باريس | تزامناً مع مئوية اكتشاف قبر أشهر الملوك المصريين القدامى، يستحضر الفرنسيون الضريح الملكي عبر عرض أكثر من 150 قطعة أثرية وُجدت بداخله، منها ستون قطعة تغادر المتاحف المصرية للمرة الأولى. توزعت هذه الكنوز والتماثيل ضمن فضاءات مضاءة بطريقة خافتة وعلى وقع إيقاعات موسيقية قديمة وعروض فيديو، ما يمنح الزائر إحساساً بأنه داخل هرم محفوف بالأسرار الغامضة. وبينما يغيب قناع الفرعون الذهبي لاستحالة مغادرته القاهرة مثلما يُمنع إخراج لوحة الموناليزا من متحف اللوفر، تعوّل السلطات الفرنسية على أن يتجاوز الحدث الثقافي النجاح الذي حققه معرض مماثل عن هذا الملك الشاب في باريس عام 1967.

يقودنا معرض «كنوز فرعون» في القاعة الكبرى في La Villette الباريسية في رحلة مشوقة إلى تاريخ المصريين القدامى. رحلة تبدأ من المدخل حيث يقف الزوار في طوابير وهم يشاهدون ملصقاً كبيراً لوادي الملوك في البرّ الغربي في مدينة الأقصر، وفي وسطها تظهر فتحة قبر الملك توت عنخ آمون (1342 ق.م – 1326 ق.م). ثم يتوجه الزوار نحو باب عليه نقوش هيروغليفية لا يفتح إلا بعد عرض فيديو في السقف يقدم نبذة وجيزة عن هذا الفرعون الشاب الذي حكم مصر من سنة 1336 ق م إلى 1326 ق م، ثم غاب في دهاليز النسيان لآلاف السنوات قبل أن يعيده عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر ( 1874-1936) إلى التاريخ في تشرين الثاني (نوفمبر) 1922، ويصبح اكتشاف قبره أهم اكتشاف في القرن الماضي لغاية اليوم، لا سيما أنّه القبر الفرعوني الوحيد الذي عُثر عليه سليماً بكامل محتوياته من كنوز. ما إن تفتتح بوابة جناح المعرض، حتى يتراءى تمثال آمون حارس الملك وهو من مقتنيات «متحف اللوفر».


ثم تتوزع التحف والقطع الأثرية على باقي الغرف على وقع إيقاعات آلات موسيقية قديمة، وإضاءة خافتة. ما يعطي للزوار انطباعاً بأنهم داخل القبر الملكي أو في جوف هرم، فيما تبهر القطع الأثرية التي تستخدم في الطقوس الجنائزية والدينية الجمهور، إلى جانب الحلي المرصعة بالحجارة الكريمة وتماثيل الآلهة المصنوعة من الذهب، ومقتنيات الملك توت عنخ آمون، من بينها الصناديق الخشبية والأواني الكانوبية وتمثال ألكا الخشبي المذهب وأواني من المرمر، وكل ما كان الفرعون الشاب يحتاج له في رحلة الموت حسب معتقدات المصريين القدامى. واكتشف الزوار نحو ستين قطعة أثرية سمحت السلطات المصرية بعرضها للمرة الأولى خارج متاحفها أبرزها: تمثال لتوت عنخ آمون واقفاً على ظهر نمر أسود، كما تعرض قفازات محبوكة بخيوط من الكتّان، كان يرتديها الفرعون الشاب خلال رحلة الصيد، وقد تم الحفاظ عليها بطريقة مذهلة رغم أنّها تعود إلى أكثر من 3000 سنة، إضافة إلى عرض تمثالين لحارسيه، ودرع من الخشب المذهب وتمثال لحورس في هيئة صقر... لكن غاب القناع الجنائزي الذي يزن عشرة كيلوغرامات من الذهب بموجب القانون المصري الذي يمنع خروج هذه التحفة من البلد، فيما أعار «متحف اللوفر» هذا المعرض الكثير من المقتنيات المرتبطة بتاريخ توت عنخ آمون وفترة حكمه.

