«كيف يمكن في عصرٍ يدّعي الاهتمام إلى هذه الدرجة بسعادة الفرد، كهدفٍ أسمى لحياته، أن تصل فيه نسبة اضطرابات القلق والاكتئاب إلى هذه النسبة؟». (سلافوي جيجك)

أخيراً سيفعلانها. تشهد تورونتو اليوم مناظرة طال انتظارها والمطالبة بها، بين الفيلسوف السلوفيني الشهير سلافوي جيجك، وعالم النفس الكندي جوردن بيترسون بعنوان «السعادة رأسمالية أو ماركسية؟». في الأيام الماضية، وصلت قيمة البطاقات المتبقية لحضور المناظرة إلى 1500$، بعد أشهُرٍ من الجدل بين الطرفين حول قضايا معاصرة مثل «الصوابية السياسية» Political correctness والحراكات المتصلة بها، إضافةً إلى ما يُسمّى بـ«الماركسية الثقافية».
في شباط (فبراير) 2018، اتّهم جيجك بيترسون، بتبنّي نظريات «زائفة علمياً» pseudoscientific واصفاً إياه بـ«عدوه»، ما دفع بالأخير إلى دعوته عبر «تويتر» (معتقداً أنه يتوجّه إلى جيجك في حين أنه كان يتحدث مع حساب تابع لمعجبيه، إذ إن جيجك غير موجود على السوشل ميديا)، إلى مناظرة لتبيان ما هي هذه النظريات الزائفة.

الحدث المرتقب اليوم يأتي بين «نجمين» في الميديا، معروفين بإثارتهما الجدل ومقدرتهما على المشاغبة والاستفزاز

وفيما تحمّس معجبو الطرفين، اللذين ينالان شعبية كبيرة خصوصاً في أوساط الشباب، لحدوث هذه المناظرة، تأخّر انعقادها أكثر من سنة حين أعلن جيجك قبوله مواجهة من المتوقع أن تكون تاريخية. بعضهم يعتقد أن الحدث سيكون بأهمية مناظرة فوكو وتشومسكي عام 1971 عن «الطبيعة البشرية» التي اعتُبرت آنذاك مناظرة العصر، ولا تزال أحد أبرز الحوارات الفلسفية المصوّرة في التاريخ على الرغم من صعوبة التواصل بين الفيلسوفَين آنذاك بسبب اختلاف اللغة والهوة النظرية بينهما.
لكن يمكن التقليل من توقّع التشابه بين الحدثين، أولاً لأن حوار فوكو وتشومسكي كان حقيقياً اتّسم بالهدوء في زمنٍ مختلف. أما الحدث المرتقب اليوم، فهو يأتي بين «نجمين» في الميديا، معروفين بإثارتهما الجدل ومقدرتهما على المشاغبة والاستفزاز وإن كان كلٌّ يأتي من خلفية مختلفة، وفي زمنٍ يمكن القول إنه يبدّي إلى حدّ بعيد «الإثارة» على «الحقيقة». ومع أن «نجومية» جيجك ظلمت إلى حدٍّ بعيد قيمته الفلسفية الحقيقية، إلا أنها جعلته باعتراف وسائل إعلامية كبرى وجامعات غربية «أشهر فيلسوف حيّ على الإطلاق». أما بيترسون، فقد سطع نجمه في السنوات الثلاث الأخيرة بعد إطلاقه مواقف إشكالية ارتبطت خصوصاً بحراك Me too لمكافحة التحرش وبالنسوية وحراك العابرين جنسياً في كندا على وجه التحديد، ما جعله أحد أبرز الرموز الفكرية لمؤيّدي اليمين المتطرف في الغرب، على الرغم من أنه لا يعلن صراحةً انتماءه إلى هذا التيار.

