باريس | في استعارة من عبارة ديكارت الشهيرة «أنا أفكر، إذن أنا موجود»، يظهر في الغلاف الأمامي رسم لرجل مع كلمة «أفكر». يكتمل المشهد عندما نقلب الكتاب لنطالع نفس الرسم على الغلاف الخلفي، ولكن من دون رأس هذه المرة ومع عبارة «إذن أنا لست موجوداً». هذه الفكرة كان الفنان اللبناني قد رسمها وقت اغتيال سمير قصير في الـ 2005، وأعاد نشرها وقت أحداث «شارلي إيبدو» في الـ 2015. هكذا يقترح علينا مازن كرباج (1975) بداية حامية لكتابه الجديد Politique الصادر أخيراً في باريس عن دار «أكت سود» و«آر تيه». الفنان المقيم في برلين، حضر إلى باريس الأسبوع الماضي لإطلاق كتابه. كانت هناك أمسيتان: واحدة «شيك» في غاليري «فيفيان» وسط باريس، وأخرى في إحدى الحانات الباريسية المتواضعة. هناك اجتمع خليط من الفرنسيين، منهم الفضوليون ومنهم من يرغبون باكتشاف ما هو أكثر من أطباق المطاعم اللبنانية المنتشرة في «مدينة الأنوار».
يجمع كرباج في كتابه الجديد رسومات نُشرت في مجموعة من الصحف والمجلات ما بين عامي 2005 و2018. سيلجأ الفنان إلى إعادة تدوير الرسومات المنشورة سابقاً، ورسمها مجدداً بدون المساس بالأفكار الرئيسية، ليتشكل في المحصلة نمط ملائم متماسك يظهر كرواية. الرسومات التي نُشرت قبل ما يزيد عن عشر سنوات، لم تنتهِ صلاحيتها بعد؛ وكأنها رُسمت تعليقاً على الراهن في لبنان، ولهذا يخصّص الإهداء لأولاده: «إلى إيفان وعليا ونور، قليل من ماضيهم، وأكثر من مستقبلهم».
ما الذي تغيّر خلال العقد والنصف الماضي، يجيب كرباج: «لا شيء». ألهذا السبب أعاد نشر الرسومات الماضية؟ ربما لإثبات ذلك؟ ربما محاولة لتأريخ البلد اجتماعياً، أو حتى لتحقيق حضور وهو البعيد عن موطنه الآن؟ أو ربما كل ما ذكر، علماً بأن مقترح نشر الكتاب كان بمبادرة من الفنان لدار «أكت سود».
في Politique، تنصهر السخرية بالمرارة، الاحتجاج بالاستسلام، الضحك بالبكاء، لتشكّل حالة مسخ يصعب القبض عليه أو تصوّره. هو ليس كتاباً عن لبنان فقط، بل عن المجتمع والحياة اليومية اللبنانية التي تتقاطع فيها مواضيع الحرية، الحرب، الهجرة، البيئة، الطبقة الاجتماعية، حيث الصحافي مهدّد، مقتول أو مسجون، المثقف ميت، الحرية المرهونة بالثيوقراطية، الانتهازية المتغلغلة في المجتمع، الطائفية التي تسحق هوية الوطن، الحرب الأهلية الجاثمة على الصدور، اللاجئون السوريون والإذلال، عبودية الخادمات السيرلانكيات، مجتمع الأشرفية، الكره المبطن، عدوان تموز، الحرب على غزة... في هذا الواقع المعقّد، ليست الشخصيات السياسية هي المُلامة كما اعتدنا دائماً عند مطالعة النقد الاجتماعي سواء في الكاريكاتور أو المقال أو الأدب في عالمنا العربي. بل إنّ اللائمة تقع على أفراد المجتمع: العسكري البسيط، سائق التاكسي، الأفراد العاديون من فقراء وطبقة متوسطة وبورجوازيين ومثقفين. بهذا يصبح السياسي أو رجل الدين أو المسؤول تفصيلاً مكملاً إن لم نقل ثانوياً حتى. ولأن كرباج هو فرد من هذا العالم «المثير للاشمئزاز»، فهو لا ينظر بفوقية؛ بل يعترف بأنه فرد من هذا السيرك أو هذه المعمعة المشبعة بالإحباط واليأس والاحتقار. لا تنظير ولا فلسفة بل يلجأ أحياناً إلى إقحام ذاته، يسخر من الآخرين ومن نفسه.
كتاب عن المجتمع اللبناني تتقاطع فيه مواضيع الحرية، والحرب، الهجرة، والسياسة والبيئة، والطبقة الاجتماعية

في إحدى الرسومات المعنونة «مثقفون لبنانيون» التي تحتلّ صفحة كاملة مقسومة إلى نصفين، يرسم كرباج نفسه في النصف الأول المعنون «في باريس» حيث يجلس في أحد المقاهي، يدخن ويشرب الإسبرسو، مع عبارة تخرج من فمه: «أعتقد أن الوقت حان كي يستيقظ المثقف اللبناني»، لننظر بعدها إلى النصف الثاني المعنون «في بيروت» ونعثر على شاهدة قبر محاط بالسواد كتب عليه «ارقد بسلام». هي محاولة صريحة للنظر إلى مرآة ينعكس فيها السواد، في هذا السواد الكثيف تنتفي صفة الضحك؛ لتتحول هذه الشرائط أو هذا الكتاب إلى بكائية باردة مغلّفة بورقة هدايا.
يأخذ الكتاب إيقاعاً آخر في الجزء الأخير منه، الذي خصصه الفنان للحديث عن يومياته ويوميات المهاجر في برلين. هذا القسم تحديداً يخفف وطأة ما سبقه؛ حيث تتقلص القضايا الكبرى، لتنحو الشرائط منحى الحياة اليومية المتعلقة بالتفاصيل الصغيرة، والطقس في المهجر، والحنين إلى الطعام، واللغة، وزيارات الوطن الخاطفة، وهي الشرائط الأكثر حداثة في الكتابة، إذ رسمها الفنان بعد خروجه من لبنان.
ماذا بعد كل ذلك؟ كرباج الذي كان حصل قبل ثلاث سنوات على إقامة فنية في برلين لمدة سنة، كانت المنحة بمثابة فرصة له للخروج من الواقع الذي لطالما رُسم عنه، ليقرر العمل على الاستقرار مع عائلته هناك. في الصفحة الأخيرة من الكتاب، يرسم نفسه قائلاً: «بخروجي من لبنان، فقدت حق وصفي له بالبلد المقرف». ربما لهذا السبب يحاول ابن المسرحي أنطوان كرباج (1935) خوض غمار المسرح الآن، في تجربة جديدة تجمعه بالفنان البصري والمسرحي ربيع مروة، على أن تعرض خلال العام الحالي.