انقضت معظم التجارب الأدبيّة والفنّيّة خلال الحرب الأهليّة اللبنانية التي بعثت، لدى توقّفها، مبادرات فنيّة معاصرة أخرى. تجارب لم تشترك مع سابقاتها إلا بطابعها الفردي، إذا استثنينا طفرة المنح التي تقدّمها المؤسسات الخارجية للفنون في العالم العربي، والتي تجرّدها من صفة الفردية، عبر إخضاعها لتوجّهات دارجة تفاضل بين القضايا. ظلّت الطفرة الثقافية في بيروت بين الاستقلال والحرب متفلّتة وخارجة عن البرمجة والتخطيط الذي ساندت الدولة به نهضة مصر مثلاً، كما تذكر الناقدة السوريّة خالدة سعيد. لكن الحرب التي قضت على تجارب جيل سابق، منها «دار الفن والأدب» وغيرها، كانت بداية ملحّة لجيل جديد من الفنانين، لأسئلتهم، وأدواتهم وممارساتهم وطروحاتهم الفنيّة الملتصقة، والمدفوعة بوعي حادّ لما مرّت به المدينة، ولما سيَلي تلك الفترة. ما لم تقم به الدولة حيال التاريخ الدموي للبلاد فعله فنانوه حينها، بكتابتهم تاريخاً بديلاً يقوم على الأسئلة ونبش كل ما يراد إنكاره. من تلك المرحلة التحوّليّة انطلقت «أشكال ألوان» (الجمعيّة اللبنانيّة للفنون التشكيلية)، التي تحتفل اليوم بعيدها الـ 25، بمعرض فني جماعي، ينطلق عند السابعة من مساء اليوم في فضاء «أشكال ألوان» (جسر الواطي ــ بيروت).
من «غراب» لبشرى ويزغن في «أشغال داخليّة ــ 7» عام 2015 (بلال جاويش)

يأتي اليوبيل الفضي للجمعيّة اللبنانية كفرصة للعودة إلى بدايات تجربة أساسيّة في تطوّر الفن اللبناني المعاصر. خمسة وعشرون عاماً، ليست عمر «أشكال ألوان» فحسب، إنه وقت شهد مساراً كاملاً للفن اللبناني المعاصر الذي رافقته الجمعيّة ودعمته وأنتجت بعضاً من أعماله، في وقت كانت لا تزال فيه هذه التجارب غائبة عن اهتمامات الغاليريهات والصالات العالميّة. حين أطلقت كريستين طعمة، مع مروان رشماوي، وليلى مروّة، ورانيا طبّارة، ومصطفى يمّوت المبادرة عام 1993، لم يكن هناك فضاء ثابت للجمعيّة بعد. كم كان هذا أساسياً حينها، خصوصاً بالنسبة إلى تصوّر الجمعية؟ تركّز مديرة «أشكال ألوان» كريستين طعمة على أن الفكرة العامّة تخلّت منذ البداية عن «غاليري تعرض الفنون وتنتجها، بل أردنا فضاء يتصف بالديمومة ومفتوحاً على حاجات المدينة واقتراحاتها». هذا ما جعلها تبتعد عن أماكن العرض التقليدية. بدأت من الفضاءات العامّة، بوصفها مساحات بديلة للقاء، قريبة من الناس، وكأمكنة تُجاري أسئلة المدينة وتحتمل الذاكرة الجماعيّة.
في حديقة الصنائع في بيروت، أقيم المعرض الجماعي الأوّل عام 1995، الذي جمع حوالى 20 فناناً، ثم في حديقة السيوفي عام 1997، فالكورنيش (1999) وشارع الحمرا (2000). تختزل طعمة ثلاث لحظات أساسية من سيرة «أشكال ألوان» التي تتقاطع بدورها مع تحوّلات في المشهد الثقافي العربي بشكل عام: «أولاً انفتاح الفنانين اللبنانيين المعاصرين على الحيّز العام والاشتباك مع الجمهور الواسع على نحو مباشر في حقبة التسعينيات»، حقبة تعتبرها طعمة محليّة بامتياز بتزامنها مع مشاريع إعادة الإعمار بعد الحرب. ثمّة تحوّل آخر وهو «الانفتاح على هموم المنطقة وممارسات مبدعيها، ما وضع الفن اللبناني والعربي على خارطة الفن المعاصر العالمي خلال الفترة الأولى من القرن الحالي». تمثّلت هذه المحطّة في منتدى «أشغال داخليّة» الذي أطلقته الجمعيّة عام 2002، بعنوان «منتدى عن الممارسات الثقافية» داعياً فنانين وكتاباً من إيران وسوريا والعراق وفلسطين ولبنان ومصر.

