بعد أسابيع من عرضها الأوّل، لا تزال مسرحيّة «الوحش» تستقطب المشاهدين في بيروت. يحتشدون آخر أيام الأسبوع فوق المدرج الصغير، في مسرح الجيب المسكون بمتعة الفرجة. «محترف الممثلين»، يحيل إلى الـ«أكتورز ستوديو» الشهير في مانهاتن الذي اقترن بأسماء بعض كبار الممثلين والممثلات في أميركا منذ الخمسينيات، من لي ستراسبرغ إلى أل باتشينو… وقد عبَر فيه، بدوره، جاك مارون خلال مرحلة تكوّنه الأميركيّة. الفضاء المسرحي الذي أعيد تجهيزه حديثاً، بتقنيات عالية، وحلّة مينيمالية متقشفة، يحتضن مشروع هذا المخرج اللبناني، في الطبقة الأرضية لعمارة سكنية في الأشرفيّة. إذا كنت تقصده للمرّة الأولى، فستحتاج إلى من يدعوك للدخول، ويرشدك إلى الباب. كأنّك تدلف إلى ناد سرّي، وتتهيّأ لعيش مغامرة فريدة. وهي فعلاً كذلك! علمنا أن التجربة ستنتقل قريباً للقاء جمهور أوسع في «مسرح مونو»، لكننا نشجع على اكتشافها في مكانها الأوّل، حيث التماس شبه مباشر مع الثنائي كارول عبود ودوري السمراني في لعبة آسرة، تقطع الأنفاس، على حافة الهاوية. ذاك الفضاء الحميم يحتضن كل ليلة حفنة صغيرة من المشاهدين، سيهبطون إلى قاع المدينة، ليتلصصوا على مواجهة عنيفة ورقيقة، فجّة وشاعريّة، فوق «حَلَبة» خاصة. رقصة جنائزيّة بين رجل وامرأة، غريبين، مهمّشين، منسيّين على قارعة العالم، يبحثان سدى عن رجاء، عن خلاص. جاك مارون اسم على حدة في المشهد المسرحي اللبناني. تحتاج إلى وقت كي تحيط بمشروعه الذي يتكوّن أمامنا على امتداد محطات تختلف الواحدة عن الأخرى، بتوجهها الجمالي، وخطابها وأسلوبها. يعمل بصمت وخفر، من دون صخب، وبلا ادعاءات نظرية، ويحقق الإقبال في بيروت. شيئاً فشيئاً يثبّت مكانه في المشهد اللبناني، حاملاً تأثراته الخاصة بالمسرح المعاصر (الأميركي تحديداً، لا حصراً). ويعيد إلى المخرج مهمّته الأولى التي كدنا ننساها في خضم «التجريب»، و«العمل الجماعي» و«الفنون الأدائية» وغيرها: أي المخرج كـ«قارئ» نصوص، يستخرج منها الأسئلة ويعيد النظر بالثوابت، ويخلق المطابقات مع الواقع. المخرج كحِرَفيّ في خدمة النص المسرحي: من لحظة اختياره، مروراً بعمليّة نقله إلى لغتنا، وصولاً إلى استنطاقه وجعله يخاطب مكاناً وزماناً مختلفين عن إطار وظروف كتابته الأصلية وعرضه الأول. المخرج أيضاً كمدير للممثل، وكخالق حالات، ومنتج لـ«المعنى»، يكاد يمّحي خلف عمله وممثليه، وخلف العالم الذي خلقه. يكفي أن نتذكّر بين أعمال جاك مارون، «فينوس» (ريتا حايك وبديع أبو شقرا ــــ 2015) التي قدمت أكثر من مئة مرّة، وتدور حول علاقات الرغبة والشهوة والخضوع والسيطرة في المسرح والأدب كما في الحياة، من خلال كتاب ليوبولد فون تزاخر ــــ مازوك كما أعاد قراءته دافيد آيفز (لبننتها لينا خوري). ولا يمكن أن ننسى «فرَضاً إنو» (غبريال يمّين وطلال الجردي ــــ 2016) التي جاءت في قالب آخر تماماً، أقرب إلى مسرح اللامعقول، في مناخات غامضة غير بعيدة عن لعبة السلطة والهيمنة والقمع والاستغلال والعلاقات السادو ــــ مازوشية (اقتباس غبريال يمّين عن مسرحية ألن أركين «واقع افتراضي»).
