رسمت سيتا مانوكيان (1945) طويلاً. وحين توقّفت عن الرسم ذات يوم، جاء من سرق لوحاتها في المنام ليعيدها مجدّداً، ربّما خوفاً من أن يوقّعها باسمه كما قالت مازحة. رسمت قبل الحرب الأهلية وخلالها وبعدها، منتظرة من الرسم وحده تفسيراً لما كان لا يأتيها إلا بأسئلة أكثر مشقّة: هل يمكن لأحد أن يرسم إذا كان لا يعرف نفسه؟ الرسم كان تمريناً، وربما طقساً في رحلة تأملية أوسع بالنسبة إلى الفنانة اللبنانية التي ظهرت كأيقونة للمحترف التشكيلي البيروتي خلال الحرب. عادت سيتا مانوكيان، بعد 15 سنة من الغياب المتواصل، لزيارة مدينة استحال عنفها خوفاً بارداً وأجوف في لوحاتها نهاية تلك الفترة. في الماضي، استطاعت أن تلاقي بضعة أمتار في غرفتها، قبل وقوع لوحتها على هندسة الخارج المتفسّخة والقلقة. ومن أميركا التي أرادت أن تسقي مساحاتها الباردة كي تنبت زهوراً (حين هاجرت إليها سنة 1986)، انتزعت عزلتها، ثم إقامتها مع أصدقائها البوذيين ممن تقضي معهم وقتها الآن. عبّرت عن المناظر الأميركيّة بتجهيز فني (1991) لورود حمراء معلّقة بشكل دائري على الجدار، يخرج من وسطها خرطوم مياه بلاستيكي. في أعمالها، علينا أن نفهم الفضاء الذي كان ذات مرّة مكاناً جعلت من أزقته جلدها المبقّع بتدرجات الزهري، وبحثت عن نفسها فيه، ما يعني أنها بحثت عن الآخرين فيه أيضاً، وعن موقعها في مساحته المفتتة. هي الآن راهبة بوذيّة في الرابعة والسبعين تدعى آني بيما تسولتريم درولما. جاءت الشهر الفائت إلى «متحف سرسق» لتوقيع كتاب Seta Manoukian: Painting in Levitation («كاف بوكس» و«مجموعة سرادار» ــ راجع الكادر).
«صباح الأحد» (أقربائي) ـــ (أكريليك على كانفاس ــ 170×150 سنتم ــ 1981)

قبل سفرها، قابلناها في فندق نهاية شارع الحمرا. أطلقت ضحكاتها مرّات حين كانت ذاكرتها تأخذها إلى أيام بعيدة، إلى رحلات المشي الطويلة والشقية مع الروائيّة علويّة صبح. عندما ننظر إلى سيرة مانوكيان، فلا بد أن نفعل ذلك بطريقتها في استعادة الماضي. لا تسترجعه بتسلسل مراحل العمريّة أو تواريخ محدّدة. تقيسه بلحظات ومصادفات وتحوّلات تحمل وعياً كان يخمد أسئلتها أحياناً. تشير إلى ضوء أبيض رافقها لأيام متواصلة، وومضات تمكّنت فيها، حين كانت في الـ16 من عمرها، من مراقبة نفسها، كأنها منفصلة عنها. لحظات كانت متجذّرة في تجربتها الفنية إن لم تكن هي التي هزّتها، وبعثتها، وصنعت تحوّلاتها الكبيرة منذ نهاية الستينيات إلى اليوم، في تنقّلها بين الرسم والطباعة والتجهيزات الفنيّة والأدائيّة، وصولاً إلى لوحتها الحاليّة التي بلغت ذروة من التجريد والكثافة منقادة إلى الفلسفة البوذية وفهمها للطبيعة والإنسان.
من روما التي درست في أكاديميتها للفنون الجميلة، حفظت الشمس والصخب وطاقة كبيرة دفعتها إلى تمضية وقتها بين المعارض والمتاحف والرسم. سنة 1967 كانت العودة صادمة للفنانة التي تتلمذت على يد التشكيلي الراحل بول غيراغوسيان. بيروت مضطربة اجتماعياً وسياسياً. بالنسبة إلى فتاة ولدت لعائلة أرمنية، كان بديهياً «اعتقادي لفترة أن الأشرار كانوا كلهم من الأتراك». عرّفتها جلسات المقاهي على ظلم في بقع أخرى: فلسطين، والجزائر، وأفريقيا وأميركا اللاتينية. سنوات قليلة، ورأت الحرب، مثل فناني وناس تلك الفترة. وانخرطت فيها بطريقتها، أكان في ملصقات رسمتها للحزب الشيوعي اللبناني، أم في لوحات ليومياتها وخرابها. حين يأتي أحد على ذكر مانوكيان، أوّل ما قد يجيء إلى الذهن أعمالها الملوّنة خلال الحرب. لكن وراء ذلك الفضاء المديني المهشّم الذي نقلته بأسلوب ما فوق واقعي، ثمّة غرفة سريّة تخبئ عالمها الأول. إنها لوحات تنمّ عن انشغالات خافتة كبداية لاختبار العلاقة مع الفضاء، أيّ فضاء. كانت تتسمّر طويلاً أمام المرآة، للبحث عما يتجاوز جسدها. تختلف الهيئات الخارجية أمام المرآة. وجه يحدّق إليها مباشرة، وفي مرآة خلفه، يظهر تمثيل بعيد للجسد نفسه عبر بقع لونية غبشة. في بورتريهات أخرى، يبدو الجسد والوجه أكثر سكوناً أمام جدار أبيض. سكون يقبع على بحث بصري وجوّاني مؤرق كان يمدّ اللوحة والغرفة الضئيلة بكثافة شعورية خصوصاً عبر تقنيات تختزل هواجسها في مراقبة الذات، فتظهر قدم، ونهد ويد على حافة الغرفة التي تحتل المساحة الأكبر. إنه البياض. تجلس قبالة الجدار إلى أن يفقد مادّيته، فينقشع كمدى لانهائي «فهمتُ من الجدار الأبيض أن كل شيء يأتي من الباطن». كان ذلك قبل معرفتها بأنه تقليد قديم اتبعه الصينيون كتمرين للعبور «إلى حيث يخرج الشعر والموسيقى».

