ليس كما اتَّفَقَ، ولا كتدحرُجِ «جلمود صخرٍ حطّه السيل من علٍ»، أن تحب شاعراً ــ سواء أكان المتنبي أم أنسي الحاج ــ وأن تثابر على حُبِّهِ. بل الأدنى إلى المعقول لربما أن يحبَّ واحدنا المتنبي، مثلاً، من أن يحبَّ الحاج؛ فالمتنبي، مهما تعاطاه الواحد منا، ناءٍ بعيد، وكل ما يتناقله الرواة عنه عُرضَة للنقد والجرح، وكلّ ما في الكتب، حتّى العَدل منها والمنصف، عرضة للنقد والمراجعة. أما أنسي (الحاج)، ورغم مرور خمس سنوات على رحيله، ورغم أنَّ الخمس السنوات كفيلة بأن تُحيل عِظامَ أعتى جثة، وأمرَّها، مكاحِلَ، ــ (ولقد كان أنسي ذا عظم مُرّ) ــ أمّا أنسي، فهنا، أقرب من حبل الوريد، بمتناول الذكريات ــ والذِّكْرياتُ، إن صح ما ذهب إليه أحدهم يوماً «ضفادع»!

لمائة سبب وسبب لك أن تكره المتنبي، ولضعفها من الأسباب، لأنه هنا، قريب، ولأنك عرفته بمقدار ما قرأته، لك أن تكره أنسي الحاج ولكنك، رغم كل الأسباب الموجبة لأن تكرهه، تحبه، ويزيدك هذا الحب حيرة: «تَبّاً له وتَبّ... ما الذي يغفر خطايا الشعراء وسقطاتهم؟»؛ (وأسارع إلى الإضافة وإلى تقييد قولي: «الشعراء الشعراء» فلا يدرج نفسه في عداد هؤلاء كلّ ذي أحد ذيّل بتوقيعه شيئاً ما أسماه قصيدة).
... تحبه وتكرهه، وتُكبِر فيه هذا، وتعتب عليه ذاك، ومن حيرتك تقول: لحسن الحظ أنَّ الشعراءَ، شأنَ سائر البشر، يموتون، وأنَّ غيابهم، كأي غياب، يرخي من سطوتهم، ويُشْحِب من ظلّهم، بل ويُجَرِّئُ عليهم.
في الذكرى الخامسة على رحيل أنسي الحاج لا بأس لربما من بعض التَّجَرُّؤِ عليه، ومِنَ التَّساؤل، عما يبقى بيننا وفينا من تركاته الكثيرة. ولا عبثاً أقول قولي هذا ولا لكي أفسد الذكرى على محييها... فإنما نتجرأ على أنفسنا متى ما تجرأنا على أنسي الحاج أكثر مما نتجرأ عليه، وإنما نتطفل على مستوراتنا نحن متى ما تطفلنا على حياتَي أنسي الحاج العامة والخاصة أكثر مما نتطفل عليه أو نتعدى أطواراً لا ينبغي تعدّيها... (ولا سيما أن حياتَيْهِ تينك كثيراً ما تعانقتا عناقاً من الحميميَّة بمكان يصعب معه فصل إحداهما عن الأخرى).

تحبه وتكرهه، وتُكبِر فيه هذا، وتعتب عليه ذاك، ومن حيرتك تقول: لحسن الحظ أنَّ الشعراءَ يموتون


فضلاً عن القلم، كان أنسي الحاج صاحب سلطة، وككل صاحب سلطة كان ضنيناً على سلطته هذه، حريصاً على تمويه أسباب احتفاظه بها، ومن ثم ما أحاط به نفسه من هالة ومن مريدين. ولا عيب فيه أنَّه كان كذلك، ولا عيب أنَّ «حسن التخلص» كان سياسته الأثيرة. ولكن أنسي الحاج، إلى هذا جميعاً، لم يتزلّج على الشعر وغيره من فنون الكتابة فحسب، بل كان قطعةً من بلد، («لبنان»)، أقلُّ ما يقال اليوم في هذا البلد إنَّه يتقادم، رأي العين، على قدم وساق... وبهذا المعنى فأنسي الحاج، كما آخرين، ليس ملك نفسه، ولا ملك مريديه، القدامى والمحدثين، بل مرفق عام يجري عليه «حق المعرفة» كما يفترض أن يجري على سواه من المرافق العامة، وبهذا المعنى أيضاً يحلو لي أن ينكبَّ أحدهم يوماً على وضع سيرة تُحْصي حَيَواتِ أنسي الحاج الكثيرة فيرثيه الراثون على بينة من أمرهم ومن أمره...
لست ممن يعظّمون من شأن «الحقيقة»، أو ينسبون إليها فضائل شفائيّة سحريّة، ولا ممن لبسوا السواد يوم طرد أنسي الحاج طرداً من «النهار»، بيت أبيه، وكان ذلك إيذاناً بما يتسارعه تقادم البلد الذي كان هو، أنسي الحاج، أحد عُمَدِه، ولا ممن راعهم أن ينتهيَ به الأمر في «الأخبار»، ولا ــ بما يتجاوز أنسي الحاج والمناسبة ــ ممن يحمِلون تقادم لبنان ذاك على محمل النازلة الكبرى التي تنذر بالويل والثبور، ولا... ولا... ولكن أن تحبّ شاعِراً من طريق القراءة، ثم أن يُكتب لك أن تتّصل بينك وبينه معرفةٌ شخصيّة، ثم أن تعمل في مؤسسة يشارك هو في إدارتها، ثم أن تلتقي به مجدّداً بوصفك ناشِراً لأعماله الأولى، ثم... ثم... ثم أنْ يموت، ثم أن تحاول أن ترثيَه صادقاً... كلا، ليس كما اتَّفق أن تُحِبَّ شاعِراً... ليس كما اتَّفق أنْ تُحبَّ أنسي الحاج!

* روائيّة وناشرة