هذه المرّة يذهب المخرج الشاب (إذا جاز التصنيف) إلى مزيد من الواقعيّة، ويشتغل على البعد السيكولوجي للشخصيات، ناسجاً خيوط مواجهة صاخبة، تدور داخل حلقة مقفلة، في عالم بلا أفق، بين بيرتا وداني بَطَلي جون باتريك شانلي اللذين انتقلا من البرونكس الفقير في نيويورك لينبعثا عندنا في «مقطع السكّة». «الوحش» من أولى المسرحيات التي كتبها شانلي، بل هي التي لفتت الأنظار إليه دراماتورجيّاً أوائل الثمانينيات، بعدما شق طريقه في عالم السينما، وكان قد توّج منذ عام 1988 بأوسكار أفضل سيناريو عن فيلم «ضوء القمر» (للكندي نورمان جويسون). ثم جاءت جائزة «بوليتزر» التي حازها عام 2005 عن مسرحية «شَكّ»، لتكرّسه كاتباً مسرحيّاً. وقد تواصل جاك مع الكاتب الإيرلندي النيويوركي، وحصل منه على حقوق «داني وزرقة البحر العميق» ــــ هذا عنوان المسرحية الأصلي بالإنكليزية ــــ لتكون المرّة الأولى التي يُقدَّم فيها شانلي في العالم العربي (تعريب أرزة خضر بالعامية اللبنانيّة).
تبدو مسرحيّة شانلي مكتوبة في بيروت، الآن وهنا. بيرتا امرأة تجرّ حياة من العذابات والخيبات، وحدها في حانة، تريد أن تفلت من حياتها البائسة، من العفاريت التي تطاردها. سنكتشف أنّها تحمل عبئاً فظيعاً، سرّاً يستعصي على البوح. لقاؤها بداني في هذا المكان الموحش، سيكون فرصة للهروب، فسحة موقتة خارج الواقع. لكن هل الهروب ممكن حقاً؟ ستعيش قصة عشق عابر مع حطام رجل غريب، انتشلته من قاع المدينة، لتنزلق علاقتهما تدريجيّاً إلى العناق المرّ. في البداية نحن أمام كائن تائه، نزق، عدائي، لا يجد إلا العنف علاجاً للألم الضارب في أعماقه. العنف المجاني هو وسيلته للتغلب على فوبيا الاختناق والخوف من توقف القلب، وللتخفيف من عقدة الاضطهاد والاغتراب والإقصاء التي تلاحقه. هل هو في الحقيقة «وحش»؟ أم إنسان بسيط ومسحوق، ممنوع من الحياة، سيستعيد، بفضل سراب الحب، إنسانيته المستلبة؟ وفي مواجهته هل إن «الجميلة» مختلة التوازن كما تبدو لنا؟ بيرتا المعتادة على العنف الذكوري والإقصاء، ليّنة في قسوتها، تعرف حقّاً ما تريد وتحرّك الخيوط بمهارة وثقة. «الجميلة» و«الوحش»، كلاهما ضحيّة لمجتمع متوحّش لا مكان فيه للضعفاء، ولا خلاص لأهل الحضيض. كائنان ملعونان في المتاهة، في العالم السفلي للمدينة، ستجمعهما الكلمات، والتداعيات، والاعترافات. واشتباك المشاعر المكبوتة. وحدها لغة الحواس قادرة على إنزال هذه الأحمال الثقيلة عن كاهل رجل وامرأة مجرّدين من كل شيء. في فراش موقت، يتبادلان الأوجاع والجراح والأحلام. هي استعملته لتستعيد طمأنينتها، و«تخرج من رأسها»، وتنام أخيراً. وهو، سيصدّق التمثيلية الغرامية، سيتحوّل بسحر ساحر، سيرى بارقة أمل، ويتمسّك بها تمسّكَ غريق بخشبة الخلاص. معاً يبني الهامشيّان، في هذا المكان المعلّق، في هذا الوقت المعلّق، قصراً من كرتون لا نعرف كم سيصمد. سيصدقان حلمهما للحظة، مع أن كل شيء ينذر بالأفق المسدود. حلم ليلة، لا نعرف ماذا سيبقى منه مع طلوع الضوء…