الفرعون الشاب يلهم بيونسيه
على جدران الأجنحة، تعرض فيديوهات وصور فوتوغرافية تظهر مراحل البحث عن قبر توت عنخ أمون على يد هوارد كارتر منذ التحاقه بمصر عام 1891 ثم اشتغاله طيلة إحدى عشرة سنة على التنقيب والحفريات لغاية اكتشافه للكنز المكون من 5398 قطعة، ثم الترويج لأسطورة لعنة الفراعنة في الصحافة البريطانية بعدما توفي ممول البعثة التاريخية اللورد كارنارفون سنة 1923 بلسعة حشرة داخل القبر. هناك عرض فيديو آخر يوضح الدراسات العلمية التي أجريت على المومياء منذ 1965 وما نجم عنها من فرضيات حلّ لغز موت الفرعون عن عمر 19 سنة. ويظهر جناح آخر مدى تأثير شخصية هذا الفرعون على الفنون الحديثة كالسينما والموسيقى وعالم الموضة والإعلانات والديكور، واستحضاره خلال الاستعراضات الفنية للمشاهير من المغنية الأميركية مادونا إلى مواطنتها بيونسيه، لندرك كيف أضحى توت عنخ آمون أشهر شخصية تاريخية رغم أن اسمه لم يظهر في قائمة الملوك وهُدمت آثاره بعد وفاته بسبب الاضطرابات السياسية التي تزامنت مع فترة حكمه.
جناح يبرز تأثير شخصيته على الفنون الحديثة كالسينما والموسيقى وعالم الموضة والإعلانات والديكور


تعبر هذه التظاهرة الثقافية عن التناغم الإنساني بين الفرعون الشاب وعالم الآثار البريطاني، كأن صداقة قوية جمعتهما رغم البعد الزماني الكبير بينهما، ويظهر ذلك جلياً في أحد الأجنحة حيث وُضعت كأس كلسية كتبت عليها أمنية بالحروف الهيروغليفية: «حتى تعيش ملايين السنين، وحتى تتمتع عيونك بالعجائب». وكانت هذه الآنية أول ما وجده هوارد كارتر بعدما فتح القبر الملكي وفق ما جاء في الفيديو المرافق. ويبدو أن أمنية الفرعون قد تحققت وأضحى خالداً. المعرض حلّ في لوس أنجلس الأميركية قبل أن يحط رحاله في باريس إلى 15سبتمبر (أيلول) المقبل، ثم ينتقل إلى لندن وعواصم أخرى لم يُكشف عن أسمائها، قبل أن يستقر في المتحف المصري الجديد الذي يشيد حالياً بجوار الأهرامات في الجيزة قرب العاصمة القاهرة ويكلف بناؤه مليار دولار، وسيفتتح عام 2022 في ذكرى مئة سنة على اكتشاف توت عنخ آمون. وتأمل السلطات المصرية أن تعيد جولة معرض الفرعون الشاب السياحة إلى مصر بعدما تضررت من الهجمات الأخيرة. ويشتهر الفرنسيون بشغفهم الكبير بالحضارة المصرية منذ اكتشافها خلال حملة نابليون على مصر وفك عالم الآثار الفرنسي جان فرانسوا شامبليون (1790-1832) للحجر الرشيد. وهذا ما يفسر الاحتفاء الإعلامي الكبير بالحدث الفني من قِبل أكبر الصحف والمجلات الفرنسية، وخصصت القنوات التلفزيونية أسبوعاً من البرامج حول تاريخ مصر وثقافتها. علماً أنّه في 1967، استقطب معرض «توت عنخ أمون وزمنه» في باريس مليوناً و241 ألف زائر حيث عرضت 45 قطعة أثرية، بينما سمح معرض ثان عن رمسيس الثاني عام 1976 بالتعرف إلى قطع جديدة من قبر الملك الفرعوني. كما يحتوي «متحف اللوفر» مجموعة كبيرة من الآثار المصرية القديمة، وتزين المسلة الفرعونية شارع الشانزليزيه الشهير.

* «كنوز فرعون»: حتى 15 أيلول (سبتمبر) ـ La Villette، باريس ــــ lavillette.com