ما عاد الشاعر «حراً» وما عاد «النبي، العرّاف والإله»، فهل يعني هذا أننا جاوزنا «زمن السرطان، هنا، وفي الداخل»؟ هل جاوزنا الحد الذي جعل من مقدمة «لن» (1960) مجموعة أنسي الحاج الشعرية الأولى، بياناً مهّد لقصيدة النثر العربية طريقاً أوصلتها إلى ما تتقوّم به الآن؟ لمَ السؤال؟ ربما لأن قارئ أنسي الحاج، وبعد خمسة وثلاثين عاماً من صدور المقدمة والكتاب، يختصر الطريق دوماً باللجوء إلى قراءة مستعادة للمقدمة البيان والكتاب الجارح، مستعيناً بهما لرسم صورة للشاعر مجتزأة وجانبية. ففي مثل هذا التناول اختصار لمسار ليس خيطياً كما يحلو للنقد أن يرى. وربما كانت المقدمة «المارقة» امارة تناقض يرسم سبل السير في اتجاه ما يجاوزه، وما ينقصه، وما يجعله الماضي المتجاوز، وليس الماضي المقيم في حاضر يكون مثل الحال الهستيرية.
القصيدة المارقة
هل أن شروط قصيدة النثر، على ما زعمت سوزان برنار، هي «الإيجاز (أو الاختصار)، والتوهج، والمجانية»؟ وهل أن عالمها هو عالم «بلا مقابل»؟ قد تكون ذرائع هذا القول في الاعلان الصارخ، «نحن في زمن السرطان»، أي في زمن هو المظهر النقيض لزمن العافية، ما يقتضي كتابة مختلفة هي نقيض كتابة العافية والتمام. من ذلك الاعتلال إذاً، وبسبب منه، كانت قصيدة النثر ضرورة. ولأنها كانت منه اتخذت شكله ومضمونه. فالواقع سرطاني، والحياة سرطانية، على غرار الخلايا السرطانية (العضوية) التي تتكاثر إلى ما لا نهاية مع فقدان وظيفتهما، ويكون التوالد والتكاثر (والتورم) مدعاة خلل واعتلال؛ وما يصح على الواقع والحياة، يصح في اللغة، إذ تميل هذه اللغة في العبارة عنهما إلى «هسترة متواصلة ومستميتة» لأصول صرفها ونحوها وانتظامها وتركيبها. تكاثر فوضوي في الخلايا، يوازيه، أو يخالطه، على نحو هذيان الجنون أو «اللعنة»، هذر من النثر المارق، أي النثر المنتثر والمنثور. فالمرض مرضان، اختزان هائل لمضامين الرفض وغرائزه وميوله ونزعاته، ودفق لغوي يكاد، لتزاحمه، أن يصاب بالعي، والتأتأة. وهذه كلها نقائض الفصاحة واللسان القويم. قد لا يجدي هنا أن نتخذ من شعر أنسي الحاج شواهد نثبتها بين السطور لكي يستقيم للقارئ إدراك مثل هذا التناقض الذي يفضي الى تناغم وانسجام. فالمقدمة وقصائد «لن» أصبحت بعد احتلال قصيدة النثر مكانتها (لا بل سيادتها على المناخ الشعري بالعربية)، أشبه بالاصل الناظم، نظراً وممارسة. غير أن ما تدور حوله المقدمة لا يجد تمثيلاً افضل من قصيدة «فقاعة الاصل، أو القصيدة المارقة» («لن»، ص 61)، وأقصد «شارلوت»، وهي ليست امرأة، وليست طيف المرأة، بل نثرة الاصبع. وقصيدة أنسي الحاج هذه، مارقة، أو هكذا يسميها، وعن حق، لأنها تجمع كل معاني الامراق والمروق والتمرق والامتراق، أي إنها تجمع كل معاني الانتثار و«سقوط الشيء، من الشيء»، و«الفساد» و«الخرق» و«التجاوز» والخروج من الشيء وعليه، من غير مدخله. على غرار السرطان، وعلى غرار اللغة الهستيرية.