خلفية السجال
خلال السنة الماضية، نشب سجالٌ بين جيجك وبيترسون بعد انتقاد الأول له في صحيفة «الاندبندنت»، في مقالٍ عرض فيه أسباب تنامي شعبية عالم النفس الكندي. رأى جيجك آنذاك أن ذلك عائدٌ بالدرجة الأولى إلى كون «بيت اليسار» غير منظّم: «أصبح بيترسون محبوباً من قبل اليمين المتطرف في دليل على أن الغالبية الصامتة الليبرالية المحافظة أخيراً وجدت صوتها». يرى جيجك أن بيترسون يستند غالباً إلى نظريات غير متحقق منها، وذات تركيب متّسم بالبارانويا يستخدمه لتأويل ما يراه «وقائع». سرد جيجك في حينه مجموعة من مقولات بيترسون مثل أن «المتطرفات النسويات لا يتكلمن عن انتهاك حقوق الإنسان في السعودية، لأن لا وعيهنّ يتمنى الهيمنة الذكورية الوحشية»، وأن «اعتبار الجندر تركيباً اجتماعياً (social construct) هو سيّئ مثل ادّعاء أن الأرض مسطحة»، وغيرهما من النظريات الجاهزة لدى بيترسون الذي يجيد تقديم حججه كحقائق مطلقة، بوجهٍ حيادي صارم، وصوتٍ بارد قادر على استفزاز الخصم أو المحاور.
استعر السجال بين الطرفين بعد بروز Me too الذي رآه بيترسون مع الحركات المتصلة به، من النسوية إلى نشاط مجتمع الميم (LGBTQ+) كنتائج أخيرة لـ«الماركسية الثقافية» وعزمها على «تدمير الغرب». لكن المثير في نقاشٍ كهذا، هو أن جيجك بالطبع لا يحاجج بيترسون من موقع ليبرالي مرتبط بمؤيدي «الصوابية السياسية»، وهم الضحايا الأُوَل لنقد بيترسون ومقارباته المؤامراتية للقضايا الاجتماعية والسياسية الراهنة التي يتبنونها؛ إنما من موقعٍ ماركسي نقديّ بشكلٍ لاذع لسياسات ما يسميه بـ«اليسار الليبرالي». انتقد جيجك طروحات بيترسون، محبوب الشعبويين حالياً، مصوّباً في الوقت نفسه سهامه على الليبراليين.
بيترسون استحال أحد أبرز الرموز الفكرية لمؤيدي اليمين المتطرف في الغرب، رغم أنه لا يعلن صراحةً انتماءه إلى هذا التيار


بالنسبة إلى جيجك، إن الشعبويين و«ليبراليي الصوابية السياسية» على السواء يلجؤون إلى الأكاذيب حتى يخدموا سردياتهما الخاصة. الشعبويون المعادون للهجرة يروّجون بلا حياء لقصص غير متحقّق منها حول الاغتصابات وجرائم أخرى منسوبة للاجئين بغرض إعطاء المصداقية لوجهة نظرهم عن كون هؤلاء يمثلون تهديداً لطريقتهم في الحياة. في حين أن الآخرين، المدافعين بشكل مطلق عن المهاجرين، يمرّون بصمت على الفروقات الواقعية بين طرق حياة اللاجئين والأوروبيين، إذ إن ذكرها قد يُعتبر ترويجاً للأورومركزية. الكذب الشعبوي برأي جيجك يغذي سردية «العدو الخارجي». أما «الكذب الليبرالي»، فيُستخدم لإعادة تأكيد تفوق الليبراليين الأخلاقي وبذلك تجنب التغيير الاجتماعي الحقيقي.