«شارعي» (أكريليك على كانفاس ــ 150×170 سنتم ــ 1982)

في تلك الأركان المغلقة، اشتقّت مفردات لوحتها في «المرحلة البيضاء» تحديداً. شراشف السرير مبعثرة، لكنها كدرجات كرّرتها في لوحات عدّة، لتوصلها إلى حالة أعلى من النقاء، حين صارت الوجوه تخرج من السرير، كفعل نهوض واستقامة وفق ثنائية العمودي والأفقي التي ستبرز في أعمال لاحقة. بعد المرايا، والكهف الداخلي، وسكون الأشياء والعناصر واهتزازها، رسمت المرضى خلال حرب السنتين في مجموعة لم تنل شهرة سابقاتها. غرف المستشفيات، كانت غرفاً أيضاً لكنها المسارح الأمثل للألم البشري. بين الجرحى الذي كانوا يتدافعون إلى المستشفى كل لحظة، خطّت بالرصاص والحبر اسكتشات لأجساد ملقاة على الأسرّة، عبر خطوط مجرّدة للقدمين مع عكاز، أو لوجوه المصابين. بعض الخطوط تصل إلى التجريد والتكسّر، متخذة أشكال الأجساد المريضة. خطوط أخرى لا تكاد ترى، لكن الرأفة هي كل ما يسمع منها. الخارج عنيف بطريقته ومستوياته، لكنه لم يكن إلا محيطاً آخر فرض نفسه على مانوكيان: الرصاص، القنابل، الدمار… احتوت لوحتها كل ذلك في بقع لونية فاقعة، وشوارع صفراء مصابة بالمرض. واقعية مانوكيان في لوحات الحرب، حملت عناصر وتعبيرات مختلفة، عبر مقترحات بصريّة وحركيّة وتأليف غني ومقسّم ومتضارب، بين حضور الحجر والناس. لم تتخلّ عن حضور البشري كأطياف لضحايا، ولجلادين بهيئة ملائكة، ولصور الزعماء. التيه هو سمتهم الأساسية. يعبرون ويطوفون ويسيرون بالمقلوب ويتخبّطون بجسد المدينة. وجوه حفظتها ورأتها مراراً في ساحة البرج، والحمرا، وفي الأحياء... كانت تلتقط حركات أجسادهم في الطريق، حيث يتلفتون إلى الوراء بحذر بعد انفجار عبوة أو قبلها. القلق واحد، وسيتا قبضت على حركته في بطن المدينة. رسمت أقاربها في يوم الأحد، والأعياد الدموية التي تصبح فيها الأبنية كتلاً متشظّية تنتقل إلى لحم الأجسام، والأبيض... صار تعبيراً عن خوف بارد.
وراء المشهد المديني، هناك غرفة سريّة تخبئ لوحات خافتة اختبرت فيها العلاقة مع الفضاء