لكن، خلافاً للمظاهر، ليس «الوحش» بالنص السهل، بل هو محفوف بمخاطر الأعمال الواقعية والمباشرة. الحكاية المعلّقة بين الوهم والواقع، بين الشاعرية والفجاجة، يتطلّب تقديمها قدرة على الإحاطة بالحركة الداخليّة للحوار، والإيغال في العمق النفسي لكل شخصيّة. إنّها قصّة ارتطام بين عزلتين، تتطلّب إتقاناً عالياً في الأداء، للتعبير عن تطوّر المشاعر الملتبسة، وتجسيد التحولات الدراميّة: أي الانتقال من العلاقة الصدامية والحذرة بين الطرفين، إلى انغماس كل منهما في جراح الآخر، والتواطؤ معه لمحاولة الإفلات من اللعنة الطبقية والوجودية التي تلاحقهما، ودخول دائرة الوهم الجميل الذي يجعل من إنارة الجيران قمراً يضيء هذا العالم المظلم، ومن هسهسات الليل نفير باخرة تقلع إلى ميناء بعيد. وقد نجح جاك مارون في نسج لعبة تحبس الأنفاس، وتستفز المشاعر، وفيّاً لرؤيا جون باتريك شانلي، بين الحانة المظلمة، وغرفة نوم بيرتا الضائعة على السطوح في حي شعبي فقير. الإضاءة هي أحد أسرار الرؤيا الإخراجيّة، والموسيقى نبض العرض الخفي (من الشعبي المصري, فرقة «ايمزى», «مشروع ليلى»). أما عصبه فهو التمثيل.
إذا كان مسرح جاك مارون هو مسرح ممثل بامتياز، فإن «الوحش» هي مسرحية كارول عبّود


فهذا كلّه لم يكن ممكناً لولا التمثيل، الحجر الأساس في هذا النوع من المسرح الحميمي. كارول عبّود مدهشة وآسرة، تعود إلى الخشبة بعد غياب، لتؤدي «أحد أجمل الأدوار النسائية على الخشبة اللبنانية من زمن بعيد»، بشهادة المسرحي روجيه عسّاف. في مقابل أدائها الداخلي، يبدو دوري السمراني أحياناً ميّالاً إلى اللعب الخارجي بالجسد والصوت، على حساب الشعور. لعلّه لم يفلت تماماً من أسر تجربته التلفزيونية، أو كأنّّه لا يزال يبحث عن تفصيل صغير ضائع للإمساك بشخصيّته. هذا لا يعني أنّه لم يشحن العمل بطاقته الخاصة، بل إن حضوره «العضلي» يبدو منسجماً مع الشخصية التي يؤديها. ويأتي تناقض أسلوبه مع الأداء الجوّاني لشريكته، ليخدم سيرورة العمل وديناميّته وهويّته. أما كارول عبّود، هذه الممثلة التي تقف على حدة بين بنات جيلها، فتصيبك في كل ما تفعل. لقد اخترعت «بيرتا»، وخلقتها على طريقتها، وجدت لها العمق النفسي والشعوري. لعلّها أعارتها جسمها وأوجاعها. ذاكرة الألم، والطفولة العالقة، وكره الأب، والإحساس بالهباء واللاجدوى، والعدميّة، ونداء الأنوثة، وعقدة الذنب، ومكابرة الضحيّة، والنزعة الانتحاريّة، والسوداوية المحتفلة بفضلات الحياة… وإضافة إلى ما سبق، القدرة على تقمّص الإحساس بالسعادة ولو عابرة وافتراضيّة. كل ذلك يرشح من تلوّنات صوتها، ولهجتها، ونبرتها، ولفظها، وحركاتها الفجائيّة، ومشيتها المائلة، وإيماءات وجهها. يرغب المشاهد ألا ينتهي العرض. إذا كان مسرح جاك مارون هو مسرح ممثل بامتياز، فإن «الوحش» هي مسرحية كارول عبّود.

* «الوحش»: 20:30 من الخميس إلى الأحد ــــ «محترف الممثلين» (مار متر ــــ الأشرفية ــــ بيروت) ــــ للاستعلام: 01/200448 ــــ 79/128170