ينسحبون الواحد تلو الآخر من المشهد... جيل صنع سينما مختلفة في لبنان، سينما حقيقية. أمس، انطفأت المخرجة جوسلين صعب (1948) في باريس بعد معاناة طويلة مع المرض. ختمت مسيرة نضال وثّقت خلالها مشهد المقاومة من بندقية الكفاح الفلسطيني، إلى الفتاة المصرية الرافضة للختان. عاندت وشاكست جوسلين في جميع محطات مشوارها، بدءاً من الإذاعة اللبنانية عام 1970، حين توقّف برنامجها الموسيقي «عيون المارسوبيلامي زرقاء»، عن البثّ بسبب خرقها محظورات اجتماعية. في «تلفزيون لبنان»، رفعت صوتها رفضاً لتغييب صوت القضية الفلسطينية، بعد الامتناع عن بثّ تقرير صوّرته.
جوسلين صعب مع ياسر عرفات

تعرّضت للمنع من دخول مصر سنوات في عهد السادات، بسبب مادّة صوّرتها مع الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم. وحين عادت الى المحروسة، تمّ إيقافها واعتقالها في المطار. في القاهرة أيضاً، مُنع فيلمها «دنيا» عام 2005 من العرض وتعرّضت مع طاقم العمل للتهديد. مع ذلك، نزلت الى شوارع القاهرة ووزّعت المناشير والدعوات لحضور الفيلم.
لم يثنها شيء. اقتربت من الجبهة لتغطية حرب أكتوبر عام 1973. تعرّضت للإعتداء على يد ميليشيا بشير الجميّل في بداية سنوات الحرب، حين ذهبت برفقة الصحافي الفرنسي إريك رولو الى معسكر الكتائب. رافقت أبو عمّار على متن الباخرة التي أخرجته من بيروت، وأجرت معه مقابلة في عرض البحر، وكانت شاهدة على الوجوه المهزومة والمنسحبة من عاصمة الثورة الفلسطينية. قبل انطلاق الرحلة، هرّبت له مسدسّه كي لا يبقى القائد من دون سلاح رغم الإجراءات المشدّدة.
جالت في الصحراء مع معمّر القذافي، وصولاً الى زيارة مسقط رأسه وعائلته، حين ذهبت لتغطية «المسيرة الخضراء» التي دعا اليها القائد الليبي عام 1973. وفي الصحارى، على الحدود بين المغرب والجزائر، تعرّضت وفريق عملها لإطلاق النار. أصيب زميلها، فاستقبلها الرئيس هوّاري بو مدين. دمّر اجتياح بيروت منزلها عام 1982، فرثت مدينتها في فيلم «بيروت مدينتي» الذي كتبته مع المسرحي روجيه عساف واعتبرته عملها الأهم. الحرب كانت مسرح جوسلين صعب الأول، نقلتها من ميدان الصحافة الى الأفلام الوثائقيّة. كانت صورةً للمرأة التي لم تخمد الحرب طاقتها، بل تحدّتها حاملة الكاميرا الثقيلة على كتفها، كأنها تقف بعكس تيّارها الجارف.
«لبنان في الدوامة» (1975) كان باكورة أعمالها التسجيلية الطويلة، ثمّ «أطفال الحرب»، و«بيروت لم تعد كما كانت» (1976)، ولاحقاً «رسالة من بيروت» و«بيروت مدينتي» عام 1982. كانت واضحة في ميولها اليسارية آنذاك، ومناصرتها القضية الفلسطينية، لكنها كانت منحازة أولاً للإنسان ولضحايا الحرب المدنيين.
كانت لغتها في أفلامها الروائية مختلفة تماماً عن لغة أفلامها الوثائقية. وجدت في كتابتها للسينما مساحةً للأحلام والتأمّل والهدوء. مساحة ربما افتقدتها خلال توثيقها للحرب، فأعمالها الروائية أو التجريبية «غزل البنات» أو «حياة معلّقة» (1985) و«كان يا ما كان بيروت» (1995)، و«دنيا» (2005)، و«شو عمبصير» في 2009، هي صورة مختلفة عن شخصيّة جوسلين صعب. هي جوسلين السمراء المليئة بالحياة، التي نراها في مقاطع خلال مقابلاتها مع الصحافة في الخارج، تركب دراجتها الهوائية، وتنطلق في شوارع باريس، كفتاة صغيرة.
«المقاومة الثقافية» مهرجان سينمائي أطلقته في لبنان عام 2014. وكانت قد صرّحت لـ «الأخبار» في تلك المناسبة، إنّها كانت منهكة، لكن متحمّسة وسعيدة لهذه المبادرة. عروض المهرجان خرجت من بيروت الى أكثر من مدينة، من الشمال الى الجنوب، وكانت جوسلين تتابع تفاصيل التنظيم بشغف. اعتبرت المهرجان بادرة أمل ودعوة الى الحوار والمواجهة. وكانت ممتعضة حينها من «التطنيش عمّا يجري» خلال حديثها عن دوّامة العنف والمشاكل المستمرّة. كان لبنان الذي صوّرته عام 1975، لا يزال في «الدوّامة»، وهي لا تزال على استعداد للمواجهة، على طريقتها.
عام 2015، صدر كتاب بالفرنسية عن سيرتها بعنوان «جوسلين صعب، الذاكرة الجامحة» لماتيلد روكسيل. وفي عام 2017، عرضت جوسلين صعب مجموعة من صور التقطتها بعنوان «دولار واحد في اليوم». والعام الماضي، كرّمها كلّ من متحف «مقام» في جبيل و«دار النمر» في بيروت من خلال معرض صور من مسيرتها ومقاطع من أعمالها.
أمس، أكّد ابنها خبر الرحيل على صفحتها على الفايسبوك، من دون تفاصيل أخرى عن مراسم التشييع. كمارون بغدادي، ورندة الشهّال، وكريستيان غازي، ورفيق حجّار وجان شمعون، تركت جوسلين صعب خلفها أعمالاً عن حقبة مهمّة في لبنان والمنطقة. لكنها تركت صورة عن المرأة المغامرة والمعاندة في وجه العنف، والحرب والرقابة والمحظور. صورة عن مخرجة ساندت قضايا الشعوب وقضايا الإنسان في كلّ مكان.