مع ذلك، ظلّت ترسم بيروت، ولم يكن ذلك خياراً. ستتأكّد من ذلك حين هاجرت إلى لوس أنجليس نهائياً. حين مزّقت لوحات المكان والمساحات الأميركية التي أنجزتها هناك. أرادت أن تتخلص من قساوتها. هكذا أكملت انشغالاتها الجوّانية في مجموعة أشكال T خلال التسعينيات. اتخذت هذه المجموعة رموزاً لحركيتين متضاربتين بين جسد أفقي وآخر عمودي يقف متصلباً في الوسط، وأحياناً تجسيدين للشخص نفسه منقلباً كمن يعوم ويطفو فوق نفسه، أو فوق دائرة مختصرة تهمّ بابتلاعه. هل شفيت من بيروت تماماً؟ حلمت ذات مرّة بأحصنة سباق الخيل التي هربت إلى المطار والتقطها المصوّر اللبناني جورج سمرجيان، فوضعت حصاناً في غاليري «شيري فرمكين» في لوس أنجليس. شكّل «حصان داخل الغاليري» جزءاً من عمل أدائي من ثلاثة أجزاء خلال مرحلة التسعينيات التجريبية لدى الفنانة. في الفترة نفسها، استخدمت مواد عضوية كالحليب والدم، والخبز في تجهيزاتها كتمثيلات أخرى للحضور البشري. عام 2005 انقطعت كليّاً عن الرسم، وتفرّغت للتأمّل لحوالى ثماني ساعات يوميّاً. أخذ التأمّل مكان الرسم طوال 11 سنة تنقلت فيها بين الهند وسيريلانكا والنيبال ولوس أنجليس إلى أن عادت عام 2016. كيف أثّرت هذه التجربة على اللوحة؟ الآن صارت تكتفي بضربات ولطخات كثيفة وسريعة. ثمة متسع أكبر للفراغ: وردة بوذا منتصف البياض. بلغت مانوكيان ما سعت إليه دائماً. طريقها صارت أقصر إلى الداخل. تخبرنا أن الرسم لم يعد يتجاوز الدقائق القليلة وحتى الدقيقة الواحدة أحياناً، بعدما كان يتطلّب الأمر شهراً في السابق لإنهاء لوحة.



سيرة بصرية ولغوية
يقدّم كتاب Seta Manoukian: Painting in Levitation سيرة سيتا مانوكيان بصرياً ولغويّاً. المؤلّف الشامل جاء نتيجة تعاون بين مجموعة «سرادار» و«دار كاف»، ستصدر عنه في المستقبل كتب متتالية لسير الفنانين ممن تملك «سرادار» أعمالهم. البداية كانت مع الفنانة اللبنانية التي تتوزّع لوحاتها بين مجموعات خاصّة في الأردن ولبنان وأميركا وبلدان أخرى. قبل ثلاثة أعوام من طباعة الكتاب في بلجيكا، خاضت شقيقة الفنانة المصوّرة ألين مانوكيان رحلة طويلة في تجميع المواد البصرية واللوحات والمواد المكتوبة عن سيتا. تشبه ألين رحلة العمل كتحرّ عن لوحات لم يعد يعرف أين تقبع اليوم، خصوصاً أن هناك جزءاً ضائعاً منها، بعدما كانت سيتا قد وزّعت أعمالها في السابق. باللغتين العربية والإنكليزية، يتضمّن الكتاب مقالة وافرة تتبع حياتها الشخصية والفنية كتبها المؤرخ والأكاديمي غريغوري يجاقجيان، بالإضافة إلى مقابلة أجرتها معها الباحثة اللبنانية كريستين خوري في لوس أنجلس. هناك أيضاً تسلسل كرونولوجي لفترات من حياة سيتا، أنجزتها ووثّقتها بالتفصيل ألين مانوكيان. أما الثروة الحقيقية، فهي اللوحات والنتاج الفني الشامل الذي يعرّفنا إلى مراحل مختلفة من تجربة الفنانة تمتدّ على خمسة عقود تقريباً، لا سيما البدايات في الغرف والمرحلة البيضاء في الستينيات، وصولاً إلى الواقعية في رسم الحرب والمدينة وناسها خلال السبعينيات والثمانينيات، وفترة أشكال الـ T لدى انتقالها إلى أميركا، ثم مرحلة التجريد المكثف، ودخول العناصر العضوية والطبيعية إلى أعمالها كالدم والحليب، والورد والحجارة والخبز... فضلاً عن تجهيزاتها الفنية والأدائية التي تزامنت مع إقامتها في أميركا.