(للفنان اللبناني _ محمود زيباوي)

في كل ذلك، كان أنسي الحاج يستعير التعريف من تجربة قصيدة النثر (الفرنسية) ليقوّض به نسقاً كان سائداً حتى في تجارب جاورته، زمنياً، وحملت راية التجديد والحداثة. لذا كان شعر أنسي الحاج يستجيب في «لن» (البيان) و «الرأس المقطوع»، إلى ضرورات التأسيس، وكل تأسيس هو شكل من أشكال القسر، فكانت قصيدته تميل إلى «الإيجاز»، وتتألق في «توهج» لافت غير مألوف، لكنها كانت تقف دون عتبة «المجانية»، فرفض الوظيفة يغاير التأسيس لهذا الرفض الذي هو «وظيفة» (للشعر) على نحو ما. وما جاء في «الرأس المقطوع» إنما كان بمثابة التأكيد، عبر تجربة الكتابة، على ما جاء في البيان/ المقدمة: «أول الواجبات التدمير». فكان إطلاق صرخة «المروق» مدوية، كأنما لإعلان نهاية زمن وتجربة، هما، في آن واحد، تدمير لعبارة الخارج وتدمير للذات الحميمة. وكان التلمس كأنه تلمّس ما في جوهر الفرد «المارق» من خلال صورته في مرآة مكسورة. فلا اللغة لغة، ولا الفكرة فكرة، ولا المعنى معنى. عبث يراكم عبثاً مدمراً يطاول، أوّل ما يطاول، مزاعم الذات الجمعية. وإذا كانت التجربة المجاورة آنذاك تفرد في إنشادها للجوقة محلاً ومكانة، فقد كانت أدعية أنسي الحاج وتداعياته ولغة جنونه تفاقم، عبر صرخة في العراء، فرادة الصوت التي لا تنتظر جواباً (خلاصاً؟) إلا أصداء الصوت.

الترسل وجانب الطمأنينة
لم تكن الصرخة عابرة، غير أنها كانت صرخة في قفر. وما خلفته لم يكن مجرد وهم أو صدى، بل ربما كانت الصدمة التي جعلت أنسي الحاج «يتجاوز الحد الذي يرسمه لنفسه» أو الأحرى، الصدمة التي أتاحت له، على الدوام، أن يبدد لغته نثراً وانتثاراً، قبل أن يعاود امتلاكها نضرة معافاة وجديدة. وكأن «هسترة اللغة» إبراء لها مما يعلق بها، في سياق التجربة، من استكانة للمعنى الواحد. لم يصبح الزمن معافى، وهو سرطاني ما يزال، غير أن «ماضي الأيام الآتية» كان مطهر القول فيه. والمطهر اختراع محض لذات تريد أن تجتنب الفصام الحاد، فتقيم على مزاج النقيضين ردحاً أو ملاوة، إنه القول الوسط، بين «المروق» و«اللعنة» و«الفساد»، وبين الرسل والاسترسال الذي هو استئناس وطمأنينة. لم يصبح الزمن معافى ولم تر النفس فردوسها الأرضي بعد، غير أنها تقيم بين عذابات التذكار وعذابات التوق والانتظار، اذ لم يستو النطق بعد على الرفق والتؤدة (أو «التمهل»، كونديرا) لكنه يكتم الصرخة في منزل أدنى إلى اليأس منه إلى الرجاء، وإن كان الرجاء بلغة مقاصده. ولذا يسود التواتر في لغة مصفاة لكنها تحمل عناصر من ترابيّتها الحارة. ولا يصدح الانشاد واستدعاء المنادى، من غير أن تطمئن إلى توأمها، الكائن المقيم بين عتمة ونور. الكائن الطيفي الذي لا يعطى له أن يكون مدمّراً (كما في بشارة المقدمة) كما لا يعطى له أن يبلغ استكانة الدعة والطمأنينة. وإذ ذاك لا تحتفظ قصيدة النثر من تعريفات «المقدمة/البيان» إلا بما يعينها على الاحتفاظ بحريّتها في إنشاء تجربة الإقامة على النقيضين، على العتبة بين الإيغال في النشيد، والمبالغة في الايجاز، فلا يطلق عنان اللغة جامحة إلى حدود «الهسترة» ولا تزمّ إلى حدود الاقتضاب. غير أن المؤكد أن القصيدة ما عادت هي نفسها، وما عاد أنسي الحاج شاعر «لن» وحسب، بل أصبح أيضاً شاعر «ماضي الايام الآتية» الذي تُلي بـ«ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة» (1970 للطبعة الاولى)، والذي ربما كان اجمل مجاميع أنسي الحاج على الإطلاق.
فقارئ «ماذا صنعت بالذهب...» يأنس الى لغة مختلفة، أو الأحرى، إلى إيقاع لغوي مختلف، لأن ما يتبدل في تجربة أنسي الحاج ليس المعجم الهائل الذي يستخدمه، بل نبرته. وما كان يبدو محض انتثار متعمّد للغة ترفض أشكال اتّساقها المسبقة، يستحيل ترسلاً في الكلام فيه «التوفر والتمهّل والتثبت والتفهم والترفق من غير أن يرفع صوته شديداً» (لسان العرب)، وكأن الكلام يتآلف (في تنافره) نبرة قبل أن يستقيم الإنشاد نشيداً (كما في «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»).
قد يكون «ماذا صنعت بالذهب...» علامة على حدة في سياق تجارب قصيدة النثر العربية، وربما قيّض له ذلك، لأنه كان محل اختبار ومزاج لشفاء مزدوج؛ الأوّل من دمار العالم، والثاني من وهم لغة قادرة على اجتراح المعجزة. معجزة النبوة والعرافة، ومعجزة الألوهة.
صارت الأرض أرضاً والسماء سماءً والفكرة فكرة والمرأة امرأة... وصار أنسي الحاج ما كانه وما هو في حاضر الآن وما سيكونه في مقبلها، وذلك في وقت معاً، وربما صارت اللغة احتجاجاً مكتوماً «لا ترفع صوتها شديداً» أشبه باعتمال الهجين من كل شيء. نصفها سماوية ونصفها ترابية ونصفها خبر ونصفها غناء ونصفها نثر تبرع في جمع هذا القدر من الانصاف في واحد متعدد. هو العالم الذي لا يني أنسي الحاج يرسم حدوده ليعاود محوها مجدداً، فيكون العالم عالماً ويكون العالم ذروة التلاشي في قيمه التي هي حقيقة أكبر منه. وفي هذا مقدار من شفافية الانتماء الى عناصر بسيطة، وفيه أيضاً حرية اليتيم المأسوية.