من عرض «أنشودة الفرح» لربيع مروّة في «أشغال داخليّة ــ 7» عام 2015 (مروان طحطح)

لا تزال طعمة تصرّ على «التواصل الإقليمي من مصر والمشرق العربي إلى تركيا والخليج وإيران والهند...». خلال الدورات السبع من منتدى «أشغال داخليّة»، زار بيروت كتاب وفنانون ومخرجون لبنانيون وعرب وعالميون، قدّموا أعمالهم ومحاضراتهم في مسارح وفضاءات العاصمة. أدونيس ألقى محاضرته الإشكاليّة «بيروت... هل هي مدينة حقاً أم أنها مجرّد اسم تاريخي؟». الشاعر عباس بيضون حضر في دورات عدّة، وجلال توفيق ووليد رعد، ولينا صانع وربيع مروّة اللذين قدّما عروضهما الأدائيّة التجريبيّة، والمخرج الفلسطيني إيليا سليمان واللبناني غسان سلهب، والفنان والموسيقي المصري حسن خان... رافق المنتدى كل الأجيال وصولاً إلى جيل من الفنانين لم يعش الحرب مباشرة، لكن «لديه أسئلته وهمومه ولحظته التاريخية التي لم يعد من الجائر تهميشها لصالح الماضي»، كما تقول طعمة. هذا ما يتقاطع مع التحوّل الثالث الذي يتمثّل بـ «المنعطف التعليمي التربوي» وفق تعبيرها، بإطلاقها برنامج «فضاء أشغال داخلية» عام ٢٠١١ في بيروت، بالتزامن مع افتتاح فضائها في مصنع قديم في جسر الواطي في السنة نفسها.
النزول إلى الشارع في المراحل الأولى، بات فيما بعد ينعكس على الإشكاليات التي راحت تطرحها «أشكال ألوان»، في منتدياتها ولقاءاتها داعية الفنانين إلى المشاركة في وجهات نظرهم ورؤاهم حول الأوضاع العربية، والموقع الجغرافي، والفرد أمام السلطات السياسية والعسكرية، والتعامل مع الفاجعة وكوارث العالم العربي في السنوات الأخيرة. كل ذلك رافقه بحث في الممارسات والقوالب الفنية التي احتضنتها الجمعيّة من الفيديو في برنامج «أشغال ڤيديو» السنوي، والتجهيزات الفنية والمحاضرات وفنون الأداء والرقص، واللغة والهوية العربيتين في «ملتقى الرواية العربيّة» عام 2016.
بدأت من الفضاءات العامّة كأمكنة تُجاري أسئلة المدينة وتحتمل الذاكرة الجماعيّة

مع طفرة الفن المعاصر، وتضاعف الاهتمام المحلي والعالمي والعربي ومؤسساته به، لا تزال طعمة ترى أن «دورنا يتمثّل في احتضان الفنانين والمبادرات والتيارات وتقديم المساندة والإرشاد، كي يجد الفنانون منصّة يتواجدون عليها». من هنا جاءت منشوراتها وإنتاجاتها الخاصّة، وبرامج الإقامات الفنية التي تقوم على التمويل والبرمجة، والشراكات الدولية والعربية من خلال شبكة علاقات واسعة وضعت «أشكال ألوان» على الخارطة العالمية للفن المعاصر، في وقت يأخذ كثيرون عليها ابتعادها عن الجمهور العام، وتعذّر تواصلها مع الشارع المحلّي الذي منه أطلقت فعالياتها.

* افتتاح معرض في العيد الخامس والعشرين لـ «أشكال ألوان»: 19:00 مساء اليوم حتى 18 كانون الأوّل (ديسمبر) الحالي ــ مركز «أشكال ألوان» (جسر الواطي ـــ بيروت). للاستعلام: 01/423879



معرض/ مزاد فني
قامت «أشكال ألوان» على تجارب فنانين محليين رافقوها منذ بدايتها، وفي كافّة مراحلها. في عيدها الخامس والعشرين، تدعو الجمعيّة حوالى أربعين فناناً مجدّداً للمشاركة في معرض جماعي ينطلق عند السابعة من مساء اليوم. يضم المعرض الذي صمّمه المهندس مارون لحود، أعمالاً قديمة وجديدة تبرّعوا بها لدعم الجمعيّة وبرامجها من خلال المزاد الذي يستمر حتى 18 كانون الأوّل (ديسمبر). في المعرض/ المزاد أعمال لإيتل عدنان، وأكرم زعتري، ووليد رعد، ولميا جريج، ومروان رشماوي، ومنيرة الصلح، وأحمد غصين، ومنيرة القادري، وباسل عباس وروان أبو رحمه، ورائد ياسين، وهايغ آيفازيان، وتمارا السامرائي، ودعاء علي... بين الأعمال القديمة، وأخرى أنجزت خلال السنوات الماضية، سيتيح المعرض إلقاء نظرة شاملة تقريباً على أعمال مجموعة من أبرز فناني لبنان والعالم العربي، أنجزت بوسائط الفيديو والصورة والرسم والتجهيزات الفنية والصوتية.


