للفلسطيني محمّد جبعيتي هذه السنة. الرواية باتت، منذ أعوام، تستحوذ على اهتمام «دار نوفل ــ هاشيت أنطوان». إلى جانب الكتب الأخرى في الدار، خرج العام الحالي بأكثر 20 رواية تراوح بين التجارب الأولى، وأخرى لكتّاب مكرسين وترجمات لروايات أجنبية أو لبنانية مكتوبة بالفرنسية أو الإنكليزية مثل روايات شريف مجدلاني وربيع علم الدين. هذا ما صنع للدار اسماً روائياً، استقطب تجارب عربيّة من الجزائر وسوريا والعراق وكردستان والسودان وفلسطين ومصر ولبنان. «أخيراً انضمّت إلينا أيضاً أسماء مكرسة مثل الروائي السوداني أمير تاج السر (رواية «جزء مؤلم من حكاية»)، والكاتب اليمني وجدي الأهدل (رواية «أرض المؤامرات السعيدة»)» تقول المحرّرة في «دار نوفل ــ هاشيت أنطوان» رنا حايك. رغم انقضاء ذروة سنوات الربيع العربي التي أرخَت بظلالها على مزاج الكتّاب والناشرين والقرّاء، ما زالت الدار تتلقى روايات الأزمة السورية تحديداً من بينها «أعياد الشتاء» لنغم حيدر، و«صعاليك هيرابوليس» لمحمد سعيد، وروايات أخرى ستطلقها في معرض بيروت، فيما «بتنا نتشدّد أكثر في مقاييس النشر» تختم الحايك. في المقابل، مثلما تحاول «دار الفارابي» دعم القرّاء ومساعدتهم من خلال الحسومات المرتفعة في «معرض بيروت»، يؤكّد مدير الدار حسن خليل «أننا نسعى إلى تشجيع الكتاب من خلال تسهيل أمور النشر لهم». قد يتطلّب هذا تنازلاً عن النوعية أحياناً، إلا أن «الكتب تُعرض على لجنة قراءة أولاً وهي التي توافق أو ترفض».
تقول رشا الأمير إن «مهنة النشر انتهت تقريباً»، داعية إلى دمج معرضي الكتاب الفرنكوفوني والعربي

هذا ما يبرّر العدد المرتفع للكتب المنشورة عن «الفارابي» (وصلت إلى 180). رقم يعتبر مرتفعاً إذا ما قورن بالدور الأخرى. بالإضافة إلى هذا الرقم، أعادت الدار طبع بعض أبرز إصداراتها مثل الكتب الماركسية والروايات الروسية التي تعوّل عليها. في معرض بيروت، تقيم الدار 32 توقيعاً بين روايات وشعر وكتب سياسية من بينها «محمد السيرة السياسية» لنصري الصايغ، و«عندما تتكلّم المصادر ــ صحافيون ومصدر معلوماتهم» للأكاديمية وفاء أبو شقرا. يلحظ خليل صعوبة التنبؤ بمزاج القراء العرب، الذي يتبدل بين سنة وأخرى، بينما «الأمر مختلف تماماً بالنسبة إلى القارئ البيروتي». هناك علاقة قديمة بين الدار الستينية والمعرض الذي لم تصله عدوى الرقابة مثل المعارض العربية التي تشهد «مستويات عدّة ومستمرّة من المنع» كما يقول خليل. هكذا ستقيم الدار خلال المعرض لقاء مع الناس والرفاق للاحتفاء بفكر حسين مروة ومهدي عامل ومحمد دكورب وفالح عبد الجبار وسمير أمين. تبدو نظرة مديرة «دار الجديد» رشا الأمير حاسمة إلى المعرض والنشر على السواء. تعترف أن «مهنة النشر انتهت تقريباً»، لهذا اشتركت مع شركة «أمازون» لبيع الكتب الإلكترونيّة، وقبلها مع «نيل وفرات» (راجع الكادر)، و«أبجد». تعزو الأمير استمرارية بعض دور النشر العربية، إلى الدعم الخارجي. صحيح أن نسبة النشر في الدار تقتصر على عدد ضئيل من الكتب في الفترة الأخيرة، إلّا أن هذا لم يؤثّر على الشغف في النشر والعمل على الكتاب، حيث لا يزال الاشتغال على الكتب يحظى باهتمام يمكن ملاحظته في التفاصيل والورق والتحريك والخطّ العربي واختيار الكتب. وفيما لم تتنازل الدار عن الحرفة، اضطرت في السنوات الأخيرة إلى الالتزام بحوالى 1000 نسخة من كل كتاب. مع ذلك، سيبقى جزء من هذا العدد قابعاً أحياناً في المستورد، في إشارة إلى غياب القارئ الذي «لو منح الكتاب مجاناً، سيرفضه ربّما» وفق الأمير. هذه السنة، أصدرت الدار «في صحبة العربية ــ منافذ إلى لغة وأساليب» لأحمد بيضون، و«لوجه ما لا يلزم» للإيطالي نوتشيو أوردينه، بالاضافة إلى «قصة أسمهان» لفؤاد الأطرش. وفيما عملت على كتب للصحافي اسكندر رياشي بالعربية والفرنسية، «لكننا لم نتمكّن من نشره». قبل مشاركتها في معرض بيروت، تشدّد الأمير «على أنه ينبغي للعمل أن يبدأ من المدارس والجامعات التي يجب أن تكون السوق الحقيقية لدار النشر»، وتختم بالدعوة إلى جمع معرضي الكتاب الفرنكوفوني والعربي ضمن معرض واحد.

* «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب ــ 62»: بدءاً من (س، 16:00) بعد ظهر اليوم حتى 17 كانون الأول (ديسمبر) ــ «سيسايد أرينا» (البيال سابقاً ــ واجهة بيروت البحرية). للاستعلام: 01/345948



«نيل وفرات. كوم»
اليوم، وقد بات كل كتاب قابلاً للقرصنة، بعد ساعات قليلة على نشره، خرجت مواقع مثل «نيل وفرات.كوم» و«أبجد» لتحمي الكتب الإلكترونية والورقيّة من السرقة، ولإلحاق النشر العربي بسياق تطور النشر الإلكتروني في العالم. تعدّ «نيل وفرات» من أكبر المكتبات الإلكترونية عربياً، إذ تحوي 400,000 ألف كتاب إلكتروني، بعدما انطلقت ببيانات 50 ألف كتاب عام 1998، من أحد مكاتب «الدار العربية للعلوم ناشرون». تتوزّع مهامها ما بين بيع نسخ إلكترونية، وخدمة توصيل الكتب الورقية و«خدمات تتعلّق بالمضمون» وفق مسؤولة التسويق غيدا براج، التي تشير إلى تطبيق Ikitab لقراءة الكتب على الآيباد. تخبرنا برّاج بأن عدداً كبيراً من دور النشر اللبنانية والأردنية والسعودية والإماراتية والمصرية، باتت تتعاون مع «نيل وفرات» التي تبيع النسخة الإلكترونية بفارق مالي يبدأ من 30% عن الكتاب الورقي. تختلف النسخ التي تقدّم فيها المكتبة مؤلفاتها الإلكترونية، فتضيف إليها بعض المميزات على صعيدي المضمون والشكل، تفتقر إليها الكتب المقرصنة. هكذا، تزوّد «نيل وفرات» كتبها بتسهيلات للقراءة، وبمعجم عربي ــ عربي، وبالهوامش وأدوات البحث. كذلك استطاعت من خلال فريق عمل متخصّص التواصل مع بعض القائمين على مواقع القرصنة، وإغلاقها.