اليتيم
واليُتم يُتم الفقدان الأبدي. الفرادة، لا الصلة ولا النسب. فرادة تقف مثل علامة على عتبة أشياء، وعند منعطف عوالم ذات أبواب مغلقة. ولذلك ربما جُعِلت مقدمة «لن»، منذ صدورها (في مجلة «شعر») إلى اليوم، ذريعة لسجال تنظيري دار ويدور (ولو متأخراً) حول قصيدة النثر (ولنا في السجال الشعري المصري الآن خير مثال على ذلك)، غير أن تجارب قصيدة النثر العربية التي تلت ما سُمّي «مرحلة الروّاد» لم تستلهم شعر أنسي الحاج، وكذلك الأمر التجارب الشعرية اللبنانية. لا بل ربما كان محمد الماغوط (وهو أبرز شعراء هذه القصيدة، إلى جانب الحاج، في ذلك الوقت قبل أن ينحاز إلى المسرح ثم إلى الصمت)، إذاً ربما كان محمد الماغوط الأبرز أثراً في تجارب الشعراء اللاحقة، او حتى سواه ممن لم يكتبوا قصيدة النثر. وليس في هذا القول أي رغبة في خوض سجال، وإنما المغامرة في طرح سؤال ليست الإجابة عنه إجابة بديهية كما تبدو: لمَ يُجعَل أنسي الحاج أسير «لن» ومقدمته؟ ولم لا تُقرأ تجربة هذا الشاعر في سياق اتصالها وانقطاعها وتناقضها وإنكارها المتصل لما أنجزته برفضها الحدود التي رسمتها لذاتها بداية ثم لم تكفّ عن الخروج عليها وعنها، على غرار القول الذي يُنشأ على استدراك لا يني يفضح نقصان القول إذ يقال. ولذلك ربما يبقى للأشياء غبطة أن تقال تكراراً.
قلة قليلة من الشعراء يتواصل السجال حولهم، أو الأحرى يُستأنف، كلما استؤنفت أسئلة الشعر، وأسئلة القصيدة التي صارت نثراً، وأنسي الحج واحد من هذه القلة القليلة. خمس مجموعات له يُعاود طبعها بعد سنة واحدة من صدور مجموعته السادسة «الوليمة» (1994)، أي بعد نحو عشرين عاماً من الصمت. فإذا بالسجال يُستأنف، وإذا بالسؤال (سؤال الشعر) يُطرح مجدداً، وبالحماسة التي تفترضها أعمال لم تفقد شيئاً من نضارة قولها: «لن»، «الرأس المقطوع»، «ماضي الأيام الآتية»، «ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة»، و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع».
فلا شك في أن قصيدة النثر قد استعادت اليوم بعضاً من أبرز علاماتها المضيئة.

* مقال منشور في «الملحق الثقافي» في جريدة «النهار» (السبت 4 آذار 1995)