من هو بيترسون؟
في أيلول (سبتمبر) 2016، عبّر بيترسون الذي يدرس علم النفس في جامعة تورونتو، عبر قناته على «يوتيوب»، عن قلقه من إقرار قانون التجريم ضد التمييز على أساس الهوية الجندرية، زاعماً أن القانون يجرّم من لا يستخدم ضمائر محايدة جندرياً بدلاً من «هو» و«هي»، معتبراً ذلك انتهاكاً لحرية التعبير. وفي مقابلة معه في نيسان (أبريل) 2018، شكّك بيترسون في العلوم التي خلُصت إلى حقيقة التغير المناخي: «معظم مزاعم الاحتباس الحراري هي قناع لمُعادي الرأسمالية، لتكون لديهم حجة ضد البطريركية الغربية. أرى أن التغير المناخي هو قضية خلافية، لكونك لا يمكنك أن تثق باللاعبين. يمكنك فقط أن تثق بالمعلومات، لأن هناك الكثير من الأيديولوجيا المتدخلة (في هذا الموضوع)».
يمكن القول إن بيترسون، بحججه التي تغلُب عليها دائماً نظريات المؤامرة، وبأنصاف الحقائق التي يقدّمها بثقةٍ مطلقة، أصبح رمزاً حياً لما بات يُعرف بزمن «ما بعد الحقيقة»، بكل ما يتضمنه من شعبوية وطغيان للمشاعر على الوقائع. مع ذلك، أصبح الرجل الخمسيني نجماً في السنوات القليلة الأخيرة، وهو ما يفسّره تنامي شعبية الحركات اليمينية والشعبوية في دول غربية عدة في هذه الفترة، وحاجتها الدائمة إلى رموز ثقافية ومنظّرين.
في التسعينيات بدأ بيترسون، الذي يتخذ من كارل يونغ مرجعاً لعمله ولا سيما نظريته عن «اللاوعي الجمعي»، يحظى بشعبية في جامعة تورونتو. كتابه الأشهر «12 قاعدة للحياة: علاجُ الفوضى»، أصبح الأكثر مبيعاً في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفي كندا وأستراليا وغيرها، كما استطاع بيترسون جمع أكثر من مليون متابع على «تويتر». في الفيديو الذي قفز بشهرته إلى مستويات جديدة، في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، كان بيترسون يتناقش مع حفنة من الطلاب عابري الجنس حول تغيير الضمائر الجندرية. الفيديو حاز آنذاك ثلاثة ملايين مشاهدة وأكثر من 45 ألف تعليق.
يعلّق بيترسون في منزله في وسط تورونتو لوحات سوفياتية. لديه أكثر من مئتي لوحة، واحدة للينين متوجهاً إلى الشعب، وأخرى لجنود روس خلال الحرب العالمية الثانية. اشترى بيترسون هذه اللوحات في أوائل الألفية عبر موقع ebay، في خطوةٍ رأى فيها مفارقة ساخرة، وهي شراء رموز شيوعية على أكثر سوق رأسمالية: «كان في ذلك لذّة أكبر من أن تتم مقاومتها»، ويقول أيضاً إنه اشتراها «لتذكير نفسه كيف أن الرؤى الأوتوبية غالباً ما تسقط في النهاية في الرعب الصامت». في تشرين الأول الماضي، ألغت جامعة كامبردج عرضها على بيترسون بأن يكون أستاذاً زائراً في كلية الإلهيات، بعد ردة فعل عدد كبير من الطلاب والأساتذة على توظيفه، كون ذلك «يتعارض مع مبادئ وقيم الجامعة».
في تعليقه على القضايا التقدمية المرتبطة بالنسوية أو بمجتمع الميم، يردّ بيترسون كل شيء غالباً إلى ما يسمى بـ«الماركسية الثقافية». استخدام ضمائر جندرية محايدة، حراك مكافحة التحرش، كل ذلك بالنسبة إلى بيترسون، له جذور تمتد إلى «ما بعد الحداثة» التي يراها «ماركسية مقنعة» وأيديولوجيا «قاتلة».

