ليس كارل ماركس شخصاً عادياً في التاريخ، وهذا يعرفه الجميع. ينقسم الجميع على موقع ماركس في الحاضر، فثمة من يسجنه في الماضي، وثمة من يدفع به إلى المستقبل بلا عناء الدراسة. ولكن عدد فصلية «بدايات» الجديد (العدد 20/21 ــــ 2018) يحاول تجاوز كل هذا السجال، عندما ينشر ملفاً علمياً وطويلاً، بعنوان «ماركس في القرن الثالث: أين كان على حق؟».

تتنوع المقالات في الملف، الذي يفتتح بقراءة جديدة ومتماسكة لوسام سعادة في «الأيديولوجيا الألمانية». وهذا الشق من «المدرسة» الماركسية، يبقى مهملاً من كثير من الملتحقين بها على عجلٍ أو بلا معرفة دقيقة، كما أن المطبوعة التي حملت هذا الاسم شهدت أخيراً سجالاً حول «أصالتها». لكن تبقى «الأيديولوجيا الألمانية»، كما يبيّن عمل سعادة، محطة أساسية ومفصلية لفهم كارس ماركس وحركته داخل تاريخه الخاص، كمدخلٍ لفهم حركة التاريخ كما يراها ماركس. هكذا، يبحث في العلاقة بين هيغل وماركس، وبين ماركس وهيغليته، وكذلك في العلاقة بين إنغلز وماركس، وبينهما كلاهما مع بعضهما البعض ومع ورثة الوعي المطلق الهيغلي. وفيما يعرّج على طبيعة الثورات البورجوازية كأحداث مفصلية، لا يفوت الكاتب الإشارة إلى أنها كانت صناعية في إنكلترا، سياسية في فرنسا، وفلسفية في ألمانيا، كما يستعين بعالم اجتماع «محافظ» هو ريمون آرون، في محاولة للوصول إلى الإحاطة بالجوانب الأنثروبولوجية التي رافقت صعود الماركسية. وإلى مقال سعادة الدسم، يستعيد فواز طرابلسي في نص طويل «ربيع الشعوب». يتناول الثورات الأوروبية في زمانها وسياقاتها، فيقسمها بين ثورات ديموقراطية تطالب بالملكيات الدستورية، وأخرى تطالب بالجمهوريات والاقتراع العام وحرية الصحافة والرأي والإعلام. يركز كثيراً على أحداث باريس، كمدخل ضروري لفهم نشاط ماركس هناك، واختلاطه بالعمال والحرفيين والمهاجرين. وهو مقال بطابع تأريخي ــــ تحليلي، ينطلق من تلك الفترة تحديداً التي بحث فيها هابرماس عن «المجال العام»، وتلك المدينة التي أنتجت ثورتها «التشكيلة الاجتماعية» بمسماها الماركسي. وإضافة إلى العرضين السابقين، يحوي الملف نصوصاً مهمة لتيري إيغلتن وسلافوي جيجيك، ومقالاً عن لبنان وسوريا كتبه كارل ماركس بنفسه في 28 تموز 1860، ونشر أول مرة في «نيويورك دايلي هيرالد» في 11 آب من العام نفسه، إضافة إلى إسهامات الفيلسوف الألماني في زمانها، في مسائل عربية.
نصوص مهمة لتيري إيغلتن وسلافوي جيجيك، ومقال عن لبنان وسوريا كتبه ماركس عام 1860


وتحت خانة «من باب أولى»، تبحث ماروتا ستي في «الاستثمار المثير للجدل في سوريا». كما تناقش الناشطة النسوية الفلسطينية مهى إغبارية في مسألة الهوية ضد «التنميط» الذي يتعرض له الفلسطينيون الذين يعيشون تحت الاحتلال وداخل الحدود التي صنعها الاحتلال. في موازاة ذلك، تعود مليكة رحال، المؤرخة الجزائرية، إلى مكان قتل علي بومنجل. والمقال مستوحى من كتابها عن المناضل الجزائري، وفي معرض متابعة السجال، الذي بدأ بعدما قدم إيمانويل ماكرون اعتذاراً رسمياً لعائلة المناضل الشيوعي موريس أودان، الذي قضى في سجون التعذيب الفرنسية في الجزائر في 1956. يجب التنويه هنا إلى ميزتين رئيستين في ملف «بدايات» الجديد. الأولى، وهي سمة دائمة في منشورات المجلة منذ صدورها، وهي تتعلق بالتزامها مسائل أساسية، تتعلق بقضايا كبرى كالعدالة الاجتماعية، والتصدي للكولونيالية وآثارها المستمرة. والثانية، تتعلق بالعرض البصري المميز الذي تقدّمه دائماً، كمنتج معرفي حاسم ولا يقل أهمية عن المقالات، ولا سيما عمل آلاء التنير الذي يحمل عنوان «وإذا البحار سُجرت». ولسيرة العرض البصري، وتحت عنوان «المخيّلة في السلطة»، تعرض المجلة وثائق مهمة من دفاتر أيار 1968 الفرنسية. أبرز ما فيها إلى جانب العرض البصري الوافي والأنيق، رسالة من روجيه عساف، ومقال لجيرار باري كلافيل، يقاربان فيه الأحداث كل من زاويته. هكذا، تتنوع محتويات «بدايات»، حيث يمكنك أن تقرأ فصلاً في غاية الجدية من كتاب «سايكس بيكو ــــ بلفور: ما وراء الخرائط»، لفواز طرابلسي، ومقالاً يتسم بالسلاسة لسحر مندور، تتناول فيه مسألة الحجاب من أكثر من زاوية.