أرشيف رقمي ومشاريع جديدة
راكمت «أشكال ألوان»، أرشيفاً ضخماً من الكتب، وإنتاجات الوسائط المتعدّدة، والمنشورات التي توثّق للمنتديات التي احتضنتها. هذه المواد ستصبح متوفّرة للجميع خلال الأشهر المقبلة، حيث تطلق الجمعيّة موقعها الإلكتروني الجديد، ومنصّة مفتوحة تحوي أرشيفها السمعي البصري، بعد رقمنته. خطوة بدأتها «أشكال ألوان» أخيراً، بتدشينها منصّة فيديو بعنوان «عشرة» تعرض كل فترة عشرة أفلام وأعمال فيديو من إنتاجها، سبقت أن عرضت في دوراتها السابقة أو في المهرجانات العالميّة. هكذا صارت هذه الأفلام متوافرة أونلاين، على أن تتبدّل كلّ فترة. البداية مع أفلام لماهر أبي سمرا، ومروى أرسانيوس، وعلي شري، ونسرين خضر وروي ديب، وأكرم زعتري، ومنيرة الصلح، وروي سماحة ورائد ورانيا الرافعي ولينا مجدلاني ونسرين خضر. واستكمالاً لبرامجها التعليمية الخارج عن إطار الأكاديميات الفنية، أطلقت «أشكال ألوان» هذه السنة برنامجاً جديداً بعنوان «مشغل الزهر» لتعليم الرسم والتصوير والفنون البصريّة لكافّة الأعمار يمتدّ طوال العام.


محطات
1993: تأسيس «أشكال ألوان»
1995: إقامة المعرض الجماعي الأوّل في حديقة الصنائع في بيروت.
2002: إطلاق منتدى «أشغال داخلية: منتدى عن الممارسات الثقافية»، الذي دعا في دورته الأولى فنانين وكتاباً من إيران وسوريا والعراق وفلسطين ولبنان ومصر. كلّ عامين أو ثلاثة، يستقبل المنتدى كافّة الأنماط والعروض الفنية المعاصرة من العالم، لتعرض في فضاءات متعدّدة في بيروت. وقد أقيمت دورته السابعة عام 2015.
2007: الدورة الأولى من برنامج «أشغال ڤيديو» لإنتاج وعرض أفلام وعروض فيديو لفنانين لبنانيين. حتى الآن، عرضت وأنتجت عشرات الأفلام في دوراته الثمانية التي باتت تقام سنوياً.
2011: افتتحت المؤسّسة فضائها الجديد في مصنع قديم للأقمشة في منطقة جسر الواطي في بيروت. بمساحته الواسعة التي تضمّ محترفات للإنتاج، وفضاءات لعروض الأداء، وصالات عرض، ومكتبة متخصصة في الفنون المعاصرة، احتضن المكان لقاءات وأنشطة «أشكال ألوان»، وبرامجها التعليميّة.
2011: أطلقت «برنامج فضاء أشغال داخلية» الدراسي، الذي يقدّم منحاً دراسيّة كاملة لحوالى 15 فناناً ناشئاً سنوياً. تحت إشراف بعض الأساتذة مثل الفنانة الفلسطينية إميلي جاسر، وقادر عطيّة وغريغوري شوليت، وساندرا نوت، أقيمت ورشات ومحاضرات فنية وحلقات دراسيّة كبديل متحرّر من أطر تعليم الفنون في لبنان والعالم العربي.
2016: مع طفرة الروايات العربيّة في السنوات الأخيرة، احتضنت «أشكال ألوان» الدورة الأولى من «ملتقى الرواية العربيّة» الذي طرح أسئلة راهنة عن اللغة العربيّة وتحوّلاتها، ووظائفها الجماليّة والتعبيريّة... وقد دعت أجيالاً مختلفة من الروائيين من لبنان ومصر واليمن والعراق وفلسطين وتونس مثل جبور الدويهي، وحسن داوود، وسحر مندور، ومايا أبو الحيات وآخرين.
2016: مستقبل اللغة العربيّة وإشكالياتها الملحّة التي فرضتها شبكات التواصل الاجتماعي، كانت محور ملتقى «العربيّة على محك شبكات التواصل» وأشرف عليه الكاتب اللبناني أحمد بيضون ومنال خضر. تبعه نشر المحاضرات ضمن كتاب بالعنوان نفسه، ضمّ مشاركات منصورة عزالدين ويوسف بزي وعماد عبد اللطيف، ورستم محمود وأحمد بيضون وآخرين.
2018: الخطوة الأولى لرقمنة أرشيف الجمعية السمعي والبصري لجعلها بمتناول الناس، بدأت بإطلاق منصّة «عشرة» التي تعرض كل فترة عشرة أفلام وفيديوهات من إنتاج «أشكال ألوان».