هل قلت «ماركسية ثقافية»؟
يلصق دعاة نظرية المؤامرة في الولايات المتحدة على وجه التحديد القضايا الثقافية التي يتبنّاها اليساريون والليبراليون بما يسمونه «الماركسية الثقافية». تعود جذور هذه «التهمة» إلى فلاسفة «مدرسة فرانكفورت» الذين اتهموا بنية «تدمير الغرب» و«القضاء على قيمه». رواج أفكار فلاسفتها مثل ماركوز وأدورنو وغيرهما في ستينات القرن الماضي، بلغ ذروته مع وصولهم إلى مراكز مهمة في مؤسسات ثقافية وجامعات أميركية. من تلك المراكز، يزعم منظرو المؤامرة، أن هؤلاء «روّجوا لأفكار أرادوا عبرها تدمير القيم المسيحية التقليدية مثل النسوية، التعددية الثقافية Multi-culturalism، حقوق المثليين والإلحاد»، وهذا برأيهم ما أنجب «الصوابية السياسية» في ما بعد.
لكنّ مصطلح «الماركسية الثقافية» لم ينل شهرته الحالية إلا بعد ظهوره في سياق جديد للمرة الأولى، حين استخدمه منفذ هجمات النروج الدامية سنة 2011، أندريس بريفيك. القاتل الجماعي الذي أردى 77 شخصاً في حينه، أرسل مانيفستو طويلاً تضمّن شكراً للكتّاب الذي ألقوا الضوء على الماركسية الثقافية. الوثيقة المؤلفة من ألف صفحة، أوردت إشارات إلى الماركسية الثقافية والماركسيين الثقافيين نحو 650 مرة، وأظهرت عداء بريفيك للتعددية الثقافية وتبنيه آراء عنصرية وميزوجينية.
وفي السنوات الماضية، مع تنامي انتشار مؤيدي اليمين المتطرف على المواقع الإلكترونية، أصبح مصطلح الماركسية الثقافية ماركة سهلة لدعاة التفوق الأبيض الذين يبحثون عن «وصمة» تشمل كل الأشخاص الذين يعادون مبادئهم، من النسويين إلى المثليين إلى دعاة التعددية الثقافية وغيرهم، وحتى يكفي أن تكون معارضاً لفكرة تفوق العرق الأبيض حتى تكون أحد دعاة «الماركسية الثقافية».

جيجك والسعادة
لا شك في أن شهرة جيجك التي ترتكز غالباً إلى آرائه المثيرة للجدل وقدراته الاستفزازية، تظلم براعته الفلسفية. لكنّ بابه نحو الشهرة لم يكن لهذا فقط، بل لأنه استطاع ربط الفلسفة بالسينما والأدب والثقافة الشعبية، لكونه يرى فيها مصادر مهمة لمقاربة قضايا فلسفية والدخول إلى إشكاليات أيديولوجية. فلسفته القائمة على الدمج بين المثالة الألمانية، الهيغلية تحديداً، وبين التحليل النفسي اللاكاني، لطالما اهتمت بموضوع السعادة، وازداد اهتمامه بها في السنوات الأخيرة، بعد ظهور مجال جديد في أكثر من جامعة في العالم بعنوان «دراسات السعادة» (من دون أن ننسى وزارة السعادة التي استحدثتها الإمارات قبل بضع سنوات، كما تحدث أستاذ مادة الإعلام في الجامعة الأميركية في بيروت ربيع بركات عن زيارة خبيرين الجامعة واقتراحهما استحداث برنامج لـ«دراسات السعادة»، مستلهمين التجربة الإماراتية).

كيف حلّل جيجك السعادة في المجتمعات الرأسمالية؟
تبعاً للتقسيم الفرويدي التقليدي للنفس، إن «الأنا العليا» (Super-ego) التي ظلّت تهيمن على الغرب حتى القرن التاسع عشر، كانت الصورة الأبوية الأوديبية الكلاسيكية، أي السلطة الأخلاقية التي تتسم بالمنع والنهي عن المتعة. ولكن مع إعلان نيتشه في القرن التاسع عشر «موت الإله»، بمعنى انتهاء المنظومة القيمية الأوروبية السائدة، انقلبت الآية، وأصبحنا أمام «أنا عليا» مختلفة عما كانت عليه سابقاً في ظلّ هيمنة الشكل المسيحي للأخلاق. في حينه، ظهرت سلطة الأب البدائي، الذي يمثل المتعة المتفلّتة، والتي حلّت محل السلطة في زمن «ما بعد الحداثة». صورة الأب البدائي المتفلّت يدعو الجميع إلى أن يحذوا حذوه و«يستمتعوا». اليوم، تأمر الأيديولوجيات الطاغية بـ«الاستمتاع»، أنّى أدرت وجهك في مجتمعات اليوم تجد إعلانات تدعونا إلى الاستمتاع (Enjoy!) الاستمتاع الجنسي، الاستمتاع الاستهلاكي السِلَعي، وصولاً إلى الاستمتاع الروحاني وتحقيق الذات. مكان المنع الذي كان سائداً في ظل الصورة الأبوية السابقة، يلاحظ جيجك أنّه بات هناك ضغط من قبل «الأنا العليا» لإشباع الرغبات ــ كأن هذه الطريقة الوحيدة للعثور على السعادة.

تحليل جيجك عن سعادة الرأسمالية إن جاز التعبير، وربط الاستهلاك بـ«المعنى»، يذكّر بجملة والتر بنجامين عن الرأسمالية بوصفها ديناً

بذلك، أصبح الاستمتاع بذاته، بشكل يناقض ما كان عليه سابقاً، شيئاً مفروضاً، مأموراً به، فأصبح الفرد حين يستمتع يكون منصاعاً إلى أمرٍ معيّن. لكن لماذا أصبحت «الأنا العليا» في المجتمعات الغربية تأمر بالاستمتاع عوضاً عن النهي عنه؟ ذلك عائدٌ إلى سبب أساسي برأي جيجك، هو التغيير الذي أحدثته ثورات 1968 في أوروبا. آنذاك ساوت الثقافة التي بدأت تهيمن بين الحرية والتحرير النفسي، الأخلاقي والجنسي. في ضوء ذلك، لم تعد الرغبة تدور حول موضوع/ هدف ممنوع، أو لا يمكن الحصول عليه بسبب منع «الأنا العليا». من هنا يظهر الضغط في مجتمع اليوم الرأسمالي: الضغط كي نبدو بمظهر جيد، صحي، لنبدو صغار السن، وللنساء لتكنّ نحيفات، إلى آخره. أمر «الأنا العليا» الغربية الطاغية اليوم هو أن تستهلك، تتبضع، تأكل، تمارس الجنس. منطق الأمر أنه في حال لم تكن تقوم بذلك، إذاً أنت فردٌ غير محظوظ. هذا الضغط المستمر كي نفعل أكثر، نرى أكثر، نستمتع أكثر، جعل الناس في الواقع غير سعداء البتة.
توضيحاً للفرق بين آليات السلطة الأخلاقية في الزمنين، يعطي جيجك مثالاً عن الوالد التقليدي الأوديبي القاسي الذي يأمر ابنه بزيارة جدته، عبر القول إن عليه فعل ذلك بغض النظر عن رغبة أو شعور الولد. مقابل والد ما بعد حداثي ودود، يقول لابنه «أنت تعلم كم تحبك جدتك.. ومع ذلك لا تقم بزيارتها إلا إذا كنت راغباً في ذلك». في الحالة الأولى، يمكن للأمر أن يطاع أو أن يُقاوم، ولكن في الحالة الثانية، يجب على الولد ليس فقط أن يطيع الأمر بل أن يرغب به كذلك.
واحد من أشكال الأوامر التي تصدرها السلطة الأخلاقية للرأسمالية هي «أن تكون حقيقياً مع نفسك» (Be true to yourself). هذا يظهر نفسه في رغبة «أن تفعل شيئاً من حياتك»، وأن تكون سعيداً. جيجك ينظر إلى هذه الأيديولوجيا من السعادة كنسخة غربية من البوذية مستعارة من السعي البوذي إلى السعادة. وفقاً للأيديولوجيا السائدة اليوم، إن المفتاح للوصول إلى السعادة هو تحقيق الذات مهما كانت الصعوبات (أنظر مراجعة جيجك لفيلم «لا لا لاند» على سبيل المثال). يظهر ذلك عبر الأيديولوجيا التي ظهرت في السنوات الأخيرة في الماركيتينغ، عندما أصبح الترويج لمنتج، عوضاً عن امتداح ميزاته وعناصره، يركز على «التجربة» التي ستختبرها في حال اشتريت هذا المنتج (إعلانات «كوكاكولا» و«بيبسي» خير مثال). الإعلان ما عاد يركّز على المستوى الخيالي (ميزات المنتج)، ولا على المستوى الرمزي (كيف يجعلك تبدو: الرانج روفر يجعل الرجل يبدو «ماتشو» مثلاً). بل أصبح الإعلان يروج للمعنى الذي سيعطيه لحياتك إذا استهلكته. الأمر نفسه ينطبق على القضايا التقدمية، برأي جيجك الفرد يقوم بما هو خيّر عبر شراء سلعة (تقدم جزءاً من مردودها للفقراء، أو سلعة عضوية مثلاً)، فيشعر بأنه قام بعمل أخلاقي تجاه الناس أو الطبيعة، وبالتالي يصبح هناك معنى ما لحياته.
المشكلة برأي جيجك اليوم، والتي تجعل التعاسة منتشرة أكثر بين الناس، هو تحوّل مساعي هؤلاء من التخلص من الممنوعات بغرض الاستمتاع (كما كان يجري سابقاً)، إلى كيفية التخلص من الأوامر بالاستمتاع نفسها. في فيديو قصير رائج جداً له، يشرح جيجك أنه بحسب التحليل النفسي، الناس لا يريدون أو يرغبون حقاً بالسعادة: «نحن لا نريد حقاً الحصول على ما نرغب به». يوضح قصده عبر المثال الكلاسيكي: رجلٌ متزوج ولديه عشيقة، يحلم طيلة الوقت باختفاء زوجته لسبب ما، فيتمكن من بدء حياة جديدة مع حبيبته. ولكن ما يخبرنا به كل محلل نفسي، بحسب جيجك، هو أنه في الواقع حين تختفي الزوجة، ستختفي العشيقة أيضاً. فوجود الأولى مشترط وجود الثانية، ولذلك لا معنى لبقاء الثانية بعد ذهاب الأولى. سيكتشف الرجل في تلك اللحظة أن الوضع أكثر تعقيداً وأن ما كان يريده ليس العيش مع العشيقة، ولكن بقاءها كموضوع بعيد للرغبة يحلم به فقط. هذه القصة ليست استثناءً، فعلى موضوع الرغبة أن يظل غائباً دائماً حتى نشعر بالسعادة، وهذه بالأساس نظرية لاكان.

خاتمة
تحليل جيجك عن سعادة الرأسمالية إن جاز التعبير، وربط الاستهلاك بـ«المعنى»، يذكّر قليلاً بجملة والتر بنجامين عن الرأسمالية بوصفها ديناً، حين يقول في المقال الذي يحمل العنوان نفسه ويعود لعام 1921: «في المقام الأوّل، الرأسماليّة هي دين تعبّدي محض، وقد تكون أكثر دين تعبّدي على الإطلاق»، كما يحيل هذا التحليل في الأساس على نظرية ماركس عن «فيتشية (صنمية) السلعة» في كتاب «رأس المال». قد تخرج مناظرة اليوم بخلاصات جديدة تعطي إجابات مفيدة على إشكالية السعادة من وجهة نظر ماركسية ومن وجهة نظر ليبرالية، وقد تكون مجرد مناسبة للسخرية والاستفزازت المتبادلة ولصناعة الـ«memes» كما اعتاد متابعو السجال الفعل... مع التشكيك بقدرة بيترسون على تقديم مقاربة ناجعة عن الموضوع في ظلّ افتقار خلفيته لمعالجة أكاديمية له، بخلاف جيجك. من هنا توقع بعض المعلقين أن يتحوّل الحوار بين الطرفين إلى جدل حول اليمين واليسار وسياساتهما وحول «الصوابية السياسية»، التي يتفق كلاهما، كل من منطلقاته الخاصة، على رفضها.